عمر خضر يكتب: الفقر المناطقي في مصر.. دراسة في أسباب تعثر الجهود الحكومية في معالجة الفقر بالمحافظات الريفية



أعلنت الحكومة المصرية في مطلع يناير الماضي عن إنشاء مجمع للصناعات الصغيرة والمتوسطة بمحافظة سوهاج غرب جرجا جنوب المحافظة، وتضاربت الأخبار عن تكلفة المشروع بين ثمانمئة وخمسين مليون جنيه إلى مليار جنيه. ويهدف المشروع بحسب المسؤولين إلى توفير فرص عمل بعشرات الآلاف لشباب المحافظة وتوفير فرص للاستثمار.
ويأتي إنشاء المجمع الصناعي المذكور ضمن مبادرة رئيس الجمهورية لإنشاء مجمعات صناعية بثلاثة عشر منطقة على مستوى الجمهورية.
جدير بالذكر أن المشروع لم يكن الأول من نوعه، فبحسب موقع خريطة مشروعات مصر، قامت الحكومة بإنشاء أربعة مشاريع صناعية بالمحافظة، منها مصانع حي الكوثر ومصنع يونيفيرسال لصناعة الكارتون وغيرها.
وعلى الرغم من زيادة الناتج المحلي الإجمالي لمحافظة سوهاج بحسب البيانات التي تنشرها وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية من حوالي 56.8 مليار جنيه بالعام المالي 2016/2017 إلى حوالي 107.8 مليار جنيه بالعام المالي 2020/2021 وهي زيادة تقترب إلى الضعف، إلا أن انخفاض الجنيه بمقدار النصف يأكل هذه الزيادة لتصبح بلا معنى حقيقي، إن لم تكن النتيجة سلبية إذا ما تم أخذ الزيادة السكانية في الاعتبار.
كما أن مساهمة قطاع الصناعات التحويلية ما زال في حدود الخمسة ونصف بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للمحافظة منذ 2016 حتى الآن.
وهنا يأتي السؤال، لماذا لا تأتي تلك الخطوات بأكلها رغم ضخامة التكلفة؟ فمصنع الأسمنت وحده الذي تم إنشاؤه بديسمبر/كانون الأول من عام 2021 تتجاوز تكلفته الخمسة ونصف مليارات جنيه بحسب موقع خريطة المشروعات!

في البداية يجدر القول أن اتجاه الحكومة لإنشاء مثل تلك المشاريع لم يأتي عبثا، فبحسب مجلة التعداد السكاني العالمي ” worldpopulationreview.com “ تعتبر البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد الأقل من 1046 دولار ضمن الدول الفقيرة، وعلى الرغم من كون مصر نفسها بعيدة كل البعد عن هذا الرقم، إلا أن الثروة في مصر غير مقسمة بشكل مناطقي كما ينبغي، فبينما يتجاوز الناتج المحلي للفرد الواحد بمحافظتي القاهرة والسويس ستة آلاف، وخمسة آلاف دولار على التوالي.
(على اعتبار أن دولارا واحدا يساوي 30 جنيه، رغم ثباته عند مستويات أقل من ذلك في تلك الفترة، إلا أنها لم تكن القيمة الحقيقية كما ظهر ذلك بشكل واضح بعد التعويم الأخير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي).
إلا أن محافظات أخرى كبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، يأتي الناتج المحلي للفرد الواحد بها أقل من حوالي 850 دولار مما يعكس ارتفاع نسب الفقر بهذه المحافظات، ربما بنسبة أكبر مما توضحه الأرقام إذا ما تم أخذ مؤشر عدم المساواة GNI بالحسبان.
إذن بحسب المذكور، اتجاه الحكومة للاستثمار بتلك المناطق يبدو منطقيا للغاية، لكن فشل تلك الاستثمارات في تحقيق الهدف المرجو منها يتطلب إعادة تفكير في المسار المتبع. فعلى ما يبدو لا تتلخص أزمة الدولة المصرية في تفضيل المشاريع الانشائية على الصناعية كما يتم تداوله حاليا بشكل مكثف بوسائل الإعلام المحلية والدولية بل والتي تنتمي بعضها للحكومة نفسها، بل في طريقة إدارة المشاريع بشكل عام سواء كانت صناعية أم إنشائية أم غيرها.

وبهذا الصدد تتناول الدراسة أربعة محاور رئيسية وضرورية للتنمية المستدامة وجلب الاستثمارات سواء محلية أم خارجية:

التعليم:

يعتبر محور التعليم أحد أهم المحاور التي تؤدي حتما إلى زيادة النمو، وقد وجهت اتهامات كثيرة للحكومة بعدم الاستثمار بشكل كاف في التعليم. لكن هذا الاتهام في حد ذاته يتناقض بشكل كبير مع اتهام ذات الحكومة بالحصول على قروض متتالية لتمويل عجز الموازنة. فمن السهل توجيه الاتهامات دون النظر إلى حقيقة أن مصر تواجه عجز كبير في الموازنة حتى أن أقساط الدين الحكومي تجاوزت الخمسين بالمئة من إجمالي الإنفاق.
لذا من الأفضل الابتعاد عن مجرد النقد الهدام لنقص الأموال التي يتم إنفاقها على التعليم، إلى كيفية إنفاق هذه الأموال.
والأمر هنا لا يرتبط فقط بالمحافظات الفقيرة، بل بمصر بشكل عام، لكن نظرة إلى محافظة سوهاج الفقيرة قد يساعد في إدراك الوضع الحالي.
فجامعة سوهاج التي يدرس بها حوالي أربعة وأربعين ألف طالب وطالبة، تحتوي على ثمانية عشر كلية مختلفة منها كليات التجارة والتمريض والزراعة والتعليم الصناعي والهندسة والتربية الرياضية وغيرهم.
كلية التربية الرياضية على سبيل المثال، تقوم بتخريج حوالي تسعمئة إلى ألف مربي رياضي سنويا، بينما يتخرج حوالي عشرة آلاف محاسب من كلية التجارة بقسميها انتساب وانتظام من ذات الجامعة وحوالي سبعمئة طالبة وطالبة من كلية الزراعة.
وهنا يجب أن نتساءل، عن استيعاب سوق العمل بالمحافظة لهذه الأعداد الضخمة من الخريجين، لاسيما هؤلاء المتخصصين بمجالات لا يبدو أن المحافظة تذخر بها. فكم نادي يوجد بالمحافظة لاستيعاب ألف مدرب رياضي سنويا؟ وكم مؤسسة مالية أو نقدية يمكنها أن تستوعب عشرة آلاف محاسب أو مدقق بشكل سنوي بمحافظة سوهاج التي بالكاد تتجاوز قيمة إنتاج المشاريع المالية بها اثنين مليار جنيه سنويا بحسب بيانات وزارة التخطيط.
وفي ذات الوقت الذي يبلغ عدد المحاسبين الخريجين من الجامعة عشرة أضعاف عدد خريجي كلية الزراعة بأقسامها المختلفة، يأتي قطاع الزراعة في مقدمة القطاعات المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتجاوز العشرين بالمئة، في مقابل اثنين بالمئة فقط للمشاريع المالية.

مما سبق يبدو جليا أن محور التعليم بشكل عام لا يرتبط بشكل مباشر بسوق العمل، فعلى ما يبدو قامت الدولة بالتخطيط للتعليم بمعزل عن السوق. المنطقي أن سوق العمل يأتي أولا ثم يأتي التعليم كأحد الروافد التي يساهم خريجيها في سوق العمل الموجود أصلا سواء بالتنمية أو التطوير أو غيرهم.
والنتيجة الحتمية لمثل هذا التخبط هو مزيد من البطالة لشباب الخريجين، وضياع أموال دافعي الضرائب لتأهيل مجموعة بشرية لوظيفة لن يقوموا أبدا بممارستها، بالإضافة إلى زيادة معدل هجرة الخريجين إلى خارج المحافظة للحصول على فرص أفضل، أو فرص أصلا، مما يفاقم أزمة السكان والازدحام القائمة بالقاهرة أساسا.

معالجة مسألة بهذه الخطورة ليس بالأمر السهل على الإطلاق، ففي ظل مجانية التعليم وارتباط بعض الكليات بالترقي الطبقي في الخيال الشعبي للسكان، يصبح من الصعب أن تقوم الحكومة بتقليص عدد الملتحقين بإحدى الكليات مثلا على الرغم من حصول الخريجين على درجات مناسبة بالمرحلة الثانوية، مما قد يؤدي إلى سخط شعبي حقيقي، وهذا ما لا ينقص الحكومة.
إلا أن تجاهل الحكومة للأمر تماما، وعدم محاولة إيجاد حلول بديلة، بل والاستمرار في ذات السياسات، لن يؤدي حتما إلا إلى تفاقم الأمر أو بقائه على ما هو عليه في أحسن الأحوال.

التخطيط العمراني:

رحلة بسيطة إلى خارج محافظة القاهرة سواء بالاتجاه نحو الدلتا بالشمال، أو الصعيد بالجنوب، قد تكفي لتكوين نظرة عامة حول كيفية التخطيط العمراني الذي تتبعه الجمهورية المصرية منذ سنوات عديدة.
فالجمهورية بشكل عام تنقسم إلى عدد من المحافظات التي بدورها تنقسم إلى مجموعة من المراكز التي يتبعها عددا من القرى بدورها.
بالطبع تتركز الزراعة بالقرى، بينما تكون المراكز مجرد مجمعات سكنية بها مجموعة من الخدمات كمركز للشرطة، ومستشفى ومركز للتسوق وغيرها. وكما هو متوقع، تختلف مستوى تلك الخدمات المقدمة بحسب المركز، لكنها غالبا ما تتفوق على مثيلاتها المقدمة في القرى التابعة للمركز نفسه.
هذه التركيبة العمرانية، تؤدي حتما إلى نتيجة واحدة فقط، فمن الطبيعي أن يتمنى كل سكان القرى أن ينتقلوا بالسكن إلى المركز، ما يمنعهم فقط هي المسافة التي تبعد بين الأراضي الزراعية التي يعملون بها وبين المركز، بالإضافة إلى ارتفاع سعر المتر المربع السكني بالمركز نسبيا بالمقارنة إلى دخولهم الضئيلة.
لهذا، ليس من العجيب، أن يقوم سكان القرى بالانتقال للمركز مباشرة في حالة حصولهم على أموال من مصدر آخر، كالتحاق أحد أفراد الأسرة بوظيفة غير زراعية بالمركز أو المحافظة أو القاهرة، أو حتى بالهجرة خارج أراضي الجمهورية.
المركز في حد ذاته، لا يقوم بالمشاركة في الإنتاج الحقيقي كما هو مرجو، فبينما يقوم سكان القرى بالإنتاج الزراعي، يتركز نشاط سكان المركز بالتجارة على الأغلب والتي تعتمد بشكل أساسي على استيراد المنتجات من خارج المركز.
ونظرا لتراكم السكان بالمراكز على مدار السنوات، اعتمد جزء لا يستهان به من سكانها على إعالة الحكومة لهم عبر إلحاقهم بوظائف بالهيئات المحلية، كما تزداد نسبة البطالة بينهم حتى تصبح ضرورة هجرتهم إلى خارج المركز، أو خارج المحافظة أمر حتمي.
الحكومة التي من المفترض أنها على دراية جيدة بمثل هذا الأمر، قامت بمجموعة من الاستثمارات لحل الأزمة.
محافظة قنا على سبيل المثال، والتي تتجاوز نسبة السكان تحت خط الفقر بها أربعين بالمئة بحسب البيان المشترك الذي أعلنته وزارة التخطيط والتنمية المستدامة بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان. قامت الحكومة بالاستثمار بعدد من المشاريع الإنشائية بالمحافظة على مدار السنوات السبع الماضية.
منها على سبيل المثال لا الحصر، مشروع المجمع العمراني الجديد بأرض تقسيم السلام، والذي بدأ العمل به في مايو/أيار 2022 بتكلفة تتجاوز خمسة مليارات جنيه. والمشروع بحسب موقع خريطة مشروعات مصر، يحتوي على تسعة وتسعين عمارة سكنية، بالإضافة إلى مركزي تسوق وطرق داخلية ومخابز وغيرها.
وكانت الحكومة قد شنت حملة على المخالفين لقانون البناء بقرى محافظات مصر المختلفة والمعتدين على الأراضي الزراعية، وهو ما حذر منه رئيس الجمهورية بنفسه في عدة مواضع.

قنا المحافظة الزراعية التي تبلغ مساهمة قطاع الزراعة بها عشرون بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب بيانات وزارة التخطيط، تقوم الحكومة بالتمدد العمراني بها بمعزل تام عن هذه الحقيقة.
فبدلا من تمدد القرى بشكل أفقي، حيث تحتوي على أراض زراعية بجانب مبان سكنية يعمل قاطنوها بالأراضي، فيكسبوا قوت يومهم ويسددوا منه ضرائب تستثمرها الحكومة في إصلاح البنية التحتية للقرى بعد تمددها كما ينبغي. قامت الحكومة باستثمار ضرائب فلاحي القرى لبناء مجمعات عمرانية بمليارات الجنيهات بعيدة كل البعد عن الأراضي الزراعية التي من المفترض أن يعمل بها أولئك الفلاحين.
النتيجة أن السكان الذين يقطنون أصلا بمراكز المحافظة لا قراها، سينتقلون أو يستثمرون بالمجمعات العمرانية الجديدة، نظرا لارتباطهم بمحافظة قنا نفسها لا بأراضيها الزراعية.
أما الفلاحين فستظل أزمتهم كما هي، وستستمر محاولاتهم في التعدي على الأراضي الزراعية كي يؤمنوا سكنا مناسبا لهم ولذويهم بجانب عملهم.

التمويل والضرائب:

يعتمد رجال الأعمال على مجموعة من الحسابات المعقدة قبل اتخاذ قرار الاستثمار في مشروع معين، فالاستثمار المالي في الشهادات أو السندات غالبا ما يبدو أكثر أمانا من الاستثمار في مشروعات قد لا تحقق ذات الأرباح أو الفوائد التي تقدمها البنوك أو الحكومات أو الجهة المصدرة للأوراق المالية بشكل عام ناهيك عن المخاطرة برأس المال نفسه. لهذا يجب أن يكون المشروع، نظريا على الأقل، يحقق فوائد أعلى بكثير من الاستثمار المالي كي يستحق المجازفة.
ربما لهذا يرتبط الركود أو التباطؤ الاقتصادي بزيادة نسبة الفائدة، إلا أن النظام المالي العالمي بمؤسساته الدولية المختلفة أجمع على أولوية محاربة معدلات التضخم المرتفعة.
ومصر التي تعمل مع صندوق النقد الدولي في إدارة بعض ملفاتها الاقتصادية ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي اقترحه الصندوق وبدأ العمل به، على حد تعبير الصندوق، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2016، ليست استثناء.
فبعد تعويم الجنيه لتنخفض قيمته من حوالي ثمانية جنيهات مقابل الدولار إلى ما يزيد عن تسعة عشر جنيهات للدولار الواحد عقب التعويم -تلاه ارتفاع بطيء للجنيه أمام الدولار حتى وصل إلى حوالي خمسة عشر جنيهات ونصف للدولار- تعرضت فيها البلاد لموجة غير مسبوقة من التضخم، وبالتالي قام المركزي المصري بزيادة الفائدة وأطلق بعض الشهادات الخاصة والتي وصل بعضها إلى معدلات فائدة تتجاوز ثمانية عشر بالمئة بين يوليو/تموز 2017 وفبراير/شباط 2018.
على الرغم من ذلك، قام البنك المركزي المصري خلال الفترة من 2017 إلى 2022 بإطلاق عدة مبادرات لدعم برامج الإقراض للقطاع الصناعي والزراعي، ففي حين كان متوسط الفائدة على الإقراض ستة عشر بالمئة، بلغت الفائدة على قروض القطاعين حوالي ثمانية بالمئة فقط.
برغم معاناة القطاع البنكي جراء هذه المبادرات، إلا أن الخطة لم تنجح على ما يبدو، لا سيما في المناطق الفقيرة كما تم استعراض الأرقام الدالة على ذلك من قبل.

لا يمكن تفسير هذا من خلال النظر إلى أرقام الفوائد فقط، بل لابد من محاولة تخيل ما يمكن أن يحدث على أرض الواقع في حالة محاولة أحد المستثمرين استغلال هذه المبادرات للعمل على أرض الواقع.
بداية تجدر الإشارة إلى أن الاستثمار الصناعي بمحافظات فقيرة للغاية لا يكاد يمتلك أهلها قوت يومهم، يعني أن منتجات هذا الاستثمار لا بد من توجيهها للسوق الخارجي -خارج المحافظة وليس بالضروري خارج البلاد- نظرا لأن السكان المحليين أنفسهم لا يمتلكون أموالا تكفي لشراء منتجات صناعية.
وبالتالي فإن المنتج سينافس منتجات خارجية، صنعت في ظروف أفضل، ورغم انخفاض أجور العاملين بمصانع المناطق الفقيرة، إلا أن هذا لا يعوض بالضرورة باقي أشكال التكلفة كافتقاد العمالة المدربة وارتفاع تكلفة النقل بسبب ضعف البنية التحتية وغيرها.
الاستثمار في القطاع الزراعي، على عكس ما سبق، بمحافظات فقيرة كقنا وسوهاج والمنيا وأسيوط، يبدو منطقيا حيث تتوفر العمالة المدربة على الزراعة بالأساس، وربما في حالة نمو هذا القطاع بما يكفي، يمكن أن يخلق طلبا كافيا لمنتجات صناعية، تقوم مصانع على أرض المحافظة خصيصا لتلبيتها.
المعضلة الحقيقية هنا، أن الاستثمار الزراعي غير مجدي على نطاق صغير، والاستثمار على نطاق كبير نسبيا يعني أن المستثمر عليه أن يمتلك أرضا جديدة ويقوم بتهيئتها للإنتاج، بمعنى أننا بصدد الحديث عما يشبه الاستثمار بالبنية التحتية هنا.

ووفقا لتقرير ممارسة الأعمال لعام 2018، تقف مصر عند الترتيب 119 من بين الاقتصادات البالغ عددها 190 حول العالم في تسجيل حقوق الملكية، لما تتسم به العمليات بالتعقيد وطول الأمد؛ ومحدودية التشغيل الآلي لنظام حقوق الملكية.
كما أن الحكومة المحلية، بحسب دراسة قام بنشرها البنك الدولي عام 2018 عن تعزيز الاستثمار الخاص والتمويل التجاري للبنية التحتية، تقوم بجباية الضرائب ثم توريدها مباشرة إلى الخزانة العامة، بدلا من استخدامها لما يلزم من تمويل البنية الأساسية مما يجعلها غير متحمسة لتحصيلها.
بالتالي، تبقى البنية التحتية المطلوبة لاستصلاح أراض زراعية جديدة بين غياب حكومي وعدم إشراك للقطاع الخاص، حتى يأتي قرار فوقي من الحكومة المركزية لدعم البنية التحتية كمشروع إنشاء شبكة صرف زراعي بالمراشدة الجديدة بمحافظة قنا، والمنتهي تنفيذه في أغسطس/آب 2018 بتكلفة تجاوزت مئتي مليون جنيه، بحسب موقع خريطة مشروعات مصر، وهو إيجابي بالطبع، إلا أن اتباع مثل هذا النهج يفتقر إلى الديناميكية المطلوبة بالسوق الذي من المفترض أن يدفع عجلته بنفسه لا بقرار مركزي، فلا عجب إذا لم تحقق تلك المجهودات الحكومية والمصرفية النتائج المرجوة.

المجتمع المدني:

يعرف المجتمع المدني بأنه المجتمع الذي يشمل مؤسسات ومنظمات تعمل بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة، وبصورة طوعية لا تهدف إلى الربح وتستهدف خدمة المجتمع في مختلف المجالات، ومنها نشر الوعي وتنمية القدرات في مجال التنمية المستدامة. ويشمل المجتمع المدني كل الهيئات والمنظمات غير الحكومية مثل الجمعيات الأهلية، والنقابات المهنية والعمالية، والأحزاب السياسية، واتحادات الغرف التجارية والصناعية، والمؤسسات الخيرية، والتعاونيات والجمعيات المدنية وجمعيات حقوق الإنسان، وغيرها.
وبحسب دراسة أعدتها ونشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2020 بعنوان “المساعدة في التنمية – أعضاء اللجنة والمجتمع المدني”، فإن منظمات المجتمع المدني تساهم بحوالي خمسة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء ومنها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرهم من الدول المتقدمة.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمات المجتمع المدني تساهم في الاقتصاد بما لا يمكن حسابه بالأرقام فقط. ففي حين يمكن أن يعبر الرقم المذكور عن مجموع ساعات عمل المتطوعين، يمتد التأثير أبعد من ذلك.
في المحافظات الفقرة الوارد ذكرها كقنا وسوهاج وغيرهم، تم إيضاح كيف تقوم الحكومة بمعالجة قضايا كالتخطيط والتمويل بصورة مركزية في ظل حكومة محلية ضعيفة لا تمتلك صناعة القرار، وجود منظمات مجتمع مدني يكون أعضاؤها من فلاحي الأراضي يمكن أن تساعد في توجيه الحكومة المركزية نحو قرارات أفضل أو أكثر ملاءمة لهم، لأنهم في نهاية الأمر أصحاب المصلحة والمستفيدين الأوائل من كل تلك المشاريع والمبادرات.
منظمات مجتمع مدني مكونة من ملاك الأراضي أو رجال الأعمال متوسطي الثروة، يمكن أيضا أن توجه الحكومة لوسائل تمويلية أفضل أو تشير على الأقل إلى العقبات الحقيقية التي يواجهونها فيما يتعلق بالاستثمار والمشاريع.
كما أن اجتماع عدد من الشباب شبه المتفرغ في منظمة للقيام بعمل ما، قانوني طبعا، سيؤدي حتما إلى تفاعل بين أفكارهم المختلفة لينتج حلولا تبدو البلاد في أمس الحاجة إليها، لا سيما أنهم أبناء المنطقة وأكثر دراية بأزماتها.
ناهيك طبعا عن دور الجمعيات الخيرية في محاربة الفقر وإيصال المساعدات للمحتاجين، ومنع بعض الأسر من الانزلاق للفقر الضنك الذي لا مخرج منه.
هذا وقد قامت السلطات بإحلال ما لا يقل عن ألفي جمعية خيرية في أنحاء متفرقة من الجمهورية بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش التابعة للأمم المتحدة.
ورغم إدراك الدولة لذلك، حيث أعلن العام 2022 عاما للمجتمع المدني، وتبارت كبار الشخصيات في محاولة إيضاح أهمية منظمات المجتمع المدني سواء في مجالات الرعاية، أو المجالات الثقافية، والتنموية، وحماية البيئة، وحقوق الإنسان، كما ورد في مقال الدكتور أباظة المنشور بالعدد الثالث من دورية آفاق اجتماعية بمايو/آيار 2022.

إلا أن عام 2022 انتهى، ولم يكن هناك تقدما ملحوظا فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني بالمناطق الفقيرة. الأدهى من ذلك أن الحكومة تعمل على هذا الملف بذات الطريقة المركزية، حيث تنشأ المنظمات برعاية حكومية، وغالبا ما تكون المنظمات -حتى السياسية- بالمحافظات، روافد لمنظمات كبرى مركزية بالقاهرة.


في عالم مثالي، تكون للحكومة المحلية بالمحافظات صلاحيات وحسابات خاصة من جباية الضرائب التي تعمل على إعادة استثمارها في البنية التحتية، في ظل شراكة مع القطاع الخاص مبنية على الشفافية وبعيدة عن الاحتكار، وبمساهمة منظمات مجتمع مدني فعالة في توجيه الحكومة المحلية والمركزية لمصلحة السكان المحليين سواء من الفلاحين أو ملاك الأراضي.
كما يقوم التعليم على إعداد كوادر حقيقية للمشاركة في سوق العمل المحلي بشكل أساسي مما يدعم النشاط الاقتصادي الأساسي به، مستغلا الميزة النسبية لهذا الاقتصاد، مما يؤدي حتما إلى تطوره وزيادة أرباحه وعوائد المستثمرين فيه ومرتبات العاملين به، دافعا الناتج المحلي الإجمالي ودخول الأسر المحلية للزيادة مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على منتجات صناعية للمشروعات القائمة وترفيهية للأسر، ويصبح الاقتصاد ديناميكي، قادر على إدارة عجلته بنفسه نحو النمو والقضاء على الفقر.

وفي عالم واقعي، تسعى الحكومة بمؤسساتها المختلفة، للوصول إلى هذا العالم المثالي، عبر تحديد ما يعيق هذا المسار أولا، ثم العمل على إزالته، لا بالإصرار على نفس السياسات المطبقة منذ عقود بلا جدوى.

ملحوظة:
الأرقام المذكورة بالدراسة، غير دقيقة، وتم استخدامها بشكل استدلالي لا إحصائي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *