عبد المجيد المهيلمي يكتب: في الكرة (1)

يحكى أن رب أسرة له أولاد كثر معظمهم أهلاوية متعصبين، ومنهم من يشجع الزمالك باستماته، كان يحرص على اصطحاب أولاده لمشاهدة جميع مباريات طلائع الجيش والمقاولون وحسب! الدوري كما تعلمون به فرق متنافسة كثيرة.. ولا يجوز أن يستولي فريق على الرعاية الكاملة من قبل منظمي البطولة دون غيره من الفرق.. ولا أن ينحاز الحكام لأحد الفرق على حساب الفرق الأخرى.
وجرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ أن سالت عليه بغزارة سائلًا قرمزيًا.
وجرى ما جرى، فحملت الجماهير رب الأسرة ذاك على الأعناق، وطالبته بتحمل مسؤولية فريق المنتخب.
فطلب من المشجعين بمجرد توليه المسؤولية أن يصبروا، ووعدهم بأن يروا العجب العجاب (ساعتها لم يتصور أحد مدى الصبر المطلوب، ولا المقصود بالضبط بالعجب). لبت الجماهير طلبه عن طيب خاطر، فلا أحد يملك عصا سحرية تجعله يحقق الانتصارات بين يوم وليلة.
وفي تلك الأيام، قابلته سيدة عجوز عجنتها خبرة الحياة، قالت له بمحبة فائضة وهي تربت على كتفه: “ادعو لك يا ابني في كل صلاة بالنجاح.. فنجاحك هو نجاحنا.. كما ادعو للفريق أن يفوز بجميع البطولات طالما أنك ممسك بالدفة.. أوصيك بالشباب فهم المستقبل.. واعمل حساب السنين العجاف.. فالزمن غدار لا يؤتمن.. والقرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”. نظر إليها باحتقار وقال في تهكم لعُصبته، وهو يقهقه قهقهه خفيفة: “أبيض إيه.. وأسود إيه.. خرفة.. هو القرش ينفع في شيء هذه الأيام”.
وإذ به، بدلًا من أن يوجه الأموال لبناء صالة تمرينات رياضية كبيرة وتجهيزها بأحدث وأفضل أنواع المعدات والأدوات الرياضية، والتعاقد مع مدربين كبار ذات كفاءة عالية لتنمية قدرات الفريق ورفع كفاءة اللاعبين، يقرر وحده عمل توسيعات وتجديدات في المقصورة لتتسع لعزوته من أصحاب الجاه، وتجديدها وفرشها بكراسي وثيرة. وقرر بمفرده بناء قاعة احتفالات كبرى جديدة تكلفت عشرات الملايين. وعندما تبرم البعض قائلًا: النشء أولى.. فتربيتهم وتدريبهم يضمن لنا مستقبل أفضل”. صرخ ساخرًا في وجهوهم: “لقد بنيتها خدمة للمشجعين”. وبالفعل تأكد ذلك عندما قام البودي جاردز بالقبض على بعض الشباب الساذج كانوا قد حاولوا دخولها، واقتادوهم إلى قسم الشرطة، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم دون توجيه تهم محددة لهم إلى مجمع سجون ضخم تم تشييده حديثًا على أمل دخوله موسوعة جينيس. وحتى الآن لم يفلح المحامون، بعد مضي عدة سنوات، في العثور على أثر لهم.

وحينما سئل يومًا عن الهدف من بناء القاعة الجديدة – خاصة أنه لا يوجد أي سبب لإقامة احتفالات هذه الأيام – أقر بأنه لا يوجد بالفعل نقص في عدد القاعات التي نحتاجها، ولكن جميعها يحمل اسم بطل ملاكمة أسطوري. وقد كان من الواجب علينا إصلاح هذا الخلل! وقد لاقى منطقه القبول من الأرزقية بحجة أن الكورة شيء، والملاكمة شيء آخر تمامًا. وهذا صحيح بالطبع. ولكنهم لم يتوانوا عن استعمال تكتيك المكر والمراوغة لتوجيه اللكمات القوية الخاطفة إلى آلاف الناشئين، في المناطق المسموح بها، وغير المسموح بها.

كون بعض المقاولين والموردين ثروات طائلة من وراء العمليات التي رست عليهم بالأمر المباشر. كما تربحت فئة بالزي الكاكي من بيع تذاكر المباريات في السوق السوداء، ومنهم من أعلن مؤخرًا أن البيع من الآن فصاعدًا سيتم فقط بالعملة الخضراء. لأن العملة الجديدة وإن كانت مزينة بمسجد الفتاح العليم في نزول حاد يومًا بعد يوم!

ثم قام فجأة بلا مقدمات، في الدقائق الأولى من الشوط الأول من مباراة مهمة، بإهداء فريق منافس ركلتين جزاء على طبق من الذهب الأسود، عرفا بركلة تي، وركلة صن (على وزن اسم لاعب توتنهام الكوري الموهوب). فهاج الجمهور هياجًا شديدًا، وصاحوا منددين بذلك التصرف الأهوج. فألقى القبض على الآلاف من شباب الألتراس المتحمسين الذين خرجوا إلى الشوارع بعد المباراة رافعين لافتات كتب عليها “لسنا للبيع”. وتم حبسهم بعد أن لفقت لهم تهمة نشر شائعات كاذبة حول الركلتين. ولم يخل سبيلهم إلا بعد أن دفعوا غرامات مالية قاسمة لظهورهم. وذاعت في الوقت نفسه إشاعة مفادها أن الركلتين كانتا في إطار صفقة أرز سرية (لم يتمكن أحد حتى اليوم من التحقق من صحة تلك الإشاعة).
ومن عجب العجاب أن قلة صغيرة من المشجعين فرحت بالركلتين فرحًا شديدًا، وكأنهما احتسبا لصالح منتخبهم! وعبرت عن فرحتها العارمة بالرقص في المدرجات على واحدة ونصف (نصف التحيات الثلاث بالنشيد الجماهيري المعروف لمشجعي الفريق الأول.. لا ينبغي الخلط بينه وبين الفريق القومي)، وذلك أمام كاميرات التلفزيون المصرية والعالمية في واقعة غير مسبوقة في التاريخ الممتد للعبة. ومن سخرية القدر، أن كلًا من الأرز المجازي والأرز الحقيقي شحا في الأسواق قبيل بدء المونديال!!
اكتئبت شريحة كبيرة من المشجعين لغياب رؤية للنهوض بالمنتخب، واعتصرهم الحزن لأنهم لم يروا أي بوادر فكر جديد، أو جهود تبذل للاستفادة من طاقات الشباب المهدرة لتكوين فرقة جديدة قادرة على الفوز بالألقاب. وخصوصًا بعدما تم الاستعانة رويدًا رويدًا ببعض قدامى اللاعبين الذين كان لهم دور بارز في السابق، واعترضت حينذاك على وجودهم بالفريق، وكانت تصيح في كل المباريات: “كفاية.. كفاية” حتى نجحت بعد طول عناء بطردهم خارج الملعب.
سأله يومًا أحد المهمومين بقضايا المنتخب: “ما الخطة؟”. فنظر إليه شزرًا وقال مستهزئًا: “خطة؟! أي خطة؟!! نحن لا نضيع الوقت في عمل الدراسات المضنية ورسم الخطط المحكمة.. ليتكم تسمعون كلامي وحدي.. وتتعلمون كيف تقومون بالتنفيذ على السريع.. انزلوا الملاعب.. وما يستغرق 90 دقيقة سنفعله في 45 دقيقة فقط!”
راجعت الجماهير شريط المباريات، فتذكرت ما قيل: “اصبروا وستروا.. اصبروا سنتين فقط.. وبعد انتهاءهما ستة شهور أخرى.. ثم سنة إضافية”. ولاحظت أن المدة أصبحت الآن مفتوحة غير محددة.. سنوات دوارة بلا نهاية تنتهي لتبدأ من جديد!
وذلك مما جعلها تفقد الأمل تمامًا في أي إصلاح بعدما تم تجاهل كل المقترحات والحلول التي قدمتها. وأدركت أخيرًا بأنه لا رجاء من تحسن نتائج الفريق، وأصبحت تغني في ضجر أثناء المباريات وهي تتجرع الهزائم أغنية ست الكل ثومة
ما تصبرنيش بوعود
وكلام معسول وعهود
أنا ياما صبرت زمان
على نار وعذاب وهوان
وهي غلطة ومش ح تعود..
……..
………
إنما للصبر حدود… يا حبيبي

عبد المجيد المهيلمي
تنويه:
هذا مقال خيالي عن كرة القدم بمناسبة المونديال. وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بأي مواضيع أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *