أحمد سعد يكتب: وجدتُ اللهَ عند سلطانٍ جائر

على سرير وثير من الأبنوس والعاج جلس، بين يديه حاشيته وقواده وقضاته ورجال حُكمه، لم يكن طويلا ولا ضخما لكنه برغم ذلك كان ذو مهابة لا تخطئها العين ولا تتجاوزها، في قسمات وجهه حدة وغِلظة غير أن في لسانه بلاغة وفصاحة.

في مجلسه كان الشعراء، لا ينتهي مدحهم له ولا يتوقف هجاؤهم لمن عاداه، هذا يرجو عطاءه وذاك يخشى عقابه، أبيات شعر وضجيج ومُزاح وضحكات لم تنقطع إلا في ذلك اليوم.

حينها، ران على القاعة صمت عميق، والتفت الجميع إلى ذلك الغلام الواقف عند الباب يرتعد، قال الفتي مُرتعشًا “لقد فعلها ثانية يا سيدي”، أصوات همس سرت في القاعة، وانفض المجلس سريعا حينما بدا الغضب على وجه الأمير.

أمام المسجد سُمعت سنابك الخيل، وتقدم الحراس بأسلحتهم فولجوا من كل باب، دخل الأمير بين جنوده واعتلى درجات من المنبر ثم هتف “أنا الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فأين الحسن البصري؟”.. ارتفعت الأصابع المرتجفة فأشارت إلى الرجل الجالس عند الزاوية.

لم يكن الحسن البصري مطلوبًا لقصاص ولا لسرقة، لكنّ جريمته الكبرى كانت أنه جاهر بانتقاد الحجاج، وصدع بقول الحق فيه، فسار في الناس يحدثهم بطغيانه وما ارتكبه فحق عليه العذاب.. والقتل.

التفت الحجاج إلى من وقفوا يترقبون وقال “تبًّا لكم، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء”، ثم أمر بالسيف ودعا الجلاد لضرب عنقه.

عن الإيمان

“إذا الإيمان ضاع فلا أمانَ.. ولا دنيا لمن لم يحي دينَا” | الشاعر محمد إقبال

ربما كان الحسن البصري خائفًا في تلك اللحظات، ربما عَلمَ أن نهايته قد حلّت، بل قد يكون حين حدّث الناس مرات ومرات عن جرائم الحجاج يُدرك أن صبر الأمير المتجبر لن يطول، وأن العقاب نازلٌ به لا محالة.

حين تولى الحجاج أمر العراق وضع سياسة صارمة قوامها الدم ولا شيء غير الدم، تجلت سياسته في خطبته الأولى التي قال فيها “والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى”.

لكن، ما الذي دفع “البصري” إلى الاستمرار في نهجه المناهض للحجاج برغم ذلك؟! ألم يخشى السجن؟! ألم يخشى التعذيب؟! ألم يخشى القتل؟!

بلا شك كان الحسن البصري خائفًا من بطش صاحب السلطان، لكنه بلا شكٍ أيضًا لم يدع الخوف يتملكه، لم يمنعه خوفه من قول الحق، لم يحجبه عن قول الحقيقة.. قال الحقيقة وهو يؤمن أنها رسالة يجب أن تستمر وراية لا ينبغي أن تتوقف عن الخفقان.

أدرك الشيخ أن ما يفعله الأمير هو جريمة بحق الناس، بحق واقعهم ومستقبلهم، كان عليه أن يتجاوز مخاوفه ليحذرهم منه، لينبههم إلى الأخطار التي تحيق بهم.

إن الإيمان هو ما دفع البصري إلى قول الحق، الإيمان بأن الخوف من الله والخوف من عبيده لا يجتمعان في قلب مؤمن.. والإيمان بأنه لا وهم أكبر من الخوف.

في الزهد

“ليس الزهد فراغ اليد من الدنيا إنما الزهد فراغ القلب من الدنيا” | الكاتب أحمد بهجت

لم يكن الحسن البصري طامحًا إلى سلطة أو مالٍ أو جاه، كل ذلك كان على مقربة من أنامله، لو أنه امتدح صاحب السلطان فحسب، لكنه أبدًا لم يفعل.

لم ير “البصري” أن كل دوره هو مدح من لا يستحق المدح لكي يتقرب إلى ذلك الجالس على كرسي الإمارة، لم ير أن عَرَض الدنيا يستحق أن ينافق فيخلد بذلك في الدرك الأسفل من النار.

رفض الشيخ أن يكون من “وعاظ السلاطين” الذين يأمرون الناس بالطاعة العمياء والصماء والخرساء، رفض أن يكون من أصحاب أكياس الذهب والفضة، رفض أن يسير على أشواك الباطل إلى الهاوية.

كانت أبواب الجنة ستُفتح من أجله لو أنه فقط قال نعم، لو أنه استجاب للترغيب، لو أنه حتى خضع للترهيب، لو أنه غض البصر عما يفعل الحاكم، لو أنه فكر في أولاده وفي توريثهم أموالا تقيهم شر تقلبات الدهر.

ربما راودته نفسه، ربما همزه شيطانه “افعل كما يفعل الناس يا أحمق، أحسِن إن أحسنوا وسر على خطاهم إن أساءوا، لا تقف وحيدًا فتستهدفك نبال السلطة ونشابها، لست من أولي العزم، لست رسولا ولا نبيا، لست إلا كهلا يرجو أن يرحل عن هذه الدنيا بسلام.. فاصمت، اصمت بمشيئتك أو تصمت رغمًا عنك إلى الأبد”.

ربما ألحت عليه زوجته وأولاده أن يبقى بعيدا عن ذلك الطريق الوعر، ربما حاولوا إقناعه بأن المخاطر جمّة، والأمواج كالطود عالية تبلغ عنان السماء.

ربما قال لنفسه وربما قال له أهله، لكن الثابت أن الشيخ كان زاهدًا فيما عند السلطة، لا يرجوها ولا يطلبها، فرغ قلبه من الدنيا، يؤمن أن طريق النجاة السهل لن يورثه إلا جُرحًا غائرًا في نفسه، كان يؤمن أن قول الحق هو أفضل ما يورثه لأبنائه وتلاميذه وكل من أراد أن يجهر بالحق من بعده.

وأما اليقين

“نومٌ على يقين خير من صلاة على شك” | الإمام علي بن أبي طالب

وأما اليقين، فهو من الإيمان كمنزلة الروح من الجسد، وإنما هو سكون الفؤاد وهوان مصائب الدنيا، راحة النفس وطمأنينة القلب، لا يقلق المرء في ظله من يومه ولا من غده.

كان الحسن البصري على يقين، يقينٌ في الله، ويقين فيما يقول ويفعل، كان على بيّنة من أمره، أن طريقه هو الأصوب وإن خرست الألسنة من حوله.

يقين بأن صمته لن يخلق عالمًا أجمل، لن يجعل الحياة أكثر عدلا ولا إنصافا، يقين بأن عليه أن يتكلم، وأن إيمانه لن يكتمل إلا بمواجهة الظلم ولو “بشق كلمة”.

لم يكن الكهل مغامرًا شابًا، ولا مراهقًا يرجو شُهرة وصيتا، ولا كان من دعاة الفتنة ورافضي الاصطفاف، فقط كان يعلم أن الاصطفاف مع الظالم هو اصطفاف كاذب لا محل له.. هو دجل بلا قيمة، وقول بلا عزيمة، ونصرٌ محاصرٌ بالهزيمة.

كان اليقين في قلبه راسخًا كالوتد، يقين أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن الذي أمر الناس من فوق سبع سموات بقول الحق لن يخذلهم أبدًا، وأن النهاية ستكون على غير ما يشتهي الحجاج وكل حجاج من بعده حتى وإن رجحت كفتهم إلى حين.

في النهاية

دومًا ما كنت أتذكر الحديث النبوي القائل “أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر”، ودومًا ما كنت أتساءل لماذا هو “الأفضل”؟ لماذا تكون “كلمة”، مجرد كلمة، أفضل من أعمال أخرى قد تكون مشقتها أعظم.. لكنني وجدت الإجابة.

فبكلمة الحق عند سلطان جائر، تسير على الدرب وحدك، سيتخلى عنك من كنت تعتقد أنهم الأقربون، وسيلفظك من كنت تظنهم ندماء، سيخشى الجميع من مغبة ما قُلت، وسيتعامل معك من حولك باعتبارك أحمقًا فتح على نفسه ويلات الجحيم، ستقف وحيدًا عُرضة للتنكيل، عُرضة للتعذيب، عُرضة للقتل.. لكنك وبرغم كل هذا ستجد الله.

عند هذا السلطان الجائر ستجد الله في ذاتك وفي ضميرك وفي لسانك الذي نطق بالصدق، ستجد الإيمان والزهد في الدنيا وستجد اليقين بالله.

عند هذا السلطان الجائر تتجلى رسالة الأديان ورسالة الإنسانية، ينهمر النور على قلوب الذين ينطقون بالحق، يقطعون الفضاء إلى السماوات العلا في طرفة عين ليكونوا في عليين.

عند هذا السلطان الجائر، ستجد الإيمان الذي عشت حائرًا تبحث عنه، سترى الدنيا على حقيقتها أصغر من ذرة رمل، وستعلم حينها أن ساعة كسر قيود الخوف وإن كانت مؤلمة لكنها أبدًا ليست أشد إيلاما من سنوات عشتها أسيرًا للسلاسل والأغلال.

بعد النهاية

في تؤدة ووقار، سار الحسن البصري إلى الحجاج وهو يتمم بكلمات، فلما رآه الثقفي على تلك الحالة من السكينة اهتزت روحه وهابه أشد الهيبة.. وانقلبت الأحوال.

جلس الحجاج على فُرش بسطها له حراسه، ثم أشار إلى الحسن البصري وقال له “اقترب، اقترب أبا سعيد، ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا”.. جلس البصري إلى جوار الحجاج وراح يسأله عن أمور الدين والدعوة وتناسى متعمدًا ما كان منه وما حضر لأجله.

حين خرج الحجاج من المسجد، سارع خادمه إلى الحسن البصري يسأله “والله قد جاء لقتلك، فبما كنت تتمتم يا أبا سعيد؟” فقال له “قلت: يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم”.

لم يقتل الحجاج الحسن البصري، ولم يمسسه بسوء، لكن “أبا سعيد” فعل ما يجب أن يُفعل.. قال كلمة الحق في وجه سلطان جائر، لأنه كان يدرك جيدًا أن الكلمة نور.

الكلمة نور ..

وبعض الكلمات قبور

وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري

الكلمة فرقان بين نبي وبغي

بالكلمة تنكشف الغُمة

الكلمة نور

ودليل تتبعه الأمة

عيسى ما كان سوى كلمة

أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين

فساروا يهدون العالم

الكلمة زلزلت الظالم

الكلمة حصن الحرية

إن الكلمة مسؤولية

إن الرجل هو كلمة.. شرف الله هو الكلمة

One thought on “أحمد سعد يكتب: وجدتُ اللهَ عند سلطانٍ جائر

  • 19 أبريل، 2020 at 9:00 ص
    Permalink

    كان من الممكن اختزال هذه التغريبة ب10 سطور.

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *