يحيى حسين عبد الهادي يكتب: أنا وحبيبى يا نيل

——————
لعلها الجذور الصعيدية .. أو خدمتى العسكرية .. أو كلاهما معاً .. هى التى جعلتنى ممن يتحاشوْن البكاء أمام الآخرين.. لكننى بكَيْتُ يومها بحُرقة .. كان قد مرَّ على حبسى فى سجن طرة عامان ونصف فى زنزانةٍ لا خصوصيةَ فيها .. أىُّ خصوصيةٍ تلك بين أكثر من عشرين إنساناً متلاصقين على الأرض لا يملكون رفاهية التقلب أثناء النوم فى (سويت) تقل مساحته عن ١٠ أمتار طولاً وثلاثة أمتارٍ عرضاً ودورة مياه بلدية واحدة ضَيِّقَة وبلا باب؟! .. وبما أنَّ أى إنسانٍ طبيعىٍ، صعيدياً كان أو غير صعيدى فما بالكم بمسجون، يحتاج للبكاء بقدر احتياجه للضحك .. كنتُ وكثيرون غيرى نلجأ للبكاء الصامت بعيداً عن العيون فى دورة المياه، أو بادِّعاء النوم وتغطية الوجه حتى لا يرى جارُك دموعَك .. إلى أن انكشف سَتْرِى ذلك اليوم .. كان اثنان من الزملاء (مالِك) و(محمد الشهير بأبو حمزة) يملكان جهازَىْ راديو ترانزيستور (سِرَّاً لأنهما ممنوعان) .. أَمَّا (مالك) السكندري المُحِّب للحياة فكان حديثه كله عن الإسكندرية معشوقته، الموقن باقتراب موعد عودته لحضنها .. لأنه كما كان يقول بقلبه الأبيض (لى ثلاث سنوات ونصف محبوس احتياطى .. أكيد مش حيخلونى هنا أكثر من كدة!) .. أَمَّا أبو حمزة فكان ابتلاؤه مزدوجاً، إذ كانت زوجته محبوسةً أيضاً .. لم يتجسد أمامى قبل أن أعرفه معنى كلمة (قهر الرجال) التى نرددها أحياناً .. هل هناك قهرٌ لرجلٍ أكثر من أن يكون محبوساً وزوجته محبوسةٌ فى سجنٍ آخر ولا يملك لها شيئاً، إلا كتابة رسالةٍ واحدةٍ يظل يعيد كتابتها على مدى أسابيع، على أمل أن يُسمَحَ له بتسليمها لزوجته فى الدقائق التى يلتقيها فيها فى جلسة تجديد الحبس .. إذا التقاها؟!.
كانت الآداب المتفق عليها أن يستخدم صاحب الراديو السماعة لعدم إزعاج الآخرين .. كنتُ جالساً عندما انزلقت السماعة من أُذُن “مالك” وهو نائم، فإذا بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. يدَّوِى فى الزنزانة .. ولأن الأمر كان مفاجئاً لم أتمالك نفسى وصِحتُ (ياه .. أول مرة أستمع للشيخ عبد الباسط من سنتين ونص .. وحشنى هو والمنشاوى) وانفجرتُ فى البكاء أمام الجميع .. الحقيقة أنها كانت المرة الأولى التى أستمع فيها لراديو منذ أن اعتُقِلْت .. فى اليوم التالى قال لى جارى الشاب “محمد”: (خذ الراديو بتاعى اسمع فيه على كيفك .. أنا مش عاوزه دلوقت) .. وضعتُ الراديو على أُذنى وخفضتُ الصوت لأننى بلا سمَّاعة، وأخذتُ أُقَّلِبُ إلى أن عثرتُ على إذاعة أُم كلثوم وكانت تغنى مقطع (أنا وحبيبى يا نيل) من أغنية شمس الأصيل .. وبِكُلِّ شَجَن أسيرٍ محرومٍ من الحبيب ومن النيل معاً، انسابت الدموع هذه المرة ولكن بلا صوت .. لاحظها “محمد” فسألني (عبد الباسط تانى؟) فأجبتُه (لا .. إنها أم كلثوم) .. اكتشفتُ أنه ومعظم الإخوان لا يعرفون شيئاً عن أغانى “السِتْ” بما فيها روائعها الدينية .. ذكرتُ له كلمات الأغنية فأُعجِب بها (كان عنده ذائقة لغوية) .. شجعنى ذلك على أن أقول بعضاً من كلمات أغانيها التى احتفظت بها ذاكرتى .. تلقفها بفرحة .. ما إنْ وصلتُ إلى مقطع فكروني: (بعد ما اتعودت بُعدك غصب عَنِّى .. بعد ما نسِيت الأمانى والتمني .. كلمتين اتقالوا شالوا الصبر مِنِّى .. صَحُّوا فى عينَيَّه حنينهم لابتسامك .. صَحُّوا سمعى يِوِّد كلمة من كلامك) حتى بدا عليه التأثر الشديد وكأنها تتحدث بلسانه، وطلب مِنِّى أن أكتبها له لينقلها بخطه إلى الرسالة التى يكتبها منذ أكثر من شهر لأم حمزة .. داوَم “محمد” على إعارتى الراديو من آنٍ لآخر .. بعد ذلك بأسابيع فوجئتُ بفكرونى فى إذاعة أم كلثوم فقلت لمحمد (خذ الراديو لتسمع المقطع الذى أعجبك بنفسك)، فقال لى (خليه معاك وعَلِّيه براحتك لأن الزنزانة كلها صاحية) .. فعلتُ .. فانتبه الجميع صامتين .. وعندما وصلت “الست” لمقطع (تسوى إيه الدنيا وانتَ مش معايا .. هى تبقى الدنيا دنيا إلا بيك) .. تَلَفَّتُ حولى فى الزنزانة، فإذا بالجميع بلا استثناء .. كُلُّهم بمن فيهم الإخوان (لأنهم بَشَر) .. وقوفاً أو جلوساً أو على جنوبهم .. تجرى من مآقيهم الدموع.
(باقى القصة: بعد شهورٍ قليلةٍ حُكِمَ على “مالك” بالمؤبد، وعند ترحيله إلى العقرب احتضنني وقال وهو يتصنع الابتسام “أشوفك بعد ٢١ سنة بإذن الله على شط إسكندرية” وأعطاني الراديو الذى ظل معى خمسة شهورٍ إلى أن سلمته وأنا خارجٌ لزميلٍ لم يزل محبوساً …. أَمَّا أبو حمزة فلم يزل محبوساً أيضاً، لا أدرى فى أى سجن .. لكنه بالتأكيد ليس فى سجن القناطر حيث تقبع منذ أربع سنواتٍ زوجته حبيبته المريضة أم حمزة .. عائشة خيرت الشاطر).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *