يحيى حسين عبد الهادي يكتب: قَبْل الحُكْمِ .. حديثٌ عامٌ في شأنٍ خاص

———————————————
(نحن من حزب العناد .. نمقت الهزيمة .. لا نقبل بها .. فإن قضت علينا، نموت كالشجر واقفين)- رضوى عاشور.

اعتَدْتُ ألا أكتب إلا في الشأن العام لذلك أعتذر مقدماً .. فهذا حديثٌ في شأنٍ خاصٍ، اضطرتني إليه استفسارات ونصائح ومجادلات الأحباب بخصوص القضية المقرر الحُكْم فيها يوم الخميس القادم ١٣ يوليو .. من حق هؤلاء الذين تَدَّثَرتُ بدعمهم وتعاطفهم أن أُوَّضِحَ لهم موقفي وبعض تفاصيل وملابسات ما حدث .. هذا ليس مقالاً بقدر ما هو فضفضةٌ مع من أُحِب.
سيفُ التهديد مغروسٌ في عُنُقي؟ هو دائماً كذلك .. قبل الثورة وبعدها ..قبل السجن وبَعدَه .. عندما يُوضع السيف على رقبتك كي لا تنطق بكلمة (لا) في وجه ظالمٍ، فأمامك موقفٌ من اثنين .. إمَّا أن تصمت مُضطراً لشراء عُمْرٍ قد يمنحك القُدرَةَ مستقبلاً (وهي وجهة نظر أتفهمها وأحترمها لا سيما من الشباب) .. أو تصرخ في وجه الظالم بكلمة الحق التي لا تُريحُه وإن أتعبَك .. لا بُد أن يُسمعَها له أحد .. هي فَرْضُ كفاية لا بُدَّ أن يقوم به بَعضُنا في وطنٍ يُهدَرُ تاريخُه، وتُقَّزَمُ مكانته، ويُسجَنُ أحرارُه، ويُوَّرَثُ أحفادُه الذين لم يُولَدُوا بَعْدُ ديوناً لم يُستشاروا بشأنها، وتُباعُ مُقَّدَراتُه في سوق النخاسة على رؤوس الأشهاد .. وكلما تَعَرَّضتُ للاختيار بين الموقفين، طَنَّ في أُذُنَيَّ السؤال الشكسبيري (إن لم يكن أنا، فَمَنْ؟ .. وَإِنْ لم يكن الآن، فمتى؟) .. فأُجيبُ (ومَنْ أَوْلَى بها من شيخٍ على مشارف السبعين يريد أن يَلقَى اللّهَ صادقاً؟).
القضية تكاد تكون صورةً كربونيةً من قضايا أمن الدولة خلال هذه العَشرية .. فلا داعي لإشغالكم بتفاصيلها .. لكن ما ساءَنِي كرجُلِ دولةٍ سابقٍ هو هذا التَهَرُؤُ في الأداء الرسمي .. الظُلْمُ في مصر قديمٌ لكنه كان في الأغلبِ ظُلماً منضبطاً ومُسَّتَفاً .. يقول حافظ إبراهيم: (لَقَد كانَ فينا الظُلمُ فَوضى فَهُذِّبَتْ .. حَواشيهِ حَتّى باتَ ظُلماً مُنَظَّما) .. هناك مَنْ يدفعوننا للترحم على أيام الظلم المُنَّظَم.
وصفتني النيابة في أمر تقديمي للمحكمة بالهارب(!) .. هذا (العَكُّ) كلامٌ رسمي في أوراقٍ رسمية .. هاربٌ مِنْ مَنْ؟ وإلى أين؟ .. أنا لم أهرب في حياتي .. ثم إنَّ النيابة نفسها عندما أرادت إخطاري بالقضية أرسلت لي أمين شرطةٍ، التقاني في مَسكَنِي الوحيد ولَم تبحث عنِّي في الطُرُقات والأقسام وقوائم الترقب والوصول.
أمَّا محضر تحريات الأمن الوطني الذي حَرَّكَت نيابة أمن الدولة الاتهام تأسيساً عليه، فيتلخص في أنني قُمتُ بمجرد خروجي من المعتقل بمعاودة التواصل مع بعض الكوادر الاخوانية والإثارية وذوى التوجهات المناوئة للدولة المصرية (جارى تحديدهم!) واتَّفَقْتُ معهم على كتابة بعض المقالات على صفحتي بموقع فيسبوك لخلق حالةٍ من الزخم الثورى تدفع المواطنين للتظاهر والتجمهر وقطع الطرق وتعطيل منشأت الدولة وتهديد الأمن القومى للبلاد .. وصولاً لإسقاط النظام القائم(!) .. أنا هنا لا أناقش هذه التُرَّهات ولا هشاشة النظام الذي تُسقطه ٣ مقالاتٍ، فضلاً عن أن المقالات نفسها نُشِرَت منذ حوالي عام ولَم يحدث شئٌ .. ما يهمني هنا عبارة (جاري تحديدهم) .. أي أنَّ كاتب المحضر يتحدث عن مؤامرةٍ كبرى دون أن يُحدد أسماء شُركائي فيها .. وقد تم توجيه الاتهام لي وأُحِلْتُ للمحاكمة وانتهت مرافعات النيابة والدفاع وحُجِزَتْ القضيةُ للحكم فعلاً دون أن يتم تحديد المتآمرين!! .. في هذا السياق يصبح من العبث السؤال عن أدِّلَةِ هذا الاتفاق التآمري (فيديوهات/ صور/ مكالمات ..) .. أعرف أنني المقصود ولا توجد مؤامرةٌ ولا متآمرون ولا يحزنون وأنَّ هناك حالةً من الاستعجال .. لكن الاستعجال لا يُبرر مثل هذه الأخطاء .. حتى التلفيق له أصولٌ .. والكذبُ له قواعد.
أمَّا تغيير الاتهام من (حيازة منشورات) وهو اتهامٌ مُضحِكٌ وكاذبٌ، إلى (نشر أخبار كاذبة) وهو اتهامٌ مضحكٌ وكاذبٌ أيضاً .. فليس عندي تفسيرٌ له.
هذا الهراء بُنِىَ عليه اتهامٌ لشخصيةٍ عامةٍ يعرف الكافة تاريخها وحاضرها بما يجعل الاتهام مادةً للسخرية .. المشكلة أن مثل هذا الهراء المُسَمَّى (تحريات) تَسَبَّبَ ويتسبب في ضياع سنواتٍ من أعمار أبرياء من غير المشاهير في سجون الجمهورية الجديدة، وشَرَّدَ ويُشرد أُسَرَاً كريمةً لم ترتكب في حق هذا الوطن جُرماً إلا التشبث به.
سُئلْتُ أكثر من مرَّةٍ: لماذا؟ .. فلا أحد مقتنعٌ بأن المقالات الثلاثة التي أُرفِقَتْ بالاتهام هي أصل القضية .. فقد كتبتُ غيرها الكثير، فضلاً عن أن أيَّ قارئٍ مُنصفٍ لها سيكتشف أنها صادقةٌ ليس فيها كذبةٌ واحدةٌ .. كلُ ما في الأمر أن كاتبها لم يكتم صِدقَه في قلبه وإنما نَشَرَه على صفحته .. عملاً بقول خالد محمد خالد (الصدق ليس فضيلةً خرساء .. الصدق الصامت ليس صدقاً.. إنما الصدق جهرٌ مُعلَن .. جهرٌ بالحق وتَحَدٍّ للباطل).
قيل إنَّ السببَ هو تَفَضُّلُ بعض الأصوات بطرح اسمي كمرشحٍ في انتخابات ٢٠٢٤ (وهو حُسْنُ ظَنٍّ بي أشكرهم عليه) .. إنْ صَحَّ هذا التفسير فهو دليلٌ إضافيٌ على فساد هذه المسرحية التي يختار فيها الحاكمُ منافسيه، ويُقصي عنها أيَّ منافسٍ حقيقيٍ مُحتمَل .. ثم إن مَنعي من الترشح لا يحتاج قضيةً جديدةً، فعندي من القضايا المفتوحة ما يكفي، فضلاً عن حُكمٍ عُفِيَ عن عقوبته دون رَدِّ اعتبار .. وفوق كل ذلك، هناك قانونٌ تم استصداره سنة ٢٠٢٠ يحظر على العسكريين المتقاعدين الترشح لأي انتخاباتٍ إلا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذي يرأسه ويُعَّيِنُه الحاكم!).
يسألني الأحباب (ألَا تَصمت إشفاقاً على أسرتِك؟) .. يعلم القريبون مِنِّي أنني زوجٌ مُحِّبٌّ جداً لزوجته .. أبٌ محبٌّ جداً لأبنائه .. جَدٌّ محبٌّ جداً لأحفاده .. وهم يبادلونني نفس المشاعر .. ولكنَّ حُبَّنا للحق أكبر .. وقد استودعتُ الله أسرتي ونفسي فلم يعد عندي ما أخاف عليه.
بل أنا حتى لا أخاف الموتَ بِقدْرِ خوفي من أن يهتز ثباتي بعد هذا العمر .. فلا ترهقوني بنصائحكم التي لا أشُكُّ في إخلاصها .. أنا في سِنٍّ لا تسمح لعاقلٍ أن يُشرك مع الله أحداً من خَلْقِه بالخوف أو الرجاء .. فساعدوني على الثبات لا التراجع .. أمَّا السجنُ فبالقطع لا أريده ولا أسعى إليه .. وقد ذُقتُ مرارته من قبل .. ولكنني لا أخشاه ثمناً لكلمة حق .. ثم إن السجن لا يُقَيِّدُ إلا الجَسَدَ، أمَّا الروح فتظل حُرَّةً طليقةً .. أكثر من سَجَّانِها وأَبْقَى منه.
أُطمئنُكُم .. أنا فعلاً لا أشعر بالخوف من هذه المُلاحقات .. ولا أشعر حتى بالقلق .. فقط أشعر بالقَرَف.
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادي
الاثنين ١٠ يوليو ٢٠٢٣
9:22 AM

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *