محمد أحمد فؤاد يكتب: ليبيا.. بين طموح شعب ومطامع طرفين من المرتزقة؟

لا يمكن لأحد فرداً كان أو جماعة أو مؤسسة، أن ينكر على الشعب الليبي حقه في تقرير مصيره وإختيار ممثليه، وكذا وضع أسس دولة مدنية ديموقراطية، والإستفادة من كامل ثرواته لضمان مستقبل مشرق لأبنائه.. فبعد سقوط القذافي، بات الليبيون يتوقون إلى إقامة دولة مؤسسات مدنية ديموقراطية تتوافق وطموحاتهم لتحقيق ذاتهم، لكن كعادة شعوب الشرق الأوسط مؤخراً، تاتي الرياح بما لا تشتهي السفينة ولا الربان.. فيتحول المشهد الليبي إلى ساحة صراع ثنائي على السلطة والنفط بين طرفين متنافرين يصعب الجمع بينهما على طاولة واحدة، هم فايز السراج رئيس حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، وبين رجل شرق ليبيا القوي خليفة حفتر قائد قوات ما يسمى بالجيش الوطني الليبي..

من داخل المشهد الليبي شديد التعقيد، يطل التساؤل: هل تكمن الأزمة في تضارب مصالح فردية، أم أن التفاقم يأتي كنتيجة لتدخل قوى إقليمية ودولية على شاكلة قطر والإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وتركيا والولايات المتحدة وروسيا لدعم أحد الطرفين أو كلاهما..؟  

إنتقلت بؤرة الغليان من شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية لتضرب بقوة في قلب الشمال الإفريقي تحديداً ليبيا، وكان من المفترض بعد سقوط دولة القذافي أن تعمل القوى السياسية هناك على إحتواء الموقف، وتحجيم الخسائر قدر المستطاع، وذلك بتشكيل مجلس إنتقالي مدني يضمن ضبط الأوضاع بين القوى السياسية هناك وكبح جماح رجال القبائل شديدة النفوذ وفائقة التسليح..  هذا بالإضافة لتحديد المسار السياسي بما يتفق وطموح الشعب الليبي الذي طالما أراد أن يرى دولته في أبهى صورها خصوصاً مع توافر كافة مقومات صناعة دولة لا تقل بأي حال من الأحوال عن دول الرفاهية المفرطة في الخليج العربي

دائماً ما تمر الفترات الإنتقالية بمراحل متباينة الملامح بين صعود وهبوط للقوى السياسية المحلية، وكذلك مراحل التوازنات والتحالفات للأطراف الخارجية ذات المطامع الإستراتيجية، وفي حالة ليبيا لم يختلف الأمر كثيراً عما حدث وعايناه في العراق وسوريا حيث تخبطت توجهات القوى الداخلية في مقابل توحش المطامع الخارجية مما مهد الطريق لحدوث شقاقات ونشوب معارك شبه متكافئة بين اطراف الصراع على السلطة..  وحتى لا نحيد بعيداً عن ملامح المشهد الليبي، لابد من الأخذ في الإعتبار تقسيم ليبيا إدارياً إلى ثلاثة اقاليم رئيسة تضم عشائر وقبائل متعددة، وهي فزان وبرقة وطرابلس..  وداخل هذا التقسيم الذي تم إعتماده ولو بشكل صوري إبان الإحتلال الإيطالي لليبيا قبل الحرب العالمية الأولى تبرز أهمية النفوذ القبائلي السياسي لكل إقليم مما حتم على أي سلطة سياسية هناك مراعاة هذا البعد الهام تجنباً لأي تهديدات إستراتيجية في المستقبل، فنجد فايز السراج يتمترس بقواته في غرب ليبيا ويسيطر على العاصمة طرابلس بدعم تركي روسي إيطالي قطري، بينما يسيطر خليفة حفتر وقواته على حوالي 80 % من الأراضي الليبية بدعم مصري خليجي فرنسي..!

ترتبط حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج مع تركيا بإتفاقية دفاع مشترك كما يتم دعمها قطريا، وقوات حفتر تتلقى دعم من الإمارات العربية والسعودية ومصر بداعي الحرب على فلول الإرهاب والمرتزقة التي تحركت إلى ليبيا في الأونة الأخيرة والتي كانت وراء عدد من الهجمات الارهابية ضد مصر.. وبالرغم من التصريح الأخير لخليفة حفتر بنقضه لإتفاق الصخيرات من طرف واحد وقبوله “التفويض الشعبي” لإدارة شؤون ليبيا كما يزعم، إلا أن المشهد على الأرض الليبية لا يبوح بتفوق الرجل وإمتلاكه مفاتيح السيطرة كما يحاول الإدعاء..  فحسب بعض الخبراء العسكريين، هناك تفوق جوي ملحوظ لحكومة السراج مكنها من إحراز تقدم بري نحو ترهونة والهجوم بقوة على قاعدة الوطية الجوية أخر معاقل حفتر في غرب ليبيا.. ويأتي هذا التفوق نتيجة لإستخدام الطائرات المسيرة تركية المنشا وبالطبع من مساندة سلاح الجو التركي لحكومة السراج في الدفاع عن العاصمة.

وبتتبع تطورات الأزمة الليبية منذ أواخر عام 2011، نجد أن ليبيا تغرق في الفوضى إذ تتنازع السلطة والسيطرة على الأرض ميليشيات وجماعات مسلحة لم تنجح المحاولات الدولية في الوصول إلى توافق بينها حتى الآن رغم توقيع (اتفاق الصخيرات) في ديسمبر 2015 بعد مفاوضات استمرت أشهراً، والذي على إثره تم إعلان حكومة الوفاق الوطني. ومنذ ذلك الحين بدأ مسلسل تنازع السلطة بين حكومة الوفاق وقوات الجيش الوطني برئاسة خليفة حفتر، وكان الأخير قد أعلن في مايو 2014 بدء عملياته ضد جماعات المرتزقة المسلحة بهدف السيطرة على شرق ليبيا. وعلى إثر اتفاق الصخيرات، تمكَّن السراج رئيس حكومة الوفاق في مارس 2016 من التمركز في طرابلس، لكن في الشرق بقيت الحكومة الموازية التي يدعمها حفتر والبرلمان معارضَة له.

في يوليو 2017، اجتمع السراج وحفتر في سيل سان كلو في باريس، وتعهدا بإخراج البلاد من الفوضى، جاء هذا قبل نحو عامٍ من اجتماع أخر للرجلين في مؤتمر أخر بباريس في مايو 2018، تعهدا خلاله على العمل معاً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في ديسمبر من العام ذاته. لكن سريعاً ما ظهرت الخلافات وتعمقت بين الأطراف الليبية والدول المنخرطة في الأزمة، لا سيما في نوفمبر 2018خلال مؤتمر استضافته إيطاليا بمدينة باليرمو، قاطعه حفتر وانسحبت منه تركيا.

وبدأ خليفة حفتر، في يناير 2019 التحرك نحو الجنوب الليبي، ونجح في الحصول على دعم بعض القبائل المحلية مما مكن له السيطرة بلا معارك على سبها والشرارة أحد أكبر الحقول النفطية بالبلاد. وفي الرابع من أبريل 2019، أصدر حفتر تعليمات لقواته بالتقدم تجاه طرابلس، لكنها واجهت مقاومةً عنيفةً من القوات الموالية لحكومة الوفاق، وتواصلت المعارك على مشارف العاصمة بين كرٍّ وفرٍّ، حتى أُقر حفتر الهدنة قبل أيام من مؤتمر برلين يناير 2019 حيث أدرك أن الدعم التركي لقوات السراج سيحول دون تحقيقه حصار طرابلس.

وكانت تلك الهدنة – طبقا لتحليلات بعض الخبراء- بمثابة تحول ميداني لا يتفق وتصريحات الرجل الأخيرة بشأن تقدمه نحو العاصمة.. وهي أيضاً أثرت بشكل كبير على ثقة زعامات القبائل الليبية التي بدأت الخلافات الحادة تضربها من الداخل بعد خسارتها مئات من شبابها في المعارك الدائرة هناك وإحساس رجال القبائل بالخيانة من جانب حفتر بعد أن أعلن الأخير تفويض نفسه لإدارة الشؤون الليبية متجاوزاً بذلك كل القيادات والزعامات القبائلية التي ساندته.. وفيما اعتبر البعض هذه الخطوة أنه مدفوع من دولة الإمارات للتغطية على خسائره العسكرية، رأى آخرون إنها إجراء يصب في صالح ليبيا ويأتي لمواجهة تدخل تركيا في الأزمة.!

وهكذا فإنه بالإضافة إلى موقف قوات حفتر الغامض داخلياً، فإن البعض يراها أيضاً مهددة بإهتزاز علاقتها مع الدول الداعمة في ظل تداعيات الموقف الإقتصادي العالمي، وكذلك تأثيرات جائحة كوفيد 19 التي ألقت بظلال كثيفة على المشهد الحالي..  فالسعودية كداعم رئيس على سبيل المثال تعاني أزمة إقتصادية عاتية بسبب تهاوي اسعار النفط، وأيضاً هي تحاول التخلص من تبعات خسائرها السياسية والدبلوماسية جراء فشل هجماتها المتهورة في اليمن التي أفقدتها الكثير من ثقلها الإقليمي والدولي. ومع تواتر أنباء عن فشل حكومة أبو ظبي في إستقطاب المملكة المغريبة لدعم حفتر مقابل حزمة من المساعدات الإقتصادية، إتخذت المغرب نفس موقف الجزائر وتونس وأصبح هناك تكتل مغاربي يعرقل توجه الإمارات العربية لحصار ليبيا من الغرب.. 

أما الجبهة الشرقية متمثلة في مصر التي تدعم حفتر سياسياً وعسكرياً، فربما يتبدل موقفها إذا ما ظهر أن تصرفات حفتر قد تفضي إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين مما يهدر كل جهودها لتأمين حدودها الغربية، وأيضاً ينذر بوقوع صدام مباشر بينها وبين تركيا على الأرض الليبية.. وعلى الجانب الأخر أبدت الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي تحفظها على إعلان حفتر أحادي الجانب، وظهرت في الأفق ملامح غضب روسي  مع إعلان مصادر من داخل الكرملين بأنها فوجئت بالأمر ورغم ذلك لازالت الانباء تتوالي عن استمرار الدعم الروسي من خلال بطاريات صواريخ تم ارسالها لحفتر مؤخرا.. أو دعم أماراتي يأتي عبر السودان.

مما تقدم، وإن صحت التفسيرات التي تشير إلى أن الرجل يخسر حلفائه الواحد تلو الأخر بعد إعلانه أحادي الجانب بتفويض نفسه لإدارة الشؤون الليبية وإسقاط إتفاق الصخيرات، سيكون خليفة حفتر بإستئناف معاركه ضد حكومة الوفاق في غياب دعم القبائل في الداخل وخسارته للدعم الخارجي من الدول ذات المصالح أشبه بسياسي مغامر فقد كل مقومات نجاح مشروع فردي سقف طموحه أعلى بكثير من مستوى قدراته.. لكن يبقى أن هذا الرهان مرهون بتعقيدات دولية اكبر من حدود هذه التفسيرات وصراع مصالح على الأرض يتم تحريكه من جهات مختلفة، ومحاولة قوى مختلفة لفرض سيطرة أحادية على الرض الليبية وهو ما يدعم استمرار الصراع طالما بقيت الأمور في يد مرتزقة يتم دعمهم على الطرفين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *