مجلة التحالف| مستقبل الطبقة العاملة والثورة العالمية الرابعة.. ما الدافع الحقيقي وراء السعي نحو الميكنة والذكاء الاصطناعي؟

بقلم / محمد عبدالحليم – عضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي

في آواخر القرن 18م ومع توسع النظام الرأسمالي وسعيه للهيمنة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالغرب بوصفه النظام القادم والأكثر كفاءة وقدرة على تعظيم الإنتاج ومن ثم ثروات المجتمع المادية، حرصت الرأسمالية على زيادة معدلات التقدم التكنولوجي وتكثيف الاعتماد على الآلة على حساب عنصر العمل، وذلك لضمان الحصول على كميات أكبر من الإنتاج بتكلفة أقل وبالتالي الحصول على أقصى ربح ممكن، لتظهرأول انتفاضات للعمال ضد “الآلة” بوصفها الخطر الذي يهدد وجودهم، فقامت انتفاضة “اللاضية” أو ما يعرف بثورة العمال الإنجليز ضد الآلة، حيث قام عمال النسيج بتحطيم آلات النسيج الحديثة التي بدأ الاعتماد عليها آنذاك بمصانع النسيج وزادت من معدلات البطالة في هذا القطاع الضخم الذي يعمل فيه مئات الآلاف من العمال، الذين وجدوا أنفسهم فجأة بين مطرقة الاستغلال الرأسمالي وسندان البطالة، الأمر الذي دفع السلطات الإنجليزية، بإيعاذ من الطبقة الرأسمالية، إلى إصدار وتطبيق عقوبة الإعدام على العمال المنضمين لحركة اللاضية الثورية مخربي الآلات، إلى أن تم القضاء تمامًا على الحركة، واستمرت الآلة الرأسمالية/ وحش “فرانكشتين” في امتصاص دماء الحياة من أجساد العمال وإلقاء البعض الآخر في جحيم البطالة. والآن بعد مرور كل تلك السنون ومعدلات التطور “الرهيب” التي لحقت بالآلات، يحق لنا أن نتسائل: ماذا عن مستقبل الطبقة العاملة؟

* جيش العمل الاحتياطي

في إطار تحليل ماركس لقانون “فائض القيمة” والاستغلال الطبقي، عرض مصطلح “جيش العمل الإحتياطي” للتعريف عن العمالة التي يجري طردها من سوق العمل، والتي تمثل ظاهرة لصيقة بالمجتمعات الرأسمالية، نتيجة للأزمات المتلاحقة التي يتعرض لها النظام الاقتصادي الرأسمالي من ركود وتضخم، وكذلك لسعي الرأسماليين لاستبدال الآلة محل العمال بعمليات الإنتاج.

وقد أوضح “ماركس” أن الرأسمالية كنظام اقتصادي/ اجتماعي بحاجة دائماً إلى العاطلين عن العمل أو جيش العمل الاحتياطي للضغط بهم على العمالة الموظفة لتخفيض الأجور الحقيقية والقبول بظروف عمل أقل جودة من حيث الأمان الوظيفي والمزايا الإجتماعية. يمكننا الاعتماد على التحليل السابق في توصيف أحوال الطبقة العاملة الراهنة، فوفقا لتقرير “العمالة والتوقعات الاجتماعية في عام 2023” الصادر عن الأمم المتحدة في مطلع العام الحالي، فهناك 473 مليون شخص حول العالم يعانون من سرطان البطالة، حيث بلغ معدل البطالة العالمي “الرسمي” نحو 5.8 % من حجم قوة العمل العالمية، هذا في الوقت الذي تعاني فيه أسواق العمل في البلدان ذات الدخل المرتفع من نقص في العمالة، ويعمل حوالي 6 ملايين ريبوت “إنسان آلي” في وظائف مختلفة بتلك البلدان، بحسب معهد الريبوتات السياقية بجامعة كاليفورنيا.

في الوقت نفسه يؤكد التقرير أن تباطؤ الاقتصادي العالمي الحالي سيجبر المزيد من العاملين على قبول وظائف منخفضة الأجر والجودة، تفتقر إلى الأمن الوظيفي والحماية الاجتماعية، مما سيؤدي إلى اتساع أوجه عدم المساواة حول العالم.

* الثورة الصناعية الرابعة

يقصد بالثــورة الصناعيــة الرابعــة ( 4IR) طريقــة لوصــف الانجــازات التكنولوجيــة الهائلــة المتزامنـة فـي نطاقـات واسـعة مـن المجـلات مـع الإشـارة إلـى طبيعتهـا غيـر المسـبوقة مـن التداخل فيمـا بينهـا.

يقول “شـواب”، مؤسس المنتدى الإقتصادي العالمي ومديره التنفيذي، فـي كتابـه “الثـورة الصناعيـة الرابعة” ، أن تلك الثورة التـي يشـهدها عصرنـا ترجع  إلـى التطـورات التكنولوجيـة التـي يجمعهـا عامل رئيسـي مشـترك، وهـو تسـخير القـوة واسـعة الانتشـار للرقمنـة وتكنولوجيـا المعلومـات بطريقـة غيـر مسـبوقة مـن قبـل. ويتوقـع “شـواب” أن يقود هـذا التحـول التكنولوجـي باندمـاج تكنولوجيـا تنبنـي علـى بعضهـا البعـض وتعـزز بعضها البعــض، مستفيدة من الإنجــازات الرئيســية في المجالات التي تتضمــن الــذكاء الاصطناعــي، والتحكـم الآلي، وإنترنـت الاشياء، والحوسـبة الكموميـة، وتخزيـن الطاقـة، والمركبـات ذاتيـة القيـادة، والطباعـة ثلاثية الابعاد، والتكنولوجيـا النانويـة، والتكنولوجيـا الحيويـة، وعلـم المـواد. ويعتمـد التطـور فـي كثيـر مـن هـذه المجالات اعتمادا كبيـرا علـى التقـدم فـي مجالات أخـرى، بحيث تصبح كل صناعة بالمجالات التي سبق ذكرها، مرتبطة وجوديا بصناعة أخرى في مجال آخر.

* كيف ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة على سوق العمل؟

على الرغم من وجاهة السؤال السابق في ظل الطفرة التي يشهدها استخدام انظمة الذكاء الصناعي ومنتجات الثورة الصناعية الرابعة، إلا إنك لن تجد إجابة مرضية لديك عزيزي القاريء في التقارير العالمية المتصلة بهذا الصدد، وغالبا ما ستجد “إجابات عائمة” تدور في المطلق حول إمكانية اختفاء وظائف مستقبلاً، وفي نفس الوقت الذي سيشهد ظهور وظائف أخرى لم تكن موجودة من قبل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول تقرير “متفائل” صدر بعنوان  “مستقبل الوظائف” بعام  2018 عن المنتدى الاقتصادي العالمي، أنه في الوقت الذي يتوقع فيه أن تختفي 75 مليون فرصة عمل حول العالم بعام 2022، ستتاح فيه 133 مليون فرصة عمل حول العالم بفضل استخدام منجزات الثورة الصناعية الرابعة، وهو الأمر الذي لم يحدث بل العكس، حيث شهد الاقتصاد العالمي بطالة ملايين العمال والموظفين حول العالم كنتيجة للأزمة الاقتصادية الحالية وتداعايات جائحة كورونا 2020.

 وعلى صعيد آخر صدر بحث عن كلية البحوث والسياسات بجامعة اوكسفورد عام 2013، لقياس مدى تأثير التقدم التكنولوجي على التشغيل، حيث عمل على تصنيف عدد 702 مهنة مختلفة في الولايات المتحدة الامريكية، للوقوف على تصنيفها وفقا لمقياس أكثرها عرضة لخطر الميكنة، وخلصا إلى أن 47% من إجمالي التشغيل في الولايات المتحدة الأمريكية معرض للخطر، ويبقى الشيء الأكثر وضوحاً بمختلف التقارير والأبحاث المتصلة بتأثير الذكاء الاصطناعي على أسواق العمل، هو التأكيد على تقلص عدد الوظائف التقليدية مستقبلاً، وإحلالها بالريبوت والميكنة الحديثة، بالإضافة إلى توقع إتساع الفجوة بين دول المركز الرأسمالي، التي ستحتكر منجزات الثورة الصناعية الرابعة، وبين دول الأطراف بالمنظومة الرأسمالية العالمية وبلدان الجنوب العالمي، كإنعكاس على التفاوت الكبير في حجم الدخل والثورة العالميتين وكذلك القدرة على تطوير عنصر العمل في كلا منها لمواكبة التطورات الراهنة والمستقبلية. يذكر أنه وفقا للتقارير المتصلة بقضية التفاوت على المستوى العالمي، أن 10% من سكان العالم يحصلون على 52% من إجمالي الدخل العالمي، بينما يحصل 50% من سكان العالم على أقل من 8.5% من إجمالي الدخل العالمي، وهو الأمر الذي لخصه تقرير صادر عن الأمم المتحدة في الآتي:

“أن ارتفاع مستوى التفاوت يقلل من فرص اكتساب المهارات، ويعثر الترقي الاقتصادي والاجتماعي، وتعثر التنمية البشرية، ومن ثم ينكمش النمو الاقتصادي. كما يؤدي ذلك إلى ترسيخ أجواء التخوف والهشاشة وانعدام الأمن، ويقوض الثقة في المؤسسات والحكومة، ويزيد الشقاق والتوترات بالمجتمعات”

يكفينا للتدليل على التفاوت “المريع” الحادث حالياً أنه وفقاً لمعدلات التفاوت الراهنة فإن الإقتصاد العالمي بحاجة إلى أن يكون أكبر مما هو عليه 175 مرة حتى يتسنى لجميع سكان العالم أن يحصلوا على 5 دولارات في اليوم !

وفي ظل تلك الحقائق “المؤسفة” يحق لنا كيسار أن نتشكك في إمكانية استفادة الطبقة العاملة عموماً، والطبقة العاملة في بلادنا خصوصاً من إمكانية الإستفادة من التطورات التكنولوجية الراهنة والتسابق المحموم نحو الميكنة والإعتماد على الريبوتات.

* ما الدافع الحقيقي وراء كل هذا السعي نحو الميكنة والذكاء الاصطناعي؟

لا يمكن فهم الخطوات التي تخطوها الرأسمالية حالياً نحو تعميم منتجات الثورة التكنولوجية الرابعة ومنها الذكاء الاصطناعي واستخدام الريبوت، إلا بفهم طبيعة عمل الرأسمالية كنظام إنتاج، يسعى طوال الوقت إلى ضمان الزيادة المضطردة في القدرة الانتاجية، لضمان الوصول إلى أقصى ربح ممكن، سواء بزيادة إجمالي المعروض من السلع والخدمات بالأسواق عن طريق زيادة إنتاج ما هو قائم منها، أو عن طريق خلق سلع وخدمات جديدة، أو تقليل تكاليف إنتاجها، وقد وجدت “الرأسمالية” ضالتها في التقدم التكنولوجي والثورات العلمية المتتابعة، اللذان ضمنا لها تحقيق الأهداف السابقة (المتعلقة بزيادة الانتاج وتقليل التكلفة) ومن ثم التغلب على معضلة ميل معدل الربح للتناقص في الآجل الطويل .

أين المشكلة؟

للوهلة الأولى قد يعتقد البعض أن اليسار بصدد إطلاق ثورة “لاضية” جديدة لتحطيم الريبوتات ومحاصرة أنظمة الذكاء الاصطناعي، خاصة في ظل الاتهامات المعتادة التي يطنطن بها “اليمين” حول معاداة اليسار والاشتراكية لكل ما هو جديد/ تحديث، والواقع أننا بعيدون كل البعد عن تلك الدعاوي “الرجعية”، والعكس هو الصحيح أننا ومنذ ظهور الأفكار والتنظيمات الاشتراكية قد دافعنا عن قضية التقدم الإنساني، ومؤمنون بحتمية التغيير الدائم والمستمر كونه قانون طبيعي لحركة العالم، إننا لا نطالب بتبطيء وتيرة التحديث التكنولوجي بل نطالب بوجوب وضرورة ألا تستأثر طبقة واحدة تمثل أقلية عالمية بثمار التقدم التكنولوجي ومنجزات الثورات العلمية، بينما تعاني الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين من شبح البطالة وجحيم الفقر والعوز، اننا نناضل من أجل إحلال نظام عالمي جديد محل النظام العالمي القائم الذي يسعى لتهميش عمل الإنسان إلى أقل حد ممكن لزيادة معدلات الاستغلال الطبقي ومراكمة الأرباح. أن جوهر التناقض بالنظام الرأسمالي هو التناقض بين الطابع الجماعي للإنتاج والطابع الفردي للملكية ، والذي يسعى الرأسماليون لحله عبر طرد عنصر العمل خارج العملية الإنتاجية، بينما نناضل نحن لتوسيع ملكية الشعوب لوسائل إنتاجها لضمان توزيع عادل للدخل والثروة، عوضاً عن واقع إنعدام العدالة والتفاوت القائم حالياً.

“تنويه: ينشر موقع درب الإخباري ملفات ومقالات العدد الثالث من مجلة التحالف والصادر بمناسبة عيدالعمال”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *