ريهام الحكيم تكتب: لبنان.. من الأزمة الاقتصادية.. إلى عودة الثورة الشعبية

تجدّدت الاحتجاجات الشعبية في لبنان الأسبوع الماضي، رفضاً للواقع الاقتصادي المتردي وتنديداً بالمنظومة السياسية الحاكمة.

 شهدت العاصمة بيروت ومناطق أخرى الاسبوع الماضي، احتجاجات وتظاهرات شابتها أعمال عنف، فيما يعد أركان السلطة بوقف هبوط سعر صرف الليرة مقابل الدولار وبالسعي إلى تحريك العجلة الاقتصاديّة التي فاقمتها أزمة كورونا والإجراءات المتخذة إزاءها.

في “اللقاء الوطني” الذي دعا إليه رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون الخميس 25 يونيو 2019، وجه عون تحذيرا شديد اللهجة لمن يريدون “العبث بالأمن والشارع” مشددا على أن السلم الأهلي في البلاد “خط أحمر” يجب على كافة الأطراف السياسية التكاتف من أجل الحفاظ عليه. أما المحتجّون، فلا يصدّقون الوعود التي تطلقها الحكومة ويعتبرونها مجرد مسكّنات لن تحل الأزمة المتفاقمة.

 وتترافق الأزمة الاقتصادية التي تُوصف بالأسوأ منذ عقود، مع نقص في السيولة وعجز المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم، خصوصاً تلك المودعة بالدولار الأميركي.

ويُتوقع أن يلامس التضخم في لبنان خلال العام الحالي نسبة 50 في المئة، بينما يعيش نحو 45 في المئة من سكانه تحت خط الفقر وتعاني أكثر من 35 في المئة من قوته العاملة من البطالة.” تقرير الانديبندنت”

الاحتجاجات الشعبية في لبنان انطلقت في  أكتوبر الماضي  ضد الطبقة السياسية، احتجاجاً على التردي المعيشي
 والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية والبطالة, نتجت عن تلك التظاهرات الحاشدة استقالة حكومة سعد الحريري بعد أقل من أسبوعين من بدء الاحتجاجات. وتشكلت حكومة جديدة برئاسة حسان دياب في يناير الماضي ، وتراجعت بشكل عام وتيرة الاحتجاجات لاحقاً بعد تسجيل إصابات عديدة بوباء كوفيد-19 في لبنان.

في طرابلس ، اعترض متظاهرون الاسبوع الماضي مسار شاحنات كانت متجهة إلى سوريا، اشتُبه في أنها تهرّب مواد غذائية.

الطبقة الحاكمة والشارع المحتقن

 الطبقة السياسية الممسكة بمفاصل الدولة أوصلت الشعب إلى حد اليأس, بعد ان ضربت المحاصصة والفساد اركان الدولة, تهم طالت النخب السياسية بالسيطرة على القطاع المالي من خلال التلاعب بسعر الدولار وشرائه لإخراجه من البلد.

الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان عام 1990 , متهمة بالتحيز لمصالحها السياسية على حساب المواطن, وأبرز الملفات هى العبث بإستقلالية القضاء اللبناني عن طريق التدخل في التشكيلات القضائية, وعمليات التهريب عبر المعابر الغير شرعية, والمحاصصة في التعينات والوظائف المالية والادارية والبطالة المقنعة.

ويذكر أن صندوق النقد الدولي كان قد اشترط وضع اصلاحات جذرية في منظومة الادارة والقضاء في لبنان اثناء المفاوضات التي تجريها الحكومة اللبنانية من أجل الحصول على مساعدات مالية.

كما عمد كلا من ميشال عون رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حسان دياب بحملة تستهدف إقالة حاكم مصرف لبنان – محافظ البنك المركزي اللبناني – رياض سلامة وتحميله مسئولية التدهور الاقتصادي المالي، وسط خلافات بين الزعماء السياسيين وسيناريوهات التوافق حول المصالح, وهو ما قوبل بالرفض من قبل الشارع اللبناني بعبارات حملت معنى ” ليس رياض سلامة وحده المسئول، بل كل القوى السياسية المتهمة بالمشاركة في الهدر والفساد. “

وتأتي ارتباطات بعض الطوائف بجهات خارجية، معطوفة على تحالفاتها الداخلية، والتي باتت عاملاً سياسياً مهماً في تفسير أسباب ما آل إليه الاقتصاد اللبناني من تدهور، وهو ما يعيبه العديد من الفرقاء على “حزب الله” المسلح والمدعوم مالياً من إيران، والمنغمس في حروب المنطقة ولا سيما في الحرب السورية.

وبات الحليف الرئيسي لحزب الله داخل البرلمان ، رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون و”التيار الوطني الحر” بقيادة جبران باسيل – صهر ميشال عون – هذا التحالف الذي جمع بين حزب الله و التيار الوطني الحر هو الذي أوصل عون إلى الرئاسة الأولى آخر العام 2016.

الاحتجاجات الشعبية الاخيرة في لبنان حملت الطابع السلمي – مع وجود تخوفات من ادخال المشهد المسلح مرة اخرى – المطالبات بتغيير النظام أخذت شكل الرفض لكل الطبقة السياسية – حاملين شعار “كلن يعني كلن” و ” لا ثقة” و ” أرحلوا”  – والمطالبة بدولة علمانية وانهاء كافة اشكال المحاصصة الطائفية في المشهد السياسي .

 و بعد تكشف الأزمة الاقتصادية اللبنانية، استمرت المطالب ذات الطابع الثوري بالانتقال إلى دولة علمانية لا طائفية، ومطالب اخري  بإدخال تعديلات على التوازنات الطائفية القائمة أو ادخال اصلاحات في النظام السياسي الحالي.

الحرب الأهلية وترتيب الأوراق السياسية

منذ اقرار وثيقة ” الوفاق الوطني” ما يعرف بـ اتفاق الطائف في نوفمبر 1989, هذا الاتفاق  الذي شارك فية 62 نائباً في البرلمان اللبناني لوضع حداً للحرب الأهلية التي استمرت أكثر من 14 عاماً ( 1975- 1989).

شهد لبنان بعد انتهاء الحرب خمسة عهود رئاسية شملت 18 حكومة, وطبقاً لـ “الميثاق الوطني اللبناني” ,الذي اسسه كلاً من بشارة الخوري أول رئيس لدولة لبنان ما بعد الاستقلال 1943 و رياض الصلح رئيس الحكومة في الدولة الجديدة , الذي نص على توزيع السلطة بين رئيس جمهورية من الطائفة المسيحية المارونية ورئيس حكومة من الطائفة المسلمة السنية ورئيس البرلمان من الطائفة المسلمة الشيعية.

شهدت لبنان حرباً اهلية طاحنة لمدة خمسة عشر عاماً ( 1975- 1990), قُتل فيها مئات الآلاف, بدأت تلك الحرب عام 1975 بقتال بين ميليشيات مسيحية من طائفة الموارنة (السلطة الأعلى في البلاد آانذاك ) ضد مقاتلين فلسطنيين – منظمة التحرير الفليسطينية  – بعد ان هددت الأخيرة بإخضاع بيروت لسيطرتها, ثم توسع القتال وصار بين (المسيحيين الموارنة اصحاب التوجة اليميني) من جهة, و ( القوميين واليساروالمسلمين الشيعة ومنظمة التحرير الفلسطنية) من جهة أخرى.

 وفي عام 1982 توغلت اسرائيل في لبنان لطرد منظمة التحرير بمساعدة بشير الجميل قائد ميليشا “الكتائب” المسيحية المارونية, نجحت اسرائيل في احتلال بيروت العاصمة وطرد ياسر عرفات من لبنان ثم انسحبت  من بيروت واستمرت باحتلال جنوب لبنان حتى التحريرعام 2000.

كما فرض الجيش السوري نفسة على الأراضي اللبنانية عام 1976 بمباركة يمينية مارونية ثم تحول النظام السوري  إلى جبهة (اليساروالمسلمين الشيعة والمقاتلين الفلسطنيين) خلال الحرب, وخرجت القوات السورية من الأراضي اللبنانية عام 2005.

قبل الحرب الاهلية 1975 كان المسيحيون الموارنة يتمتعون بإمتيازات سياسية أهمها ضمان أغلبية لهم في البرلمان, وكان على المسلمين السنة والشيعة والدروز والأرثوزكس وباقي الأقليات الرضوخ للسيادة الاقتصادية للمسيحيين الموارنة.

ولكن هزيمة المسيحيين الموارنة في الحرب الأهلية كان لها عواقب وخيمة عليهم تمثلت في الاتفاقات التي أعقبت المصالحة الوطنية في الطائف , ومنها تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتقليص عدد مقاعد البرلمان المخصصة لهم.

أُعيد خلط الأوراق واتفق الأطراف المتحاربة على تقسيم السلطة بنظام محاصصة صارم, يراعي مخاوف الأقليات الدينية, تلك المحاصصة التي تسببت في تفكك المجتمع متعدد الثقافات إلى مكوناته الفردية. ” تقرير DW

تم توزيع مقاعد مجلس النواب, مناصفة بين المسيحيين والمسلمين,التقاسم الطائفي أمتد ليشمل جميع المناصب الهامة في الدولة, فقائد الجيش مسيحي ماروني, ووزير الداخلية مسلم سني, ومدير المخابرات العسكرية مسلم سني.

من الحرب إلي السياسية

تحولت الميليشات المسلحة التي حملت اجندات إقليمية ودولية أثناء الحرب, واشعلت ارض لبنان بالخراب والدمار والقتل إلى العملية السياسية و أصبحت تسيطر على القرار اللبناني و مسار مستقبله منذ 1990 وحتى برلمان 2018.

يأتي على رأسهم “حزب الله” بزعامة حسن نصرالله ( مسلم شيعي يتبع المرجعية الدينية في إيران) و”حركة أمل” بزعامة نبيه بري رئيس البرلمان الحالي( مسلم شيعي يتبع النظام السوري والمرجعية الدينية في العراق).

تيار المستقبل” بزعامة سعد الحريرى ( لبناني/ سعودي/فرنسى الجنسية) مسلم سني ابن رفيق الحريري (لبناني/سعودي الجنسية), و”الحزب التقدمي الإشتراكي” بزعامة وليد جنبلاط ابن كمال جنبلاط وزير الداخلية الأسبق وزعيم الحركة الوطنية ابان الحرب الأهلية ( طائفة الدروز).

أما المسيحيون الموارنة, فـ”التيار الوطني الحر” بزعامة ميشال عون  رئيس الجمهورية الحالي وصهره جبران باسيل, وحزب “الكتائب” بزعامة عائلة بيير الجميل وابنائه واحفاده و حزب ” القوات اللبنانية” بزعامة سمير جعجع المدان من قبل القضاء اللبناني بإرتكاب جرائم قتل وعمليات اغتيال خلال فترة الحرب. أما “تيار المردة” بزعامة عائلة سليمان فرنجيه رئيس الجمهورية الأسبق وأولاده وأحفاده.

أنتهت الحرب ولم تنتهي المعاناه  

خلال الخمس سنوات الأخيرة ارتفعت نسبة الفقر في لبنان إلى 60%, بالاضافة إلى غياب الرعاية الإجتماعية والخدمات الصحية وانقطاع شبه دائم للكهرباء والمياه ” فرانس 24

لبنان يعد أحد أعلى الدول في معدلات الدين العام في العالم بالنسبة لحجم الاقتصاد, فالموازنة اللبنانية مثقلة بالدين والعملة اللبنانية “الليرة” في مقدمة الضحايا بعدما تخطى سعر صرف الليرة في السوق السوداء عتبة الخمسة آلاف ليرة حينها في السوق السوداء, ثم ارتفع مجددا هذا الأسبوع ليتجاوز الستة آلاف, الأمر الذي تسبب في ارتفاع جنوني للأسعار.

حجبت البنوك اللبنانية عملة الدولار عن المودعين، وانتشرت عمليات احتكارفي السوق السوداء تحكمت في العملة الصعبة وجعلتها تخضع للعرض والطلب والظروف السياسية, ولا يعتبر سعر صرف الدولار سبباً وحيداً لإرتفاع أسعار المواد الاستهلاكية فالموازنة اللبنانية لعام 2019 تضمنت ضرائب جديدة ومتشعبة على مواد استهلاكية عدة.

 عقب 2011 دخل أكثر من مليون لاجئ سوري إلي لبنان, وهى الأزمة التي تلقي بثقلها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني منذ سنوات, فتلك الاعداد الكبيرة من العمال السوريين قد أصبحوا منافساً حقيقياً للعامل اللبناني.

أندلعت الانتفاضة الشعبية في لبنان 17 أكتوبر 2019 بفعل تراكم الغضب بسبب معدل التضخم واقتراحات بفرض ضرائب جديدة وارتفاع تكلفة المعيشة, صاحبت تلك الاحتجاجات فشلا حكومياً في تطبيق إصلاحات ضرورية لحل الأزمة.

مطالب شعبية للتغيير

لم تختلف المطالب الشعبية في لبنان عن باقي ثوارات الشعوب العربية, المعاناه داخل الشارع اللبناني لم تفرق بين مسلم ومسيحي, الثورة ايضا لم تفرق بين لبناني وأخر, توحدت مطالبهم كما توحدت معاناتهم.

انصبت مطالب الشارع اللبناني الغاضب على انهاء الفساد المتوغل داخل الطبقة الحاكمة و رفع السرية المصرفية عن حسابات المسؤولين خارج وداخل لبنان.

كما طالب المحتجون بـ ” قانون انتخابات جديد يُنهي كافة اشكال المحاصصة الطائفية, تشكيل حكومة انتقالية تكنوقراط بعيدة عن النخبة السياسية الحالية و مصادرة أموال كل زعماء الأحزاب والرؤساء والوزراء واستعادة جميع الأموال المنهوبة والمهربة, استقلال القضاء ووقف الرواتب التقاعدية للنواب والوزراء”.

مطالب وحدت الشعب اللبناني بعد ان فرقته الحروب والخطاب الطائفي للسياسيين, لم يطمح الشعب اللبناني إلى الحل الشامل  بل أكتفوا بحلول واقتراحات عملية لإعادة الثقة بلبنان وانقاذه من هاوية الانهيار الاقتصادي.

الشارع الثائر منذ شهور يطالب بالإصلاح وانهاء تلك الطبقة الحاكمة التي تصدرت المشهد السياسي منذ 1990, عقب تركهم السلاح بعد انتهاء الحرب وارتداء عباءة السياسيين والمصلحين.

الثورة في لبنان رصدت الاختلال العميق في الاقتصاد اللبناني و التشوهات التي نتجت عن ثلاثون عاماً من السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة, والتي سبقتها خمسة عشر عاماً من حروب مدمرة أطاحت بالكثير من البنى الاقتصادية والصناعية وحتى الانسانية وجعلت الأولوية للنظام الحاكم الحالي تنصب على اتخاذ إجراءات إنقاذية ملحة لوضع حد للانهيار الاقتصادي المتسارع الذي يدفع المواطنين للنزول إلى الشارع.

#لبنان_ينتفض
#كلن_يعني_كلن
#لا_ثقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *