دراسة: كيف انتقل الإنسان الأول من إفريقيا إلى قارات العالم القديم.. مصر كانت أحد الطرق الرئيسة

الدراسة تطرح التساؤل حول كيفية وأسباب انتقال الإنسان من إفريقيا إلى آسيا وأوروبا

الدراسات الحديثة تؤكد أن الإنسان الحديث عاش قبل 315 ألف سنة.. وأن الطبيعة أجبرته على التمدد شمالا وجنوبا

ترجمة – هدير أحمد سيد

في دراسة حديثة، أجراها كريستوفر باي أستاذ الأنثروبولجيا بجامعة هاواي في ماتوا، يؤكد الباحث، أن الموطن الأصلي للإنسان الحديث كان في قارة إفريقيا، حيث انطلق منها إلى قارات العالم القديم، متوغلا في القارة السمراء ومنتشرًا في أوروبا وآسيا وصولا إلى أرخبيل اليابان.
وتسلط الدراسة الضوء على الأسباب والدوافع التي أجبرت الإنسان الحديث على الانتقال والتي كان من أهمها البحث عن موارد المياه ومناطق جديدة وفيرة الغذاء، مشيرة إلى أن الطريق عبر مصر وسيناء كان أحد الممرات الرئيسية التي عبرها خرج الإنسان من إفريقيا.

وإلى نص الدراسة…

الطريق إلى آسيا 

مع تعاقب الأدلة الجديدة حول البشر القدامى الذين عاشوا في آسيا..ربما نحتاج إلى إعادة تدوين قصة النوع البشري من جديد. 

نشأ الإنسان المعاصر تحديدًا في أفريقيا منذ مائتا ألف عام تقريبًا، ثم بدأ بالانتشار عبر أوراسيا (أوروبا وآسيا) منذ حوالي ستين ألف عام، ليحل محل كُل سكان تلك المناطق الأصليين دون حدوث تزاوج بينهم.
يسمى هذا النموذج – كما هو شائع – بنموذج “الخروج من إفريقيا” ‘Out of Africa’ [أو الأصل الإفريقي للإنسان العاقل]، وقد لاقت افتراضاته قبولًا واسعًا من قبل علماء مستحاثات البشر/ الحفريات البشرية في فترة التسعينات خاصة عندما بدا أن التحليلات الأولية للحمض النووي (DNA) للإنسان من نوع نياندرتال Neanderthal تشير إلى عدم حدوث تزاوج بينه وبين الإنسان الحديث.. بيد أن هذه الفكرة أضحت بحاجة إلى المراجعة، لاسيما في ظل الأدلة الهامة التي تم جمعها عبر قارة آسيا على مدى العقود القليلة الماضية. 

على سبيل المثال، أضحى واضحًا مع اكتشاف “الهوبيت” ‘Hobbit’ أو ما يعرف بـ إنسان فلوريس (Homo floresiensis)، وهو نوع من البشر الأقزام يُعتقد أن طولهم قد بلغ حوالي أربعة أقدام (1.2 متر)، أن الأرض قد شهدت أنواعًا عديدة و مختلفة من أشباه البشر خلال العصر البليستوسيني (الجليدي) المتأخر ( منذ 12 ألف إلى 127 ألف عام). كما أن العديد من الحفريات الجديدة التي تم العثور عليها على مدى العقد الماضي، خاصة في الصين، والتي يُعتقد حاليًا بأن تاريخها يعود بشكل مبدئي لأكثر من 60 ألف عام، تضع الفكرة القائلة بهجرة الإنسان المعاصر خارج أفريقيا منذ 60 ألف عام فقط محل تساؤلٍ وشك. خذ على سبيل المثال الاكتشاف الحديث لاثنتين من الأسنان البشرية عُثر عليهما داخل كهف لونا Luna في منطقة قوانغشي ذاتية الحكم لقومية تشوانغ بالصين، فعندما قمت مع فريقي البحثي بتحليل الطبقات الحجرية المترسبة – الأحجار التي تشكلت من تسرب مياه الأمطار داخل الكهف- أعلى وأسفل موقع الاسنان البشرية مباشرة، باستخدام طريقة تأريخ جازمة تسمى سلاسل اليورانيوم، وجدنا أن تاريخها يعود إلى ما بين 70 و 126 ألف سنة خلت؛ ومن المستحيل حدوث ذلك إذا كان البشر الحديثون قد خرجوا من أفريقيا منذ 60 ألف سنة فقط. 

لذا، وفي ضوء هذه الاكتشافات، ما الذي حدث بالضبط؟ من أين جاء البشر الحديثون، وفقًا لأحدث البيانات الحديثة؟ هكذا تتشكل قصتنا اليوم…

[ الارتحال من أفريقيا…كيف/ إلى أين ولماذا]

إن السؤال الأول الذي ينبغي علينا أن نسأله هو: لماذا غادر الإنسان الحديث – والذي يُعتقد الآن في ظهوره منذ حوالي 315 ألف سنة- القارة الإفريقية في المقام الأول؟ فإذا تكيفت مجموعة من السكان بطريقة مثالية مع بيئة معينة، وتمكنت كذلك من الوصول إلى مواردها الوفيرة لن يكون هناك سبب حقيقي يدفعها إلى الإنتقال أو تغيير بيئتها. على سبيل المثال، لدى الترسيرات- تلك الرئيسيات الظريفة بحجمها الصغير وعيونها الكبيرة الواسعة- مجموعة من الأسنان التي لم تتغير سوى بشكل طفيف على مدار ملايين السنين، ما قد يشير إلى/ يوحي بأنها استطاعت إيجاد بيئة ملائمة وبقيت بها بسعادة. إلا أن الترسيرات قد انتقلت بالفعل من موطنها الأصلي في أوروبا إلى موطنها الحالي في جنوب شرق آسيا ويعزى ذلك إلى التغيرات البيئية. 

إذن ما الذي حدث مع البشر؟ يعتقد بعض الباحثين أن الكثافة السكانية قد ارتفعت إلى الحد الذي أجبرت معه بعض المجموعات البشرية الأصغر والباحثة عن الطعام على السعي لاكتشاف أراضٍ جديدة، فيما يعتقد آخرون أن بعض الاحداث البيئية الجسيمة (كفترة جفاف شديد حدثت منذ 60 ألف عام)  قد أجبرت البشر القدامى على البحث عن مراعي أكثر خصوبة. غير أن أحد التفسيرات المحتملة قد يكون ببساطة أن البشر الحديثون الأوائل قد انتقلوا خارج أفريقيا عبر جسور برية أثناء بحثهم عن الطعام، دون أن يدركوا أنهم يعبرون بالفعل من قارة إلى أخرى.
 
احتاج البشر إلى منفذ يومي للمياه العذبة وهو الشئ الذي غاب عن العديد من المناطق الساحلية

يقودنا هذا إلى سؤالٍ آخر: ما هو الطريق الذي سلكه البشر المعاصرون للخروج من إفريقيا؟ لا يبدو أن هناك طرق واضحة عبر المتوسط شمال إفريقيا، لذلك من المحتمل أن تكون حركات الانتشار المبكر من إفريقيا إلى أوراسيا قد حدثت عبر شبه الجزيرة العربية. كذلك فإن أحد الاحتمالات الممكنة هي عبورهم مضيق باب المندب إلى الأراضي اليمنية المتجمدة (ربما تطلب ذلك عبور المياه حتى خلال الفترات الجليدية العظمى)، ولكن الإحتمال الأكبر أنهم سافروا من شمال مصر إلى شبه جزيرة سيناء، و بدأوا  بالانتشار في بلاد الشام منذ ما يقارب 200 ألف سنة وهو ما تدعمه الأدلة الحديثة التي عُثر عليها داخل كهف ميسليا في فلسطين المحتلة. 

وصل البشر الأوائل، كما هو ممثل في مواقع مثل كهوف ميسليا، والقفزة، والسخول، إلى أقصى الشمال في إسرائيل، ويبدو أن معظم حركات الانتشار السابقة قد اتبعت على نحو أكبر الطريق الجنوبي، بمحاذاة سلسلة جبال الهيمالايا الرهيبة وهضبة تشينغهاي – التبت حتى وصلت في النهاية إلى وسط الصين وشبه جزيرة الهند الصينية جنوب شرق آسيا وأستراليا. كانت تلك الهجرات المبكرة للبشر العقلاء (Homo sapiens) أصغر بكثير في الحجم من الهجرات اللاحقة. ومع تحسن قدرة التكنولوجيا الجينية على سَلسَلة المزيد من الأحماض النووية الأقدم تمكنا من تتبع تلك الهجرات المبكرة في السجل الأحفوري واقتفاء أثر البشر الغابرين. وبالفعل، وجدت إحدى الدراسات الجينية الحديثة والتي نشرت في مجلة نيتشر Nature البريطانية، أن 2% من الحمض النووي لسكان بابوا غينيا الجديدة الحاليين يعود للبشر من مرحلة الانتشار الأولى. 

بعدها، منذ قرابة الـ 60 ألف عام، شرع البشر بالخروج من إفريقيا بأعدادٍ أكبر بكثير، سالكين في آن واحد كلا الاتجاهين الشمالي والجنوبي. نتج عن التوسع في اتجاه الشمال إعمار أوروبا وسيبيريا وربما الأرخبيل الياباني ثم الوصول إلى الأمريكتين في نهاية المطاف عبر جسر بيرنجيا. 

في حين مر الطريق الجنوبي عبر شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وتمدد في نهاية الأمر عبر المحيط الهادئ. وقد إرتأت الدراسات الجينية والأثرية المبكرة بأن التقدم خلال هذا المسار الجنوبي قد حدث بشكل متسارع و بمحاذاة الساحل عن قرب، لكننا لم نعد على يقين من هذا الافتراض اليوم نظرًا لقلة الأدلة الأثرية على ذلك، بالإضافة إلى غياب الأجراف الساحلية المنخفضة والمنبسطة التي من المحتمل أن تتحول إلى أراضي جافة عند انخفاض مستوى البحر خلال الفترات الجليدية (بحيث تمكن البشر من العبور). علاوة على ذلك فإن البشر كمعظم الثدييات احتاجوا إلى منفذ يومي للمياه العذبة وهو الشئ الذي افتقدته العديد من المناطق الساحلية، ووجد في الحقيقة في المناطق البرية/ الداخلية. إذًا يوجد العديد من الأدلة الداعمة لحركة البشر على طول المسار الجنوبي، إلا أنهم لم يتقيدوا بالضرورة بالتحرك بمحاذاة الساحل. 
………………………………………………………………….

[غرباء يشبهوننا…]
عندما وصل البشر الحديثون إلى تلك المناطق المختلفة من آسيا، كانوا مندهشين على الأرجح من وجود أُناسُ يشبهونهم بطريقة ما. بمن التقى البشر الحديثون لدى وصولهم إلى آسيا؟ 
يفيد عدد هائل من الدراسات الحديثة التي أُجريت في وسط آسيا وسيبريا بأن إنسان النياندرتال لم يبق في أوروبا وبلاد الشام، بل سافر هو الآخر مثل باقي الأنواع، ومن المحتمل أن يكون هو من إلتقينا به عند وصولنا إلى آسيا. ومن المثير للاهتمام أن كتب بعض علماء المستحاثات البشرية أثناء عملهم فيما مضى في كوريا الشمالية، أنهم قد عثروا على حفريات تشبه تلك التي للنياندرتال، وطالما إعتُقد أن جمجمة مابا الجزئية التي تم العثور عليها في جنوب شرق الصين تماثل جمجمة النياندرتال، وربما كان من الممكن تعريفها على هذا النحو في وقت سابق لو عُثر عليها في الغرب.

مثّل “الإنسان العاقل القديم/البائد” ‘archaic Homo sapiens’ نوعًا آخرًا من الأسلاف البشرية التي كانت موجودة في المنطقة لدى وصول الإنسان الحديث إليها. ولما كان من الثقل وصف كائنات شبيهة إلى حد بعيد بالإنسان الحديث بأنها “قديمة”، شرع عدد متزايد من علماء المستحاثات البشرية بإطلاق إسم إنسان هايدلبيرغ Homo heidelbergensis أو ببساطة إنسان العصر البليستوسيني الأوسط على حفريات ذلك النوع من أشباه البشر. وتشير الأدلة العلمية إلى أنه من السهل وضع/تصنيف حفريات أشباه البشر التي وجدت في أوروبا وإفريقيا ما بين 300 إلى 500 ألف عام ضمن أُصنوفة إنسان هايدلبيرغ، ولكن حين يتعلق الأمر بالحفريات التي وجدت في آسيا لا يبقى الأمر على هذا القدر من السهولة.  لذلك إرتأى البعض أنه من الأنسب الإستمرار في استخدام مصطلح مثل الانسان العاقل القديم archaic H sapiens أو مصطلح انسان العصر البيلوستسيني الأوسط mid-Pleistocene Homo لحين اكتشاف أحافير و/أو تطوير طرق جديدة لدراسة هذا النوع من الحفريات البشرية (التي ليست للإنسان المنتصب H erectus كما أنها ليست لإنسان نياندرتال أو كذا للإنسان الحديث) تمكننا من استجلاء العلاقة التطورية بين مختلف الأنواع البشرية التي عاشت في إفريقيا وأوروبا وآسيا في نفس الوقت تقريبًا. فمازالت الصورة أكثر ضبابية إلى حد ما بالنسبة للقارة الآسيوية، وذلك نظرًا إلى أنه من غير الواضح بعد ما إذا كان انسان العصر البليستوسيني الأوسط mid-Pleistocene Homo قد انحدر مباشرة من الإنسان المنتصب H erectus المحلي، أم أنه نتاج هجرةٍ مبكرة، تمثل كما يرى البعض حدثًا إحلاليًا مبكرًا.

في أوائل العقد الأول من القرن الحالي أدت عمليات التنقيب على جزيرة فلوريس الإندونيسية إلى اكتشاف سلسلة حفريات غير مألوفة إلى حد بعيد لأشباه بشر، يُعتقد الآن  أن تاريخها يعود إلى ما بين 600 إلى 100 ألف سنة خلت. تميزت هذه الحفريات بقصر قامتها وصغر حجم رأسها للغاية: لهذا السبب لُقبت بـ الهوبيت (كان الجزء الأول من فيلم مملكة الخواتم Lord of the Rings قد أُطلق لتوه). عقب اكتشافها أُثيرت العديد من الأسئلة حول ما إذا كانت هذه الحفريات لمجموعة صغيرة من السكان المنعزلين فطريًا، قد يكون سلفهم هو الإنسان المنتصب  H erectus أو الهومو هابيليس/ الإنسان الماهر H habilis أم أنها  ببساطة لبشر عاقلين عانوا من مجموعة من الأمراض المحتملة تراوحت ما بين مرض  صغر الرأس إلى متلازمة لارون [أو التقزم]. 

قد يكون الدينيسوفان مجرد مجموعة صغيرة من الباحثين عن الطعام تمددت باتجاه الشمال بدلًا من كونها جزءًا من توسع سكاني أكبر.

يرى معظم الباحثين أن الأدلة الداعمة لكون انسان فلورنس نوعًا جديدًا من أشباه البشر هي أدلة دامغة، وعلى الرغم من ذلك لم يُتخذ قط قرارًا قطعيًا بهذا الشأن. بل وعلى العكس، أوضح بعض الباحثين مؤخرًا أن إنسان فلورنس قد يكون نتاج تزاوج بين نوعين آخرين هما الانسان المنتصب وانسان العصر البيلوستيني الأوسط، أو -وهو أمر لم يتم تحديده بعد- بين نوع من أشباه البشر والإنسان المعاصر. 

يؤمن معظم الباحثين بأن إنسان فلورنس قد بقي معزولًا لفترةٍ طويلةٍ جدًا من الزمن استمر خلالها أفراده بالتزاوج فيما بينهم على مدى أجيال طويلة، بيد أن جزيرة فلورنس ليست بهذا القدر من الصغر، كما أننا نعلم على وجه اليقين أن البشر المعاصرون قد مروا بها في طريقهم إلى جزيرة غينيا الجديدة وصولًا إلى أستراليا بغرض استكشاف تلك الأراضي والتزود بالمؤن. سيكون من العجيب عدم مقابلة انسان فلورنس لأي نوع بشري آخر قط على مدى عشرات وربما مئات الآلاف من السنين التي عاشها على تلك الجزيرة. لذا فإنه من الصعب تجاهل افتراض حدوث تزاوج بينه وبين أنواع أخرى.

على مدار عقد مضى أو نحو ذلك ميزت الدراسات الجينية مجتمعًا جديدًا من أشباه البشر هو مجتمع الدينيسوفان. قادنا تحليل الجينات لإصبع وسن بشريين تم العثور عليهما داخل كهف دينيسوفا بسيبريا إلى التعرف على إنسان الدينيسوفان، بينما جاءت الدراسات المورفولوجية لحفرياته غامضة فيما يتعلق بتحديد إلى أي الأنواع البشرية ينتمي إنسان الدينيسوفان بالفعل. وبالنظر إلى أن الاختلافات الأولية التي ميزت انسان الدينيسوفان قد ظهرت عن طريق تحليل الجينات بدلًا من التحليلات المقارنة للهيكل العظمي، لم يتم تعيين اسم للدينيسوفان كنوع بشري جديد (مثل هومو دينيسوفان) وعوضًا عن ذلك تم اعتبارهم ببساطة “سكان” / مجتمع دينيسوفا. وتجرى حاليًا أعدادًا متزايدة من دراسات الهيكل العظمي المقارنة بين حفريات إنسان الدينيسوفان والأنواع البشرية الأخرى المعروفة لدينا لتحديد ما إذا كان هناك بالفعل هيكلا عظميا متمايزا للدينيسوفان، لم نستطع بعد التعرف عليه. 

على سبيل المثال تمكنت إحدى الدراسات من رصد مجموعة من التشابهات مع الإنسان المنتصب بموقع سانجيران في إندونيسيا بعد تحليل أضراسه، وكذلك مع إنسان العصر البليستوسيني الأوسط بموقع Xujiayao في شمال الصين. سجلت دراسة أخرى وجود تشابهات بين أسنان الدينوسوفان مع تلك التي عثر عليها في مواقع آسيا الوسطى الأخرى الواقعة بالغرب. مع الاهتمام الكبير الذي يوليه العلماء لإيجاد هيكلًا عظميًا للدينيسوفان، سيكون الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن نتمكن من إيجاد روابط واضحة بين الحفريات من كهف دينيسوفا في روسيا وحفريات الأنواع الأخرى المعروفة. 

ومع هذا، يقترح علم الوراثة بأن الدينيسوفان كانوا منتشرين على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا، كما تشهد بذلك الأدلة على وجود نسبة منخفضة من الحمض النووي للدينيسوفان في البشر المعاصرين من سكان ميلانيزيا وشرق أستراليا. إذا كان هذا صحيحًا، فقد يكون سكان هذا الكهف من الدينيسوفان مجرد مجموعة صغيرة من الباحثين عن الطعام تمددت باتجاه الشمال بدلًا من كونها جزءًا من توسع سكاني أكبر عبر الشمال. تجبر الاكتشافات من كهف دينيسوفان علماء مستحاثات البشر على تغيير وجهة نظرهم حول كيفية تواجد مجموعات سكانية مختلفة في آسيا خلال العصر الجليدي. 
……………………………………………………………………..

[ما الذي حدث عندما التقت الأنواع البشرية المختلفة بآسيا؟]

ما الذي حدث عندما التقت هذه الأنواع البشرية المختلفة في آسيا؟ تمدنا علوم الوراثة والآثار والحفريات نفسها ببعض الأدلة لسبر أغوار هذا اللغز. تقطع العديد من الدراسات بحدوث تزاوج اطرادي بين البشر المعاصرين والنياندرتال و الدينيسوفان، وبأن سلالة أخرى مجهولة (ربما الإنسان المنتصب) قد شاركت حمضها النووي أيضًا مع هذه الأنواع. 

بشكل عام، يشكل الحمض النووي للنياندرتال نسبة ضئيلة تمامًا من الحمض النووي للبشر المعاصرين تتراوح ما بين 1-4%، مما يدل على أن عملية التزاوج بين النوعين ترجع إلى نحو 270 ألف عام. بيد أن الحمض النووي للنياندرتال الذي وجد في الحفرية (أويس 1) oase 1 التي عثر عليها داخل كهف Peștera cu Oase في رومانيا وعمرها 40000 عام، قد قدر بأكثر من 9%. ويشير هذا إلى أن عملية التزاوج كانت حديثة، ربما سبقت مولد أويس بأربعة إلى  ستة أجيال فقط. اتسم معظم تاريخنا التطوري فيما بعد بالتزاوج مع النياندرتال. وربما يعطي هذا بعض المؤشرات لما حدث عندما تلاقت الأنواع البشرية المختلفة.
ولكن، في حال حدوث تزاوج بين النياندرتال والإنسان الحديث، ما هو الشكل الذي نتوقع أن يبدو عليه النسل الناتج عن هذا التزاوج؟ هل سيكون لدى الطفل السمات المميزة للإنسان الحديث مثل الذقن المدبب والجمجمة الكروية، بجانب سمات النياندرتال الممثلة في حواف حواجبه الكبيرة ونتوء العظم القذالي [بروز مميز بمؤخرة الجمجمة]؟ يجادل البعض بأن الحفريات المكتشفة في مواقع مثل كهف جيرين في جنوبي الصين تحمل سمات كل من الإنسان الحديث وإنسان العصر البليستوسيني الأوسط، ما يدعم وصول الإنسان الحديث المبكر لهذه المناطق. 

إن محاولة تحديد الشكل الذي قد يبدو عليه النسل الهجين هي أصعب بكثير من أخذ نصف السمات المرئية لأحد الوالدين ونصف صفات الآخر ودمجها معًا، إذا جاز القول. وقد قدمت الدراسات المتعلقة بعمليات التهجين بين الرئيسيات غير البشرية دليلًا على ذلك، فعلى سبيل المثال: تظهر أحيانًا بعض السمات غير الاعتيادية (مثل الأسنان الزائدة) التي لا يمتلكها الآباء لدى الأبناء. ومع ذلك يبقى التساؤل حول الكيفية التي تظهر بها نتائج هذا التزاوج بين مختلف الأنواع أو الأنواع الفرعية للرؤية/ للعيان. 

بالإضافة إلى الجينات، ما الذي شاركته الأنواع البشرية المختلفة عندما التقت؟ والإجابة التي يقدمها لنا السجل الآثاري هنا هي: السلوك الرمزي؛ تعد الأصباغ الطينية ذات اللون الأحمر البني والأصداف المثقوبة والأحجار والقلادات وغيرها الكثير، دلائل على قدرة البشر على استخدام الرموز والتلاعب بها. ولطالما اعتُبرت هذه المنتجات حكرًا على البشر الحديثين، وليست جزءًا جوهريًا من المخزون السلوكي للأنواع البشرية الأخرى. ولكن الغريب هو عدم وجود دليل على قدرة البشر الحديثين الأوائل الذين ظهروا في آسيا قبل الإنتشار الكبير خارج أفريقيا منذ 60 ألف عام على ممارسة السلوك الرمزي/ استخدام الرموز. 

هل يعني هذا أن المجموعات الثلاثة قد سكنت الكهف على فترات متقطعة؟

إحدى الملاحظات الأخرى المثيرة للاهتمام تتمثل في أنه قبل التعرف على الحمض النووي للدينيسوفان وبعدها النياندرتال بكهف دينيسوفا، كان الموقع نفسه معروفًا لدى مجتمع الآثاريين بوفرة وغزارة الأدلة على استخدام السلوك الرمزي في العصر الحجري العلوي/ أواخر العصر الحجري (مثل المصنوعات اليدوية المثقوبة التي تشكل عند جمعها القلائد والأساور). أثارت هذه الملاحظة التساؤل التالي: من ترك هذه المصنوعات؟ هل هم الدينيسوفان، أم النياندرتال، أم أن البشر الحديثين كانوا حاضرين أيضًا بالكهف؟ إذا كان أفراد إحدى المجموعتين [الدينيسوفان و النياندرتال] هم من تركوا هذه المصنوعات، هل يعني هذا قدرتهم على استخدام السلوك الرمزي؟ وإذا كان البشر المعاصرون هم من فعلوا ذلك، هل يعني هذا أن المجموعات الثلاثة قد سكنت الكهف على فترات متقطعة؟ 

أمرُ آخر: إذا كان البشر الحديثون هم من حملوا معهم هذه السلوكيات الرمزية، لماذا إذا يندر وجود مثل هذه المصنوعات اليدوية والأصباغ الحمراء والسلوكيات في البر الرئيسي جنوب شرق آسيا؟ ففي الحقيقة وباستثناء الفن الصخري في جزيرة سولاوسي بإندونيسيا، لا يوجد دليل يذكر على استخدام السلوك الرمزي في المواقع التي ترجع للعصر الجليدي المتأخر بالمنطقة. وهو ما يدفعنا للتساؤل التالي: لماذا يبدو أن الإنسان الحديث قد غير سلوكه عند وصوله إلى جنوب شرق آسيا؟

مثّل افتراض قدرة الإنسان الحديث على بناء قوارب محكمة والإبحار بها من مكان الإقلاع إلى مناطق غير مرئية/ مجهولة أحد المعطيات التي استمرت في جذب الانتباه فيما يطلق عليه جدل سلوك الإنسان الحديث – والذي يفترض اقتصار هذه السلوكيات على الإنسان الحديث فقط- إلا أن التقارير المبدئية التي أظهرت أن موقع ماتا مينج على جزيرة فلورس في إندونيسيا لم يُسكن سوى من قبل الإنسان المنتصب البحار، قد أثارت شكوك الباحثين حول هذا الجدل. 

عُمّرت أستراليا و الأرخبيل الياباني بجلاء عن طريق البحر. سُكنت اليابان حسبما يُعتقد الآن منذ 40 ألف عام، كان المعتقد السائد أن هذه الهجرات قام بها البشر الحديثون. ولما كان الإبحار ضرورة لا غنى عنها للوصول إلى أستراليا؛ طالما اعتُقد أن الإنسان الحديث فحسب هو من تمكن من تأهيلها من البداية، ولكن وبفضل الاكتشافات الجينية الحديثة لبقايا [ الحمض النووي] للدينيسوفان في سكان شمال أستراليا و ميلانيزيا المعاصرين أصبح من غير الممكن تمامًا استبعاد إبحار الدينيسوفان لهذه المناطق. ومع هذا، مازال من المفيد معرفة/ اكتشاف كيف بَدا الدينيسوفان وكيف كانت مناطقهم الأثرية قبل وضع أى استنتاج حولهم باعتبارهم رحالة مسافرين. 
………………………………………

لايزال هناك كمُ هائل من الأبحاث التي ينبغي القيام بها حول الأنواع البشرية القديمة التي عاشت في آسيا، فالاكتشافات المتزايدة التي تخرج منها تجبر العلماء على إعادة التفكير في النماذج المتنوعة حول أصل الإنسان الحديث، فقد أشارت إحدى الدراسات العلمية في يناير 2018 إلى أن تاريخ البشر الحديثون الأوائل من كهف ميلسيا في آسيا يرجع إلى ما بين 177 ألف و194 ألف عام. يبدو الأمر الآن وكأننا بتنا نكتشف كل بضعة أسابيع حفرية جديدة أو موقع أثري أو نتوصل إلى دراسة جينية  أو نعيد تأريخ موقع قديم داخل القارة الآسيوية الشاسعة، التي لازالت تضم مناطق واسعة لم تُكتشف بعد. تبدو الصورة الآن أكثر تعقيدًا بكثير من نماذج “الخروج من أفريقيا” القديمة : فقد كانت هناك العديد من حركات الانتشار المبكرة خارج أفريقيا، وتزاوج بين الأنواع المختلفة أكثر مما كنا نعتقد. 
إن قصة جنسنا البشري تتبدل، وتغدو أكثر ثراءًا كلما زاد اطلاعنا عليها. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *