جمعة رمضان يكتب: يوم الحجر العظيم! وفواتير أتلفها الهوى

وأي أمرئ في الناس ألفا قاضيًا .. ولم يمض أحكامًا لحكم سدوم

“أبو العلاء المعري” 

بداية نؤكد على تقديرنا ودعمنا الصريح لجهود الدولة، وما اتخذته من اجراءات وتدابير حمائية ووقائية لمواجهة أخطار فيروس كورونا المستجد، خاصة قرار الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء رقم  719 لسنة 2020، والمتضمن حزمة من التدابير والاجراءات الاحترازية الضرورية لمواجهة الجائحة، من بينها إعادة تنظيم العمل بدولاب الدولة عن طريق التناوب بين العاملين لتقليل التجمعات في دوائر العمل والمواصلات، مع التأكيد على الجانب الانساني فيما يتعلق بالفئات الاكثر عرضة للعدوى بالفيروس من ذوي الامراض المزمنة، وكذلك النساء الحوامل والراعيات لأطفالهن دون الثانية عشر، بمنحهم أجازة استثنائية مدفوعة الاجر طوال مدة سريان القرار .

هذا الاغباط والاحتفاء بالمعقول الاستثنائي أعلاه لايخل ابدًا باعتبارات المبدأ الذي يضعنا دائمًا في مواجهة مع اللامعقول السائد الذي هو للاسف أحد شروط الحياة المعتادة في المحروسة، لا يُستثنى منه جهة أو مرفق أو قطاع، التعاطي اليومي مع الممارسات الاحتكارية المنفلتة، والتعاملات التجارية المشروطة بالاذعان الذي تفرضه تحيزات السياسة والاقتصاد المحمية بالبطش احيانا كيفما اتفق، تعاملات يحكمها منطق اللبط والبلطجة ولا تُبقي متسع لسماع أنين الناس أوحمايتهم من جشع رأس المال ولا حتى إنصافهم في مواجهة تلك الممارسات الاحتكارية اللامعقولة ضمن سياق من الخلل العلائقي يباعد تحت نير الجشع بين أطراف النشاط الاقتصادي والانتاجي، خاصة في قطاع الخدمات وعلى الاخص في قطاعي الاتصالات والطاقة ، تلكم القطاعات الحيوية سريعة النمو التي انطلق منها كبار رجال الاعمال انطلاقتهم الكبرى نحو قوائم أغنى اغنياء العالم، كل ما سبق من تجبر واستنزاف لا معقول ولا محدود لموارد الناس ومدخراتهم المحدودة، أبقتهم أمام مصالح الكبارعراة الظهر دون سبيل أو مغيث سوى الإذعان والقبول بشروط غاية في الجور والاجحاف، بأن تدفع مثلا لشركات المحمول 50 جنيها لما قيمته الفعلية 35 جنيها، أو أن تدفع 100 جنيه لما قيمته 70 جنيه.. وهكذا ( كله كوم وافتكاسة الـ ” 5 جنيهات ” التي يدفعها مستهلك الخدمة صاغرا لتغطية الـ 51 قرش قيمة الدمغة المخصومة والا لايتم تفعيل الباقة كوم تاني !)، ناهيك عن عشرات البنود المدرجة بالهوى في فواتير المياه والكهرباء والغاز والهاتف المنزلي ( شئ لزوم الشئ على قول العبقري نجيب الريحاني لناظر الوقف الفاسد الذي جسَّده العملاق عباس فارس في فيلم أبو حلموس)، أو تلك الشروح الملتوية باذخة الاستعماء التي يغلف بها المسؤلون الحكوميون مراوغتهم هربًا من الوفاء بالتزاماتهم تجاه ربط السعر المحلي للمحروقات بالأسعار العالمية للبترول .

جانب أكثر ايلامًا من هذا اللامعقول جرت وقائعه خلال اليومين الأخيرين حين تابعنا، في البداية، تصرف الدولة الأرعن تجاه مواطنيها المغتربين العائدين من الخارج، ذلك التصرف الخالي من كافة مظاهر الإنسانية واللياقة والأخلاق وتحقق المنطق والعقل، فقد تابعنا كيف تقطعت السبل بشريحة من المواطنين المغتربين ممن ضاقت بهم سبل العيش الكريم وفرص العمل وتدني مستوى الدخل في وطنهم فخرجوا يبحثون عن تلك الفرصة البديلة لتحسين أوضاعهم المعيشية خارج الوطن، واذ تضطرهم ظروف الجائحة الكورونية المتفشية في العالم العودة إلى وطنهم في هذا الظرف الاستثنائي العصيب، يحدوهم أمل ان تفتح الدولة ذراعيها لاستقبالهم وتغمرهم بحنو مستحق وقد شهدت لهم التقارير المالية وخبراء الاقتصاد بعظم اسهامهم ودور تحويلاتهم في انعاش الاقتصاد بما ضخوه من مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد الوطني من فائض عرقهم ومرارة غربتهم ، لكنهم لم يجدوا سوى الاجحاف والجور وقرار حكومي ” سدومي” يلزمهم تحمل تكلفة الاقامة لمدة اسبوعين في فندق الحجر الصحي ذو الخمس نجوم والمقدرة تكلفة الاقامة فيه للفرد الواحد بـأكثر من الفي جنيه في اليوم .

كتب صديق مغترب على صفحته في الفيس بوك : “مهندس زميلي ومعه زوجته وبناته الخمسة وهو الفرد السابع في الأسرة.. تخيل بقى دا لما ينزل مصر مطلوب منه يدفع كام لقاء نفقات الحجر الصحي ؟ ” !

جاء في شأن أهل ” سدوم ” من دلائل ظلمهم واستغراقهم فيه أن سارة زوجة الخليل ابراهيم عليه السلام أرسلت الى لعاز كبير عبيد ابراهيم ليأتيها بسلامة لوط، فلما دخل مدينة سدوم لقيه رجل من اهلها، فعمد الى لعازر بحجر ضربه به في رأسه فأسال منه دمًا كثيرًا، ثم تعلق به قائلًا : إن هذا الدم لو بقي لأضَّر بك، فاعطني أجري، ثم آل الامر بينهما الى الترافع الى قاضي سدوم، فلما سمع للخصمين حكم على لعازر بأن يعطي للسدومي أجر ماضربه بالحجر وأسال دمه، فلما رأى لعازر الجور من القاضي والخصم في أمره، عمد الى حجر ضرب به رأس القاضي فأسال دمه وقال له : الأجر الذي وجب لي عليك بإسالة دمك عليك أن تعطيه لضاربي السدومي جزاء ضربه إياي وإسالة دمي ”  .

إلى تلك الواقعة يعزى المقصد من قول أبي العلاء المعري :

وأي امرئ في الناس الفا قاضيًا .. ولم يمض أحكامًا لحكم سدوم .

 (قصص الانبياء ، الشيخ عبد الوهاب النجار ص 112)

تنويه: وردت أنباء (بعد الانتهاء من كتابة المقال) عبر مواقع اخبارية عديدة تفيد صدور قرار رئاسي بتحمل نفقات الحجر الصحي للمغتربين العائدين الى مصر من أرصدة صندوق تحيا مصر وهو ما أكده رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي بعد ذلك.. لا شك انه خبر جيد وتصحيح لوضع كان ينبغي تصحيحه لكن يبقى السؤال المطروح من اطراف عدة هل يشمل القرار جميع العائدين السابقين واللاحقين وهو السؤال الذي تم طرحه فيما بعد من عدد من المصريين العالقين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *