أحمد عياد يكتب: لماذا الميتافيزيقا؟

يشيع في الثقافة العامة استعمال مصطلح “ميتافيزيقا” للإشارة إلى الماورائيات أو الخرافات ربما عمدًا أو خطأً، فمن المثقفين من يعي جيدا ما المقصود بالميتافيزيقا كمبحث فلسفي ورغم ذلك يضعها موضع الخوارق والخرافات -سأستفيض في ذلك لاحقًا- ومنا من يختلط عليه الأمر ولا يدرك ما قد يعنيه المصطلح في الأساس، لذلك الأولى أن نبدأ بسؤال ما هي الميتافيزيقا قبل أن نسأل لماذا…

ما الميتافيزيقا؟
الميتافيزيقا هي المبحث المعني بدراسة الحقيقة المطلقة١، يعتبر هذا واحد من أبسط وأشهر التعريفات التي تستعمل في المناهج الدراسية، ولمزيد من التبسيط يمكن استبدال كلمة “الحقيقة المطلقة” بالحقيقة حقًا أي كما هي من حيث طبيعتها لا من حيث إدراكنا لها، فمثلا الأرض تتبدى لنا وكأنها مسطحة إلا أن العلم أثبت أن حقيقة شكل الأرض كروي وليس مسطح، إذا فكل ما في الوجود إما حقيقة وإما مظهر، فالمظاهر لا تكون دائما حقيقية وتحتاج باستمرار لمراجعة وتمحيص، الآن من المناسب أن نسأل ولماذا الميتافيزيقا، لماذا لا نكتفي بالعلم، ألا يبدو أن حقل الميتافيزيقا آخذ في التآكل بتنامي العلم وأدواته؟ هل أصلا هناك حقائق أبعد من أن يطالها الميكروسكوب؟
أظن أن الإجابة على هذه الأسئلة لن يكون حاسما أبدا وهذا راجع للمشكلة الأساسية في أي بحث فلسفي وهي حالة عدم التأكد والشكوكية الكبيرة التي تلازم أي منتج فلسفي فنحن لا نستطيع الوقوف على منتج فلسفي واحد يقوم عليه إجماع على الأقل من الفلاسفة ذوي الرأي المعتبر.
لكن وبشكل مبدئي، سأجيب على الأسئلة السابقة بنعم، نحن بحاجة لمبحث آخر غير العلم لفحص بعض جوانب الوجود التي ستظل خارج نطاق البحث العلمي وإن كان دور العلم ضروري في فهمنا لتلك الأشياء بدرجة أكبر ومساعدة الميتافيزيقيين في عملهم.

إن سؤالا كالذي نطرحه في هذا المقال ربما كان لينظر إليه بقدر كبير من الدهشة إذا ما طرح في عصر سابق، فقد كانت الميتافيزيقا لا مجرد مبحث مشروع وضروري، بل قد وصل الأمر إلى حد اعتبارها المبحث الأسمى من بين سائر المعارف البشرية في عصور عدة ابتداءً من اليونان القديمة وصولا إلى العصور الوسطى، لكن حال الفلسفة شهد تحولات دراماتيكية في العصر الحديث وبالأخص الميتافيزيقا التي أصبح وجودها بحد ذاته مهدد.

يقول إيمانويل كانط في أحد هوامش مقدمة كتابه نقد العقل المحض “يظل من المشين للفلسفة وللعقل البشري بشكل عام أنه لا بد من التسليم بوجود الأشياء الخارجة عنا، فقط عن طريق الإيمان ولو شكك أحدهم في وجود الأشياء فلا يمكننا رد شكوكه بأي إثبات مرضي”.2

لعل هذا الإخفاق الذي عانت منه الفلسفة هو أشد ما استرعى اهتمام الفلاسفة في عصر نجح فيه العلم واستقام منهجه وتوسعت آفاقه حتى أنتج ثمار لم يكن ليخطر على بال الأسبقين أنهم يغرزون بذورها بأبحاثهم ونظرياتهم، في حين لم تثمر نظريات الميتافيزيقيين بعد كل ما بذلوه من جهد على مر قرون سوى عن أسئلة أكبر وأكثر إشكالًا من التي تخيلوا أنهم أجابوا عليها بنظرياتهم التي لم تنجح واحدة منهم في إقامة إجماع عام على صحتها والقبول بها كإجابة صحيحة حتى على الأسئلة التي تبدو لنا سهلة وأن الجواب عليها ممكن فقط باستعمال الحس المشترك مثل السؤال الذي هو محور الاقتباس السابق فلو سألتكِ هل العالم الخارجي موجود حقًا أم هو من صنع عقولنا؟ ربما ستشعرين أن السؤال لا يستحق الكثير من العناء في محاولة الجواب عليه، نعم الأشياء الخارجية موجودة هل يعقل أن يكون إدراكي للعالم وهم صنعه عقلي؟ لا أظن ذلك ولا أرى سببا يجعلني حتى أرجح هذا الخيار الثاني، لكن يؤسفني أن أخبرك أن كثيرا من الفلاسفة على مر التاريخ وجودوا الخيار الثاني أكثر إقناعا وقدموا الكثير مما اعتبروه أدلة قوية تدعم رأيهم القائل بعدم وجود شيء خارج العقل فيما يسمى بالمثالية. نحن حقا كما قال كانط لا يسعنا أن ندحض المثالية بأي دليل قاطع، كل ما بوسعنا أن نفعله هو أن نشكك في صحة أو اتساق الأطروحات المثالية فلا يبقى لنا من مبرر حتى نعدل عما نميل إليه من الإيمان بوجود أشياء خارجية مستقلة عن وعينا (الواقعية) وهذا بالتأكيد لن يكون موقفًا حاسمًا وستظل أقوال المثاليين ذات وجاهة عقلية.

قِس على نقاش المثالية في مقابل الواقعية ذلك، تقريبا كل مواضيع الميتافيزيقا، إذا هناك أزمة حقيقية والأجدر بنا ألا نندفع سريعا إلى دقائق الخلافات بين كل مذهب ميتافيزيقي وآخر، ولنفحص أولًا تلك الحالة العامة التي تلازم كل موضوع. لماذا لم نتمكن إلى اليوم من حسم موضوع واحد والبناء على ما أنتجه ومن ثم يتكون لدينا نسق كامل يكمل بعضه بعضًا.

لماذا هذا الإخفاق؟ هل نحن لا زلنا في مهد التفكير الفلسفي وسيأتي علي البشر زمان تنفجر فيه آفاق الفلسفة وتتفتق الأذهان عن الحقائق الواضحة الجلية في الميتافيزيقا وغيرها؟ أليس هذا هو ما شهده العلم التجريبي، ألم تظل البشرية لقرون تتخبط في غير هدى سائرة في سبل متفرقة باحثة عن حقائق الكون والنفس قبل أن تصل لما هي عليه اليوم؟ ربما كل ما تطلبه الميتافيزيقا منا هو مواصلة السير دون كلل أو يأس، لكن وعلى الرغم من ذلك يبدو أن هنالك احتمالات أخرى غير مستبعدة على الإطلاق، احتمالات تهدد مساعينا تلك، فقد تكون الميتافيزيقا معرفة مستحيلة وقد لا تكون معرفة أصلا! نعم هكذا اعتبرها الكثيرون، فما هي إذا تلك المذاهب المختلفة وماذا عسانا أن نعتبر حججهم وأطروحاتهم المختلفة؟ نعتبرها كلام فارغ من أي معنى، يجيب الوضعيون المنطقيون3 وحتى إن تهيأ لنا أنه مثل باقي الكلام لكنه ليس سوى شبه كلام وبناءً على هذا الزعم الغريب فقد اقترحوا إزالة الميتافيزيقا من نطاق المعرفة العقلانية والاكتفاء باعتبارها مجرد انفعالات شعورية لا أكثر فكل الكلام في نظرهم إن كان افتراض عن شيء لا يمكن التحقق من وجوده في عالم الأشياء بالوسائل التجريبية فهو كلام فارغ لا يحمل أي معنى، اسم بلا مسمى فلا يوجد في العالم شيء اسمه أخلاق، أو جمال، أو حرية إرادة، أو ضروري الوجود، أو مطلق إلى آخره من المقولات التي تبحثها الميتافيزيقا، تخيل أصحاب هذا المذهب أنهم بذلك سيوحدون رأي المجتمع الفلسفي ويسيروا بالفلسفة باتجاه جديد كليًا حيث يكون كل دور الفلسفة هو تحقيق الكلام والتأكد مما إذا كان يحمل معنى أو لا، فكما كان يقول الراحل زكي نجيب محمود إن الفلسفة منهجا للفكر بغير موضوع 4، بمعنى أن الفلسفة غير منوطة بالإجابة عن أي سؤال حول طبيعة العالم والوجود والعقل وأي شيء يتجاوز حدود المدركات بالحواس وإلم يكن للعلم قول في قضية ما فهي ليست قضية أصلًا هي إذا كلام فارغ من المعنى، بدأت هذه الحركة في عشرينيات القرن العشرين على أيدي مجموعة من المفكرين والعلماء كانوا يلتقون في جامعة ڤيينا ولذا عرفوا باسم (حلقة ڤيينا)، سعى هؤلاء المفكرون بحماس ودأب شديد لنشر آرائهم وكان أغلبهم صغير السن حتى أن ألفرد آير نشر كتاب كان له صدى كبير في الفكر الفلسفي في القرن العشرين وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره وهو كتاب (اللغة والحقيقة والمنطق) 5 انتشرت الوضعية المنطقية من ڤيينا وألمانيا إلى أوروبا والعالم وحتى أنها اجتذبت تأييد فلاسفة عرب من أمثال زكي نجيب محمود الذي كتب عدة كتب مهمة وصادمة من أبرزها كتاب (خرافة الميتافيزيقا) الذي تغير اسمه فيما بعد إلى (موقف من الميتافيزيقا). لاقت الوضعية (أو التجريبية) المنطقية سيل من الانتقادات ظل أنصارها يحاولون صده على مدى عقود إلى أن خارت قواهم في النصف الثاني من القرن العشرين لينتهي الحال بالوضعية المنطقية كجزء من تاريخ الفلسفة. يمكن الإشارة سريعا إلى احتمالات أخرى تفسر المشكلة التي نحن بصددها، مثلا اعتبر كانط أن العقل إذ يباشر أي عملية فإنما يفعل ذلك ضمن أطر محددة تجعل الكثير من الأسئلة الميتافيزيقية مستحيلة الإجابة ليست لأنها بلا معنى؛ بل لأنها تبحث جزء من الوجود خارج حدود القوالب أو الأطر التي يعمل ضمنها العقل فمثلا سؤال هل للكون بداية أم أنه أبدي؟ هو في رأي كانط سؤال ذو معنى محدد وواضح إلا أن الإجابة عليه غير ممكنة لما يشتمله على بحث أشياء واقعة خارج الزمان والمكان وهذه من القوالب الأساسية للعقل التي لا يمكن أن يعمل خارجها.

إذن لماذا لا نكف عن هذا العناء، لماذا الميتافيزيقا؟ ببساطة لأننا لن نكف عن طرح أسئلة خارج حدود الخبرة الإمبريقية، أي غير مدركة بالحواس وخارجة عن حيز العلم التجريبي، ولأننا نستطيع جيدا أن نرى لهذه الأسئلة معنى ونحتاج لإجابات، فالبعض منا قد لا تستقيم حياته بدون أن يجد إجابات لعدد من تلك الأسئلة مثل هل يوجد إله؟ هل حرية الإرادة وهم؟ هل توجد قيم أخلاقية؟ ما هي طبيعة تلك القيم؟

الهوامش:
1 Metaphysics peter van inwagen P. 11
2 Ibid. P. 111
3 موقف من الميتافيزيقا زكي نجيب محمود
4 https://youtu.be/kFlYqRpgF2c
5 https://youtu.be/nG0EWNezFl455m

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *