سنة أولى درب.. هشام جعفر يكتب: وآتوه في دروب عديدة

“وأتوه في درب ..ويبقي هو الدرب” استوقفني الشعار الذي وضع تحت اسم الموقع من زاويتين:استخدامه لفظتي درب والدرب بالمفرد وليس بالجمع ؛فالمسألة عندي ليست مماحكات لغوية ولكنها تؤشر إلي المستقبل وما الذي نأمله من درب ودروب في أعوامها القادمة التي نرجو أن تكون مديدة.

مابعد الايديولوجيا

كاتب هذه السطور لم يعد يصدر عن الاعتبارات الايديولوجية في النظر السياسي تاركا جدالاتها للمجال الثقافي والفكري ؛معتبرا أن اعلان سقوط الاتحاد السوفيتي في ١٩٨٩ هو تدشين لمرحلة ما بعد الايدولوجيا ،وللأسف لم تلتقط تياراتنا السياسية والفكرية الأربعة(اليساري والقومي والإسلامي والليبرالي) هذا الخيط فاعادت انتاج معاركها التاريخية دون تجديد في أجندة الجدل العام باعادة صياغة الاسئلة وتطوير الاقترابات منها ومعالجة تطورات الاحداث والقضايا التي داهمتنا ،والتي تصاعدت منذ حرب الخليج الثانية ١٩٩٠/١٩٩١

فقد برزت شواهد كثيرة في العقد الأخير من القرن العشرين وعلى مستويات عدة تقول: إن الواقع الذي نعرفه مرتحل، وهناك واقع جديد تتشكل ملامحه، أو برزت بالفعل بعض تضاريسه. فمنذ فترة ليست بالقصيرة يشهد العالم تحولات في المجالين: السياسي والاقتصادي، كما في المجالين الاجتماعي والثقافي… إلخ، وعلى المستويين: الإقليمي والدولي، كما على المستويين الوطني والمحلي، وفى جانب الحركات والقوى السياسية والاجتماعية، كما في جانب الأطروحات الفكرية والخطابات المعرفية والبرامج السياسية.

وهكذا فإن الحقبة التي كانت ارهاصاتها آواخر القرن الماضي تستكمل نهايتها مفسحة الطريق أمام تغيرات مستمرة، عميقة وهيكلية في الأوضاع المتعارف عليها من قبل، على صعيد الممارسات والوسائل والسياسات، والقوى والعلاقات، والمؤسسات والشخوص والأفكار، وهذا يعني أن الماضي بحلوه ومره، وخيره وشره، وتنظيماته وشيوخه، وأحزابه وقياداته، ونخبه ومؤسساته، وأطروحاته قد آذن بالرحيل، مخليًا الأرض لواقع جديد لا ندري ما معالمه، وإن بدت بعض ملامحه،التي تحتاج إلي منصات عديدة للحوار حوله ناهيك عن كيفية التعامل معه.

ولقد كان هناك عدد من التطورات العالمية وأخرى جرت في نطاق منطقتنا، ساهمت في إبراز أن جل الخطابات السائدة قد استنفدت أغراضها حين لم تستطع أن تكون استجابة مناسبة ومكافئة لمقتضيات الأوضاع الجديدة التي شهدها العالم وكانت لها تأثيراتها العميقة علينا.

الخطابات العربية السائدة لم تعد تتيح حلولاً حقيقية للتغيرات النوعية الكبرى التي حدثت في الواقع، بل إن هيمنتها واستمرارها الآن -فيما أحسب- يمثل عقبة كئودًا في طريق الاستجابة الفاعلة والمناسبة لتغيرات الواقع. فنحن بحاجة إلى تغيير جذري في البنية الفكرية السائدة والمستقرة، تغييرًا يشمل جميع مستويات هذه البنية، بدءاً من المسلَّمات والبراهين التي لم تعد كذلك، ومرورًا بالنظريات والمنظومات الفكرية المتعددة التي أخذت في الانهيار تباعًا، وانتهاءً بالمنظومات المفاهيمية الثابتة والمصطلحات المتداولة التي لم تعد تصلح لزماننا، وصرنا بحاجة ماسة إلى التخلي عنها وليس فقط إعادة قراءتها أو إعادة تعريفها لإعادة انتاجها بصياغات جديدة ،بالاضافة إلي البرامج والخطابات السياسية التي لم تعد تحرك الجماهير أو تجذبها في ظل إعادة تعريف للسياسة والفعل السياسي والتشكل التنظيمي فيه.

وإذا كان سقوط الاتحاد السوفيتي 1989م وانهيار المنظومة الاشتراكية في دولها، وبروز “ما بعد الحداثة” كأسلوب جديد في التفكير يراجع كل مسلمات مشروع “الحداثة” الغربي، بالإضافة إلى العولمة أو الكوكبة وما صاحبها من ظواهر جديدة، وأخيرا يأتي زمن الكورونا ليعيد التفكير في مسلماتنا https://www.ida2at.com/our-facts-change-in-the-time-of-corona/

؛إذا كانت هذه التطورات على المستوى العالمي قد بدأت تُبرز نموذجًا معرفيًا جديدًا، ومنهجًا في التفكير مختلفًا عن سابقه على مستوى العالم، فإن حرب الخليج الثانية طرحت إعادة التفكير في النموذج المعرفي السائد في الخطاب العربي ككل،حيث لوحظ وقتها أن تيارات الخطاب الأربعة قد احتار كل واحد منها في تحديد الموقف الذي يجب أن يتخذه؛ ناهيك عن الفعل الذي عجز الجميع -بما فيهم الدول والحكومات العربية- أن يأتيه ويكون مؤثرًا، بل لم تستطع هذه التيارات أن تحافظ على وحدتها الفكرية والعملية إزاء الزلزال الذي حدث، بل إن ما تلا هذه الأزمة من أحداث -أو بالأحرى القفزات النوعية الكبرى التي جرت في الواقع- كانت أكبر من جميع الدول والتيارات الفكرية والسياسية، لقد عجز الجميع عن الفهم أو التفسير لما يجرى، ناهيك عن اتخاذ مواقف أو فعل -أو بالأحرى رد فعل- إزاءها.

سردية الربيع العربي

وتأتي حقبة الربيع العربي لتبرز https://www.alaraby.co.uk/opinion/في-سؤال-استمرارية-نموذج-الربيع-العربي-الانتفاضي

تناقضات الجميع ومشكلاتهم البنيوية؛ حين كشفت عمق مأزق الدولة العربية:دولة مابعد الاستقلال بمجتمعها المأزوم.

ويجادل صاحب هذه السطور بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية التي استندت إلي ايديولجيات شمولية ،وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلي بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي ؛هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة،نحن أمام محطة تاريخية فاصلة :فالقديم قاد إلي الانفجار ،ولم يعد قادرا علي تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة. ولكن الجديد لم يتبلور بعد وهذه هي مهمتنا التاريخية كما اعتقد ،واللحظة ليست خواء كما يظن الكاتب ،بل تمتلء بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل ،وبمقدار قدرة القوي والأحزاب السياسية علي إلتقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلي حد كبير ،والأهم أنه سيتم خلق الثقة واستعادة السياسة من الجماهير.

أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعني المتسع لمعني السلطة والسيطرة،إنها شكل أو مقترح للحياة،ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي ، وتصور معرفي للحياة والدولة ،تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده ،تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات انتاج.

سردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة ،ويستند هذا العقد إلي مقومات ثلاثة:الحرية/الديموقراطية وفي القلب منها قيمة التعددية التي أبرزتها هذه الانتفاضات ،والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد،وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطي والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطي العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.

وهكذا تحمل انتفاضات الربيع العربي بغض النظر عن نجاحها السياسي من عدمه تحديا وجوديا للفكر والحركات السياسية ،لأنها تقدم سردية جديدة مختلفة جذريا عن السردية التي هيمنت علي مدار القرن العشرين.

ومن هنا يمكن الحديث عن حاجتنا إلي درب ،ودروب عدة إلي جوارها للقيام بهذه الأدوار في ظل تصحر(نسبة إلي الصحراء)المجال العام في مصر:

١-فضاء للحوار بين مكونات مصر الفاعلة لإعادة صياغة قضايا الحوار ؛ وأولويات النقاش ؛ مع الحرص علي بلورته بشكل محدد ؛ وزيادة عدد الأصوات المشاركة فيه ، بما يساهم في الوعي بالتحديات المستجدة.

٢- توسعة فضاءات الاختيار ببناء السيناريوهات المتعددة ، وصياغة السياسات العامة ؛ فهذا أفضل طريق لفهم ومواجهة تعقيدات التحديات ومستجدات الواقع بتحولاته.

فضاءات الاختيار تساعد علي تقديم بدائل متنوعة:ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية ،فكلما كثرت وجهات النظر والأصوات التي تساهم في زيادة الوعي الاجتماعي بالتحديات والتعقيدات، كلما ساعد ذلك في خلق مسارات بديلة ، وكان هناك تطوير لاستراتيجيات اكثر موثوقية.

فالآفاق المتعددة ترتكز علي تمثيل متعدد واستيعاب متنوع.

٣-فضاء يساعد علي التشبيك/التناسق والتناغم synergy حول المستقبل بمفاهيمه وإدراكاته وقيمه وشخوصه ومؤسساته وممارساته ؛ليقوي الجديد في مقابل القديم المرتحل.

٤-فضاء للتعلم المستمر والنقد الذاتي لتجاربنا التاريخية ،وتجارب العالم من حولنا.

٥- فضاء لصقل وانتقاء وتقديم نخب بمستوي راق للمجال العام؛بما يساهم في بلورة نخبة ثقافية وفكرية وسياسية جديدة تحتاجها مصر.

تحية إلي كتيبة درب وقائد فريقها القابضون علي الجمر في زمن صارت فية الصحافة جريمة برغم حاجة المجتمع والدولة إليها للخروج من أزماتهم والتي كشفت ثورة يناير السوءة منها ولكنها لم تكن أبدآ سبب فيها.

  •  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *