وائل توفيق يكتب: التشابه والتضاد  .. حقوق العمال بين الحقبة الناصرية والوقت الحالي (1)

خلال السبعون عاماً الماضية؛ شهدت حقوق العمال والفلاحين في العديد من الدول تطورًا كبيرًا، وتباينت التجربة من بلد لآخر حسب الظروف والتحديات المحلية، من مدى مساحات القمع وقوة تنظيماتهم النقابية، ووعيهم بحقوقهم.

حيث تم تنظيم القوانين العملية، وتم وضع معايير لحماية حقوق العمال في مجالات مثل ساعات العمل، الأجور العادلة، العمل الآمن والصحي، الإجازات المدفوعة، وحماية العمال من التمييز والاستغلال. وقد تم تطبيق هذه القوانين في العديد من البلدان، وشهدت بعض البلدان تحسينات في ظروف العمل والحماية الاجتماعية للعمال، وكان ذلك كله بفضل نضالات العمال وتضحياتهم، التي فرضت حتى على معاقل الرأسمالية إجراء تعديلات جوهرية.

أيضاً شهدت بعض البلدان تحسينًا ملحوظًا في حقوق الفلاحين، بينما لا تزال هناك تحديات في العديد من الدول، تم تنفيذ برامج لدعم الفلاحين وتحسين ظروف العمل الزراعي، بما في ذلك توفير التدريب والتعليم الزراعي، وتحسين الوصول إلى الأراضي والموارد الزراعية، وتوفير القروض والمساعدات.

أما الوضع في مصر مختلف تماماً، وكأن عجلة التاريخ تسير بالعكس، فالفارق قد يكون كبيرًا. خلال نفس الفترة، ففي فترة الستينيات والسبعينيات، كان هناك نمط اقتصادي مختلف يعتمد على التدخل الحكومي الشديد في الاقتصاد، تمتلك الدولة العديد من الشركات والمصانع الكبرى في مختلف القطاعات الصناعية والخدمات، والعمال عادة ما يكونون موظفين حكوميين.

فمنذ ذلك الحين، تغيرت الكثير من الأنظمة الاقتصادية في مصر كما في العديد من البلدان الأخرى، تبنت الأنظمة المتعاقبة سياسات اقتصادية أكثر انفتاحًا وتحريرًا اقتصاديًا، حيث تمت خصخصة العديد من الشركات الحكومية وفتح الأبواب للاستثمار الأجنبي. وهذه السياسات أدت في بعض الحالات إلى زيادة فرص العمل في القطاع الخاص، ولكنها أيضًا أحدثت تغيرات صعبة ومريرة بالنسبة للطبقة العاملة من حيث ظروف العمل وحقوق العمال.

اليوم، العمال في مصر (وفي العديد من البلدان الأخرى) يعملون في قطاعات متنوعة، بما في ذلك الصناعة والخدمات والتكنولوجيا والسياحة والبناء وغيرها. يعمل العديد من العمال في القطاع غير الرسمي أو قطاع العمل الinformal sector، الذي يشمل الأعمال غير المنتظمة التي قد لا تتمتع بحقوق العمال المضمونة.

🛑 القطاع العام:

فالنظام السياسي خلال الحقبة الناصرية؛ كان يعتبر العمال والقطاع العام من القوى الرئيسية في هذه الفترة، قام بتأسيس عدد كبير من المؤسسات الحكومية والشركات العامة في مختلف القطاعات مثل الصناعة والزراعة والنقل والتجارة، حيث كانت هناك توجه نحو (رأسمالية الدولة) والقومية في سياسة الرئيس عبد الناصر، والتي تركزت على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين ظروف العمال نسبياً. فقد تم فعلياً توفير فرص عمل للعمال في هذه المؤسسات الحكومية والشركات العامة، وتم تحسين ظروف العمل وزيادة الأجور وتوفير الضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية للعمال.

ولان التوجهات السياسية أنذاك جاءت عبر قرارات من أعلى، فبعد موت عبد الناصر أوائل السبعينيات ، تم تغيير الأنظمة والتوجهات السياسية، حيث تأثرت حالة العمال في القطاع العام، وتمت مراجعة بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتم تطبيق تغيرات هيكلية في بعض المؤسسات الحكومية والشركات العامة ، بحجج كتحسين لإدارة وأداء هذه المؤسسات بهدف زيادة الكفاءة والتنافسية، لمواكبة الأوضاع الجديدة.

حيث شهدت فترة حكم عبد الناصر تحسينًا في المستوى الاجتماعي والاقتصادي للعمال، وتم تنفيذ سياسات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى تحقيق (العدالة الاجتماعية)، وإنشاء نظام تأمين اجتماعي شامل للعاملين في القطاعات الخاصة والعامة، يشمل المعاشات والإجازات المرضية والإجازات الأخرى، وتحسين ظروف العمل والحياة ليس للعمال والفلاحين فقط؛ لكن إستهدفت إستمالة كأفة الفئات الفقيرة والمتوسطة، بغرض أن يحصل النظام الحاكم على قبول وتعاطف تلك الفئات.

وخلال ذات الحقبة (1952-1970)، تم وضع العديد من الضمانات والتدابير لدعم الفلاحين المصريين للحصول على بعض الحقوق، فقامت الحكومة بتنفيذ سياسات تهدف إلى تحسين أوضاع الفلاحين وتعزيز دورهم في التنمية الزراعية، حيث تم تنفيذ إصلاحات نسبية لخريطة الملكية الشاملة، تستهدف توزيع الأراضي الزراعية بشكل يحمل بعضاً من العدالة والتكافؤًا، حيث تمت مصادرة الأراضي الكبيرة وتوزيعها على عدداً من الفلاحين الفقراء والعمال الريفيين.

فقد تم تحديد الحد الأدنى للأجور للعمال الفلاحيين بهدف تحسين مستوى دخلهم، كما قدمت الحكومة الدعم المالي والتمويل للفلاحين، بما في ذلك توفير القروض الزراعية بفائدة منخفضة والمبالغ المالية المساعدة لشراء المعدات الزراعية والأسمدة والبذور، كذلك تم إنشاء نظام التأمين الاجتماعي للفلاحين لتوفير الحماية الاجتماعية لهم ولعائلاتهم. يشمل هذا النظام التغطية الصحية والتأمين ضد الحوادث والإعاقة.

خضعت مصر لسلسلة من التغيرات السياسية والاقتصادية بعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، تحت حكم أنور السادات (1970-1981) وحسني مبارك (1981-2011)، التي أثرت على ضمانات عمل العمال المصريين وحقوقهم بطرق مختلفة. بشكل عام، شهدت هذه الفترة: انفتاح اقتصادي نحو سوق حرة، مما عمل على خصخصة للشركات الحكومية، وتخفيض في دور الدولة في توفير خدمات اجتماعية مثل التعليم والصحة والإسكان والتأمين الاجتماعي، بالإضافة إلى تقليص في حقوق العمال والنقابات والحركة العمالية، وزيادة في البطالة والفقر والتفاوت الاجتماعي، تعرض العمال للقمع والاعتقال والتعذيب والقتل على يد قوات الأمن في حالات الاحتجاج أو الإضراب.

وفي عام 2011، شارك العمال المصريين في ثورة 25 يناير التي أطاحت بنظام مبارك، وطالبوا بحرية التعبير والتجمع والتنظيم، وكرامة اجتماعية واقتصادية، وعدالة اجتماعية وسياسية منذ ذلك الحين، تواجه مصر تحديات كبيرة في مجالات الديمقراطية والأمن والتنمية، ولا تزال حقوق العمال مهددة بسبب التشريعات المقيدة والقمع الأمني والأزمات الاقتصادية.

منذ أكثر من 70 عامًا، سيطر تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في مصر وبالتحديد فجر يوم 23 يوليو 1952، وبفعل الإجراءات والإصلاحات الإجتماعية، حصل النظام السياسي الذي خلقه هذا التنظيم، على تأييد شعبي واسع ليس في مصر وحدها إنما في عدد من الدول العربية.

حيث  استطاع عبد الناصر ونظامه، أن يمثلاً أملاً بالنسبة لقطاعات عريضة من الطلاب والمثقفين وشرائح الطبقة الوسطي وصغار الملاك والمستأجرين الزراعيين؛ كذلك بعض فئات المعدمين والعمال، ممن كانوا حالمين وقتها بالتحرر الوطني وبالعدالة الاجتماعية.

كل هذا أصبح شيئًا من الماضي. فلقد جدت في النهر مياهًا كثيرة، وفقد عبد الناصر مجده، وفقدت الناصرية جاذبيتها – ولكننا (لا يمكن أن ننكر) لا يزال أحياء. فحتى اليوم لا يزال عدد ممن يجدون شرعيتهم في الدفاع عن عبد الناصر وعهده، ولا يزال بعض الشباب المتحمس من المثقفين والطلاب يرى أن الطريق إلى المستقبل في مصر هو ذلك الذي رسمه عبد الناصر في “الميثاق” قبل 36 عامًا: طريق الوحدة العربية، والتنمية المستقلة ومقاومة الامبريالية، وتحالف قوى الشعب العامل. وهو ما يدعونا للسؤال عن طبيعة الناصرية، وعن المضمون الطبقي لإجراءاتها السياسية والاقتصادية، وعن إمكانياتها المستقبلية. فهل فعلاً حررت الناصرية الجماهير من كل استغلال أو اضطهاد؟ ولعل في مقدورها ذلك اليوم بعد مرور ما يقترب من سبعون عاماً على بدايتها الأولى؟

ذكر هيكل على لسان عادل حموده: “أن السلطة في 1952، عشية أحداث يوليو، كانت ملقاة في عرض الطريق، وكان بوسع أي أحد أن يأخذها، لكن القوى الموجودة كلها كانت من العجز بحيث لم تستطيع”، وهو الأمر الذي يشير إلى إفلاس نظام الملك فاروق في الفترة  التي سبقت عام 1952، وإلى عجز كل القوى السياسية على الساحة، لإقتناص الفرصة وإستبدال نفسها بالنظام الملكي.

يعد ذلك من نتائج ضعف الأحزاب المصرية، ومهادنتها للاستعمار وكبار الملاك ونظام الملك فاروق وعجزها عن تحقيق أي من الأهداف الوطنية لدى قطاع كبير من الشعب المصري، كما إنها لم تتبنى يوماً مبادئ العدالة الإجتماعية، فلم تقدم الإصلاحات الاجتماعية المراد تطبيقها، ففي العقود التي تلت ثورة 1919 تباعدت المسافات بين الطبقات الناشئة حديثًا “الرأسمالية وكبار الملاك” من جانب، و “العمال والطبقات المتوسطة” في الريف والمدن من جانب آخر، فتلك الفوارق إزدادت بصورة غير مسبوقة.

فقد عانت الطبقات المستغلة الحديثة ألتي أنشأها التوسع الرأسمالي. في الفترة من 1907 إلى 1950 انخفض متوسط دخل الفرد السنوي بـ 42%، وفي أعوام الحرب العالمية الثانية تردت أحوال العمال السيئة أصلاً – إذ أكل تضخم مقداره 193% الزيادات في الأجور اليومية التي لم تتجاوز 113%.

حيث ازدادت سطوة كبار الملاك الزراعيين؛ وتفاقم فقر وتجاهل الفلاحين والعمال الزراعيين، في السنوات السابقة على العام 1952، حتى أن كبار الملاك للأراضي الزراعية (أكثر من 200 فدان) كانوا يمثلون 1،% من إجمالي عدد ملاك الأراضي في حين أنهم كانوا يستحوذون على 30% من الأرض الزراعية، في حين كان يمثلوا الملاك المتوسطين (من خمسة إلى خمسين فدان)، كانوا يمتلكون 65% من الأرضي الزراعية، هذا بينما كان 9404% من الملاك يمتلكون فقط حوالي 5%.

في حين أن إستطاعت الرأسمالية المصرية حصاد النتائج السياسية لثورة  1919 في صورة توسع صناعي وأرباح متكدسة، خاصة أثناء الكساد العالمي الكبير في الثلاثينات وما بعدها. في الفترة بين 1938 و1951 ارتفع الإنتاج الصناعي بأكثر من 10% في المتوسط سنويًا، وبحلول عام 51 – 1952 كانت الأرباح الصناعية قد زادت لتصل إلى حوالي 50% في شركات التعدين وشركات المواد الكيماوية وشركات الورق والطباعة، وإلى حوالي 1905% في شركات التبغ وحوالي 10% في شركات المنتجات الفلزية.

ورغم أن الكثير من شارات الإنذار تكررت وتنوعت لتحذر الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية من السقوط المحتمل، إلا أن أحدًا من الساسة أو القوى السياسية لم يتحرك! من تصاعد في الحركة العمالية والجماهيرية، من إضرابات عمال شبرا والمحلة والإسكندرية، ومظاهرات الطلاب والعمال والموظفين المطالبة بالاستقلال والعيش والحرية، لم يجدوا أمامهم إلا المراوغة والخداع والقمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *