مكاريوس لحظي يكتب: علاء عبد الفتاح.. ما العمل؟

تواجه الدولة المصرية الآن تحديًّا كبيرًا ومصيريًا في تحديد وجهتها خلال الفترة القادمة، وذلك فيما يتعلق بقضية الناشط المصري “علاء عبد الفتاح”، نحن الآن أمام نهاية من اثنتين: إما أن يموت علاء.. أو يحيا.
“علاء عبد الفتاح” ناشط سياسي وحقوقي يحظى باحترام وتقدير دولي وداخلي بسبب شجاعته ومواقفه، له بعض الهفوات الحماسية، ولكن لا خلاف على أصليته وفردانيته ونضاله الصادق وانتماءاته القيمية… يقضي علاء الآن عقوبة خمس سنوات بسبب مشاركة منشور -من حساب آخر- على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”.. ضمن سياسة واضحة في قمع الأصوات المعارضة والمدافعة عن حقوق الإنسان. وهي ليست المرة الأولى التي يُسجن فيها علاء عبد الفتاح، حيث بلغ الوقت الذي قضاه علاء داخل السجون المصرية منذ 2011 حوالي تسع سنوات، جميعها في قضايا متعلقة بالرأي والنشاط السياسي.. من حوالي سبعة شهور، أعلن علاء عن إضرابه جزئيًا عن الطعام بالحصول على 100 سعر حراري فقط يوميًا. وبداية من شهر نوفمبر الحالي، أضرب علاء عن الطعام إضرابًا كليًا، وصباح أمس بدأ علاء في إضرابه عن الماء أيضًا. الآن وصل علاء إلى مفترق طرق في رحلة حياته.. واضعًا حياته كلها في يد السلطة، إما أن تميته أو تحييه… فكيف يفكر صانع القرار؟
يصعب التكهن بطريقة تفكير المسؤولين عن اتخاذ هذا القرار الحساس والمصيري، ولكن بإمكاننا محاولة الغوص في عقل حكيم.. ولا بد أن هناك عقلًا حكيمًا، وإلا فعليه العوض…
صانع القرار سيسأل نفسه سؤالين كحد أدنى: ماذا لو أطلقنا سراحه؟ وماذا لو مات؟
ماذا لو أطلقنا سراحه الآن؟
أعتقد أن الهاجس الرئيسي عند صانع القرار حالة إطلاق سراح علاء عبد الفتاح، هو مسألة “هيبة الدولة”.. وقد استثمرت الدولة كثيرًا في هذا المفهوم.. ويبدو أن الفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه المسألة، هي أن أي محاولة لتحدي سلطان الدولة قد تجر ورائها يناير أخرى… أو على الأقل هذا ما يمكن استنتاجه من تصريحات الرئيس السيسي أكثر من مرة بأنه لن يسمح بتكرار سيناريو يناير مرة أخرى.. وأيضًا يمكن ملاحظته في حالة الاستنفار الأمني المستمرة على أقل الأسباب، ومن بطء الاستجابة في قضية هامة وحساسة كهذه القضية…
هناك تحديًا أخر حال إطلاق سراح علاء، وهو متعلق بسيادة القانون واحترامه: حتمًا سيمر بذهن صانع القرار أن هناك حكمًا قضائيًا واجب النفاذ، ومن غير المعقول أن تتدخل جهات خارجية في عمل القضاء… وأن هذا تراخيًا قد يفتح الباب لحالات أخرى أن تحذو نفس الحذو.. وبهذا تضيع سيادة القانون…
يبدو القرار بسيطًا: علاء يبقى في محبسه إذًا.. ولكن،
ماذا لو مات علاء؟
موت علاء يُعقِّد الأمور لعدة أسباب:
أولًا، الفضيحة الدولية:
مصر تستضيف قمة المناخ، ويصادف الآن وجود زعماء العالم والمئات من المنظمات الحقوقية والبيئية على أرض مصر، جميعهم يشاهدون ويتوسطون ويحاولون ويعيدون ترتيب أولوياتهم ليضعوا حياة علاء على رأسها… الجميع يراقب: كيف ستدير الدولة المصرية هذا المشهد؟ إذا مات فهي فضيحة ولا شك، ووصمة خطيرة يصعب إزالة أثرها على المدى القريب.. والمدى القريب هو المدى الحرج.. فأي صورة نرسم لأنفسنا ونحن نرفع أيدينا ونراقب موت ناشط سياسي وحقوقي معروف؟ خصوصًا أن علاء مسجون في منشور “فيسبوك” وليس قضية إرهاب مثلًا! أي انطباع سيأخذه عنا العالم؟ دعايا قاتلة في وقت قاتل لا يرغب فيها عاقل.
ثانيًا، الأزمة الدبلوماسية:
فكرة تجاهل كل هذا المطالبات والمراسلات والنداءات والتدخلات الرسمية والدبلوماسية، تضع جهاز خارجيتنا بالكامل في تحدٍ، وتعيق دوره، وتضعف أثره… موت علاء قد يصيب قنواتنا بالشلل، ولو كان شللًا مؤقتًا، لكننا لا نملك حتى هذه الرفاهية.. لا نملك تكلفة الإصلاح ولا تكلفة الدعايا ولا تكلفة إدارة الأزمة. أيضًا علاء حامل للجنسية البريطانية، ورئيس وزراء بريطانيا تدخل بنفسه من أجل إطلاق سراحه، وهذه مشكلة أخرى… كيف ستدير خارجيتنا كل هذه الأعباء؟ وإلى أي مدي يمكن أن نتضرر على المستوى الدبلوماسي في حالة موت علاء؟
ثالثًا، مصالحنا السياسية والاقتصادية:
لا شك أن موت علاء بفضيحة دولية، سيضع قيودًا وعراقيلًا على تحالفاتنا السياسية والاقتصادية، خصوصًا مع الدول التي يلعب فيها المجتمع المدني دورًا رئيسيًا في توجيه سياساتها! وهذه الدول حليف رئيسي واستراتيجي لنا ونعتمد على دعمهم سياسيًا واقتصاديًا في هذه المرحلة… وإحنا بالمصري بنقول “القرش جبان”.. فالأموال تبحث دائمًا عن الأمان، فمن الذي سيغامر بالتورط والموت يخيم على الأجواء؟
رابعًا، الأمن والاستقرار الداخليين:
لا يخفى على صانع القرار وجود أزمة داخلية وحالة من القلق والخوف تهيمن على الآجواء.. صدمة بحجم موت علاء جوعًا وقهرًا قد تسبب ارتباكًا واختلالًا وتضرب الثقة بين النظام والمواطن في مقتل، وتقضي على أية محاولات مستقبلية لإصلاح الوضع.. في نفس الوقت تدير الدولة المصرية مشروعًا كبيرًا عن الحوار الوطني إدراكًا لحاجتنا إلى إنهاء حالة الانقسام والاتحاد من أجل مواجهة المصير المشترك.. وموت علاء سيكون مدويًا مرهبًا مخيفًا ويصعب احتواء أثره.
خامسًا، تقويض الشرعية:
بنى النظام خلال الفترة الماضية شرعيته على ما جرى تسميته بـ “شرعية الإنجاز”.. وهي أننا باقون ومهمون ومحوريون بسبب الإنجاز.. ويتجسد هذا في أعمال مثل قناة السويس، الطرق والكباري، المدن الجديدة، شبكة المواصلات، القضاء على فايروس سي، حياة كريمة، محاربة الإرهاب… إلخ.. بالإضافة إلى بعض التجرؤات السياسية التي راقت لعدد من القوى الإقليمية والدولية… والآن نواجه أزمة اقتصادية كبيرة تضع هذه الشرعية موضع المساءلة وتطلب المكاشفة.. وبينما نواجه هذا التحدي الكبير، تعصف الدولة بشرعيتها الطبيعية في حماية الدستور والحقوق والحريات وفتح المجال العام ورعاية الحياة السياسية وإعلاء القيم وحماية مصالح الدولة الخارجية والداخلية وحماية الأمن والاستقرار الداخليين!
لكل هذه الأسباب، يدرك صانع القرار أنه ليس من الحكمة أن يسمح بموت علاء عبد الفتاح، ولكن كيف يتم إطلاق سراحه دون أن نمس هيبة الدولة وسيادة القانون.. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يتعين على صاحب القرار مواجهته الآن.. العد التنازلي بدأ، وبين إطلاق سراح علاء وموته، أهوال صحية تهدد حياته وتأخذ من مساحة صاحب القرار في التحرك… بالطبع كان من الممكن أن نتجنب كل هذا بتفادي بعض الخطايا الجوهرية في إدارة هذا الملف من البداية.. ولكن ليس هذا ما يهم الآن…
الاستجابة للتدخلات في قضايا حقوق الإنسان لا تنال من هيبة الدولة؛ قضايا حقوق الإنسان قضايا إنسانية تهم المجتمع الدولي كله وتلتزم الدول تجاه بعضها البعض بموجب معاهدات دولية ملزمة بحماية حقوق الإنسان… ويحدث كثيرًا أن تتدخل مصر في قضايا حقوق إنسان في دول أخرى.. لا دولة مهما بلغت قوتها معفية من المساءلة في قضايا حقوق الإنسان… علينا أن نبدأ التصرف كدولة ناضجة ملتزمة معاهداتها ومسؤولة عن تنفيذها أمام المجتمع الدولي.. هذا ما يصنع الهيبة ويفرض الاحترام على الجميع.
ومع ذلك، فهناك مواقع عديدة من الممكن أن يشغلها صاحب القرار وتضمن له إطلاق سراح علاء دون المساس بهيبة الدولة كما يراها صانع القرار، على سبيل المثال لا الحصر:

  • من الممكن ببساطة أن يعفو.. فلجنة العفو منعقدة ومستمرة في عملها، وأفرجت بالفعل عن عدد كبير وصل إلى 1000 بحسب تصريح اللجنة.. وقضية علاء تتوافر بها شروط اللجنة لنظر طلبات العفو… وإضراب علاء يُعجِّل بدور قضيته لدى اللجنة بطبيعة الحال نظرًا للخطر الذي يواجه حياته… سهلة وبسيطة وممكنة، وتترك انطباعًا هادئًا ومريحًا لدى الجميع يوحي بجدية الدولة في ملف الحوار الوطني وضماناته، هذا يعمل على تهدئة القوى المدنية والسياسية والمنظمات الحقوقية التي يتصاعد قلقها وتراقب عن كثب، وأيضًا يقدم مصر للعالم في صورة حداثية وإنسانية وعاقلة.
  • من الممكن أيضًا أن يعوِّل صانع القرار على العلاقة بين مصر وإنجلترا، ويستند في إطلاق سراح علاء على وساطة رئيس الوزراء البريطاني من أجل مواطن يتمتع بالجنيسة الإنجليزية… وهذه ممارسة مألوفة ومتكررة في العلاقات الدولية.
  • من الممكن أن يستلهم صانع القرار موقعه من الثقافة الشعبية، فيأخذ موقع صاحب الثأر الذي يعفو إذا ما حمل الطرف الآخر كفنه بين يديه… وها علاء يحمل كفنه ويضع حياته بين أيديكم وتحت رحمة قراركم.
    الأمثلة لحلول يمكن أن يتبناها النظام وتضمن له اتخاذ القرار الأقل تكلفة والأقل خسارة – عديدة ومتنوعة.. ولكن يمكن للنظام ألا يكتفي بتقليل الخسائر، بل يربح من وراء هذا الموقف:
    لا عاقل يريد لهذا النظام أن يفشل، ليس فقط لأنها نهاية مأساوية في ظرف استثننائي تعرضنا جميعًا للخطر، ولكن لأن هذا النظام مسؤول أيضًا عن إصلاح الوضع الذي وصلنا إليه… الآن تسنح فرصة عظيمة للنظام لتمديد شرعيته وتصحيح أخطائه… وأقصد تحديدًا شرعية إصلاح المسار وصياغة الرؤية، وهو أمر جوهري وملح بالنسبة له في ظل خفوت شرعية الإنجاز… في حوار للأستاذ محمد حسنين هيكل مع الأستاذة لميس الحديدي قبل رحيله.. علق على مسألة غياب الرؤيا، وأنها التحدي الرئيسي الذي يواجه هذا النظام الآن… أمام النظام الآن فرصة ذهبية لتمديد شرعيته وإرساء رؤيا جديدة بحضور العالم كله، وبأكبر دعاية ممكنة في التاريخ.. رؤيا عن بلد غير منقسم على ذاته، بلد يتوافق مع العالم والإنسانية، بلد يحترم كلمته ومعاهداته، بلد يعلي من شأن حقوق الإنسان، بلد يصحح من أخطائه، بلد يتحمل المسؤولية، بلد قادرعلى الدوران الترسي في ماكينة العالم العملاقة، بلد يتبنى العلم والحداثة والصواب.. بلد يسود فيه القانون ويعلو فيه الدستور والقيم والمثل الإنسانية العليا.. بلد يأمنه الإنسان ويعمل على ازدهاره.. بلد يثير الإعجاب ويجذب الأيادي للعمل معه وفيه.. بلد آمن للسياحة والاستثمار، بلد قوي قادر على اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة لتحقيق كل هذا… وليس أنسب ولا أقوى رمزية من الانطلاق نحو الإصلاح بإحياء روح مناضل ثوري وأنظار العالم كله متجهة إلينا…
الحياةلعلاءعبد_الفتاح
الحريةلعلاءعبد_الفتاح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *