محمد البطاوي يكتب عن اتهام من حكموا لمن لم يحكموا: 25 يناير.. ثورة الخراب


ما إن تقترب ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى ينبري أعداؤها في كيل السباب واللعان على تلك الثورة مؤكدين أنها سبب الخراب الذي يجري على أرض مصر، وعادة ما يشفعون ذلك بالترحم على تلك الأيام التي سبقت الثورة؛ متسائلين غالبا في الختام: “ما الذي حققته تلك الثورة غير الخراب؟”.

عادة ما لا ينتظر أصحاب ذلك السؤال إجابة، إذ إنه سؤال تقريري (غير حقيقي) يهدف إلى الإقرار بأن تلك الثورة لم تجرّ على البلاد والعباد غير السوء والخراب، وأن الحياة قبلها كان لونها بمبي، ولما جاءت تلك الثورة السوداء وأبناؤها العملاء، انقلبت الدنيا سوادا في سواد.
لا يمكن إلا أن يتفق المرء مع أصحاب ذلك السؤال في شيء واحد فقط، وهو أن سؤالهم غير حقيقي، بل هو سؤال هزلي غريب، كيف يمكن السؤال عن إنجازات ثورة لم تحكم، ولم تتمكن، والأغرب أن يكون معظم من يسأل عن إنجازاتها هم أولئك الذين تسببوا في انتكاستها وحاربوا في سبيل استهداف جميع رموزها.
ربما يكون السؤال عن إنجازات الثورة ممكنا في حالة مثل الثورة الفرنسية مثلا، التي بعدما واجهت انتكاسات وثورات مضادة تمكنت أخيرا بعد عشرات السنين، وأرست جمهورية قوية، وأنهت الملكية إلى غير رجعة. يمكن اليوم النظر إلى تلك الثورة ومحاكمتها ومتابعة ثمراتها وأوجه قصورها وعيوبها، فهي ثورة نجحت واستقرت وحكمت.
يمكن كذلك الحكم على ثورات مثل الثورة الإيرانية التي أرست نظاما ربما يكون أسوأ من سابقه، فرغم الفساد والقمع وكل المساوئ الذي كان يذخر بها عصر الشاه، يقول إيرانيون إن الوضع الحالي أسوأ في الحريات و.. و..، ربما يمكن مناقشة ذلك والحكم عليه، فهو سؤال حقيقي.
لكن محاكمة الثورة المصرية يبدو ضربا من العبث، ثورة لم تكد تستقر حتى انطلقت عليها ثورة مضادة، وقبض على زمام الأمور نظام يسير على عكس مطالبها وأحلامها واعتقل جميع رموزها وقادتها وربما من شاركوا فيها.
إذن من يحكم الآن هو امتداد للسابق، هو ذلك الطريق الممتد من ماضي ما قبل الثورة إلى حاضرنا. أيها المترحمين على أنظمة ما قبل الثورة، اطمئنوا، أنتم اليوم تعيشون على امتدادها وخطها، ربما تغيرت الأسماء والوجوه، لكن المنهجيات واحدة، ربما أقسى أو أفقر؛ لكن هذا ما حتمته الظروف ليس أكثر، فنفس الوجوه التي تفتقدونها في الماضي ربما لو عاشت الحاضر لكان الوضع أسوأ.
ليس هذا دفاعا عن الثورة، فليس على الميت حرج، وثورتنا الآن ميتة، لا يأمل أبناؤها أن تنبعث فيها الروح من جديد، ولا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها.. هو فقط إراحة لأولئك الذين لا تزال ذكريات الثورة الميتة ترعد فرائصهم، وتشمئز لها قلوبهم، ويتمنون كما لو لم توجد؛ لا بأس عليكم، أنتم الآن تعيشون في اللاثورة.. فاهنئوا وافرحوا.
أعرف من هؤلاء من يخشى الاعتراف حتى أمام أنفسهم بأن السبب هو عدم اكتمال الثورة، وليس الثورة نفسها، السبب هو الارتداد والانتكاس الحاصل عن مسار الثورة.. هو يعترف ضمنا أو صراحة بأن ما بقي ليس الثورة ولكنه يأبى إلا أن يقول إن الثورة هي السبب، خوفا من العكس.
اسمح لي عزيزي السائل عن ثورة الخراب أن أضع سؤالين تأسيسيين قبل سؤالك؛ هل ثورة 25 يناير تحكم الآن؟ هل الأوضاع الموجودة هي نتاج مباشر للثورة أم لمضادها؟
لا يمكن القول إن الثورة تحكم الآن، فأبناؤها حيث تعرف، ومن يتصدر المشاهد الإعلامية وغيرها لا يزالون يكيلون لتلك الثورة سبابا يشي بعداء عميق.. كما أن الأوضاع الحالية ليست نتاجا مباشرا للثورة، بل هي نتاج الردة عن أهدافها ومطالبها والتنكر لمساعيها.
ما حققته الثورة (المضادة) إذن هو الوضع القائم، لكن كلمة سقطت سهوا (أو عمدا) أحالت المعاني، وسواد أيامك ولياليك لم تكن الثورة سببه، بل وأدها هو السبب.
في الحقيقة أيضا أن كلا منا ينظر إلى الثورة باعتبار ما يهمه، ويستولي على اهتمامه وتفكيره، فأولئك الذين همهم الحرية والكرامة سيرون في العام الذي تلا الثورة، على مساوئه ومشاكله، شكلا من أشكال الحرية في التعبير عن الرأي لا تخطئه العين، إلى الحد الذي أدى إلى سيولة وعدم انضباط إلى حد ما.. أما أولئك الذين لا يأبهون إلا لملء بطونهم ولا يكترثون لكرامتهم، فلن يروا إلا الخراب الذي جرته عبوديتهم، وسيسارعون إلى لصق ذلك بمتنفس الحرية العابر.
تحية لأولئك الذين مضوا على الدروب الطويلة إلى ميدان التحرير في أيام الثورة، ولأولئك الذين ساروا من بعدهم على مبادئهم.. حتى عندما انسدت الطرق واسودت المخارج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *