مجلة التحالف| التراث العمراني في مصر بين المفهوم والتحديات وباب الخروج.. حين قال وزير الآثار: هو كل شوية طوب لازم أحافظ عليهم؟!

بقلم / د. جليلة القاضي – أستاذة التخطيط العمراني

“إن الإرث الثقافي لمصر هو أهم الكنوز التي تمتلكها، والحفاظ عليه يجعل منه العامل الأساسي للتنمية بشكل عام وللتنمية المستدامة بشكل عام،

إن الحفاظ على التراث الثقافي هو في صلبه تنمية مستدامة”.

كان هذا ما أوصت به جلسة التراث التي شارك فيها مجموعة متميزة من المتخصصين، في ختام مؤتمر التنمية الحضرية الأول و الأخير، الذي عقد في نوفمبر 2015، كتكملة للمؤتمر الاقتصادي الذي عقد في أغسطس من نفس العام، بمناسبة تدشين تفريعة قناة السويس الجديدة.

على الرغم من الكنوز الأثرية التي تحويها مصر، و التي ترجع إلى كل العصور منذ ما قبل التاريخ إلى بدايات القرن العشرين، فلا يوجد سوى سبع مناطق فقط موضوعة على قائمة التراث الإنساني لمنظمة اليونسكو، بينما دولة مثل المغرب لديها على سبيل المثال الضعف، أي أربعة عشر موقعا ثقافيا و طبيعيا. وهذا يحدو بنا إلى مناقشة التحديات التي تواجه الحفاظ التراث الثقافي في مصر. وكيفية التصدي لها. لذا فسوف نبدأ بتحديد المفهوم لأنه يمثل حجر العثرة في التعامل مع التراث، ثم نتطرق إلى المحنة وباب الخروج.

1- تطور مفهوم التراث

لفظ تراث Heritage  بالإنجليزية Patrimorin   بالفرنسية – يدل في الأصل على “الإرث” الذي يتوارثه الأبناء من الأباء – وقد تطور هذا المفهوم في الغرب عبر رحلة شاقة بدأت في العصور الوسطى وحتى نهاية الألفية الثانية، وتوسع بشكل ثلاثي الأبعاد:

البعد الأول: مواضيعي حيث اتسع ليشمل بداية أملاك الكنيسة، ثم أملاك التاج الملكي – وواكب أثناء تطوره مشروع النهضة الأوروبية الذي بدأ في القرن الخامس عشر– و يمكن القول أنه كان المحرك الأساسي للحضارة الأوروبية الحديثة مارًا بعدة مراحل بدءًا بالوعي بالتاريخ ودراسته واستيعابه ثم تبلور مفهوم الأثر التاريخي من خلال التأمل، ثم التقدير، التقييم، فالاستحواذ والحصر ووضع تشريعات الحفاظ في نهاية القرن الثامن عشر– إلى اعتبار المدينة ككل  “محمية حضرية”  وأداة ثقافية ومعرفية تعامل كالأثر.

وخلال هذه القرون الخمس نما وترسخ الوعي بالتاريخ والتمسك بمجمل الشواهد المادية التي تعطي لهذا التاريخ معنى وتذكر الأجيال المتعاقبة بالماضي العريق، وتعاظم الشعور بهذه الشواهد كإرث مشترك يتطلب مسئولية مشتركة من أجل الحفاظ عليه وتوريثه للأجيال القادمة.

البعد الثاني، و هو الكرونولوجي، حيث توسع المفهوم ليشمل منتجات حقبات بعيدة ضاربة في مراحل ما قبل التاريخ، و فترات أحدث حتى منتصف القرن العشرين.

والبعد الثالث، جغرافي، شمل مناطق في قارات العالم الخمس.

* و قد تم تصنيف التراث الإنساني من قِبل اليونسكو في وثيقة إعلان التراث العالمي عام 1972 إلى نوعين، التراث الثقافي من كنوز الماضي البعيد منه والقريب؛ “من ساعة جدو الباشا” إلى المنشآت الهائلة إلى أجزاء من حي إلى مدن تاريخية كاملة وأضيف إليه التراث الطبيعي من مواقع طبيعية وتكوينات بيولوجية و جيولوجية و موخرًا التراث اللامادي، من الفنون والفولكلور والطقوس والموروثات الشعبية أضيف إليها الخط العربي.

ومن العسير تناول التحديات التي تواجه كل أشكال التراث في بعدها التاريخي وتنوعها المواضيعي والجغرافي، لذا سوف نركز فقط على التراث المعماري و العمراني، أي الأنوية القديمة للمدن القائمة والتجمعات العمرانية التي شيدت في القرن التاسع عشر وحتى بعض المنشآت المعمارية الهامة التي شيدت في النصف الأول من القرن العشرين.

ومفهوم التراث العمراني هو أيضا نتاج عدة مراحل تركز خلالها الاهتمام بشكل متتابع على القيم الآتية:

· القيمة الفنية لأنسجة المدن القديمة التي لفت النظر إليها باحثين أوروبيين في نهاية القرن التاسع عشر كرد فعل لأعمال التطوير التي قام بها هاوسمان، محافظ باريس في عصر نابليون الثالث في ثلاثينيات نفس القرن، أعاد خلالها هيكلة مدينة باريس ماحيا بشبه كامل مدينة العصور الوسطي؛ أصبح نموذجا تم تبنيه في العديد من المدن الأوروبية ووصل للمستعمرات في جنوب حوض البحر المتوسط، أو للدول الخاضعة للنفوذ العثماني مثل مصر. فولع الخديو إسماعيل بنموذج تطوير باريس أثناء دراسته هناك، وتمنى تطبيقه على القاهرة مما كان سيؤدي إلى القضاء على القاهرة التاريخية بالكامل، لكن مهندس الأشغال العامة في هذا الوقت علي باشا مبارك، صاحب موسوعة الخطط التوفيقية الجديدة، ومنشئ القاهرة الحديثة،  فرمل هذا التوجه، و اكتفى بشق محورين في النسيج القديم هما شوارع محمد علي و كلوت بك.. لربط المدينة الجديدة اللي أنشأها غربا بالقديمة، و هي ما نطلق عليه الآن القاهرة الخديوية، أو وسط البلد،  وبالتالي أنقذ قاهرة المعز بقبابها ومآذنتها ودروبها و مسالكها ودورها العتيقة من الزوال.  و تجدر الإشارة إلى أن مدفن هذا العالم الفذ، مهدد حاليا بالإزالة.

· القيمة الثانية، هي القيمة  العلمية اللي وضعت الأنسجة  القديمة للمدن في مصاف الآثار التاريخية.  

· ثالثا القيمة الاجتماعية التي يعبر عنها دورها في التنمية العمرانية ، دلت عليها تجربة تجديد مركز بولونيا القديم في إيطاليا، حيث تم وضع لأول مرة،  منهج جديد للحفاظ تم خلاله إضفاء معان جديدة على الأماكن والمنشآت وإعطاءها وظائف مستحدثة وقيماً رمزية أو معنوية محولة إياها إلى قاعدة معرفية ، وأداة للبناء الثقافي ، وبناء الهوية وموقع للتمتع الحسي والفني ، ووسيلة للتنمية الحضرية ومكان للسياحة ذي عائد مادي . و هذا هو هدف الارتقاء بالمناطق التاريخية و ليس التطوير الذي يطمس معالمها و هويتها الذي نشاهده الآن.

· و قد طبق هذا المنهج بأشكال مختلفة علي معظم مراكز المدن الأوروبية..

إذا انتقلنا  إلى الحالة المصرية، أو لنقل المجتمعات العربية، سنجد أنه على عكس  الغرب حيث التطور السيمنتي لكلمة تراث المعروف تماماً  في الغرب، لأنه المنشأ و الحاضن،  غير واضح إلى حد كبير في معظم تلك المجتمعات. فلا نعرف على وجه التحديد متى تم البدء في استعمال كلمة تراث.

فبعض الباحثين، يربط ظهورها بالمشروع النهضوي في القرن التاسع عشر، حيث بدأت تعني الموروث الثقافي. إلا أن القواميس العربية وعلى رأسها “لسان العرب” – خالية بكلمة تراث من مدلولها الحالي على عكس القواميس الإفرنجية التي قامت بتحديث المفهوم في كل مرحلة من مراحل تطوره. ولا يعني غياب المفهوم الحديث في القواميس العربية عدم وجود الإتفاق الضمني على المدلول – خاصة حينما يتعلق الأمر بالتراث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني و على وجه الخصوص الكتـاب والسنـة، أي التـراث المكتوب أسـاسـاً.

منذ مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر أواخر القرن الثامن عشر واكتشاف كنوز الفراعنة التي أصبحت تراثاً للإنسانية قبل أن يستحوذ عليها أحفادهم، و حتى صدور آخر تحديث  لقانون حماية الآثار عام ٢٠١١ مرورًا بأول مرسوم صدر في عهد محمد علي يمنع خروج الآثار من مصر (1835) ، توسع مفهوم الآثار و ليس التراث –  بشكل مواضيعى ، ليشمل أشكال متعددة (من قطعة الحلي الي المعبد) ، و بشكل كرونولوجى ليشمل حقبات بعيدة و حقبات أجدد، تصل إلى نهاية عصر إسماعيل. واكب هذا التوسع من جانب تطور التشريعات التي تهدف إلى الحفاظ و الردع وتمنع التعدي على الآثار بشكل تصاعدي ومن جانب آخر، خلق مؤسسات للحفاظ على الآثار. وفي نفس الفترة تطورت مناهج الحفاظ  نظراً لأن الأمر تعدى الحفاظ على المبنى في حد ذاته إلى الحفاظ على مدينة بكامل أجزاءها حينما تم وضع القاهرة التاريخية على قائمة التراث الإنساني لمنظمة اليونسكو عام ١٩٧٩، و في نفس العام وضعت مواقع أخرى وأصبح لمصر سبع مواقع، و هو رقم ضئيل بالنسبة للكنوز الأثرية التي تحويها مصر، منهم مدينة واحدة، هي القاهرة، بينما دولة مثل المغرب لديها خمس مدن، فاس و مكناس و اسويرا و الرباط  و مراكش وجديدة و كازابلانكا في الطريق. أما السعودية التي تخطو أولى خطواتها في مجال الحفاظ على التراث أصبح عندها تسع مواقع.  وهذا يعني، أن مصر لم تنجح في تسجيل أيا من المواقع الجديدة، بعد سانت كاترين 2002 ووادي الحيتان 2005،  لا على قائمة التراث العالمي و لا حتى على قائمة التراث القومي.  

هذا يحدو بنا إلى مناقشة التحديات التي تواجه الحفاظ التراث الثقافي في مصر. و كيفية تخطيها.

2- التحديات

التحدي الأول مرتبط بقصور في مفهوم التراث و ضرورة تخطيه، فالمؤسسة المختصة بالتراث ما زال اسمها وزارة الآثار، أي أن فهمها للتراث محصورا في الأثر في حد ذاته و ليس ما يحيط به، الشوارع بمبانيها والحرف التقليدية وطبيعة السكان و عاداتهم و بالتالي فإن عملية الحفاظ على التراث هنا، لا تأخذ في اعتبارها كل تلك الأبعاد ولكنها تهتم فقط بترميم الأثر في حد ذاته و تترك محيطه للتدهور.

· التحدي الثاني ذو بعد بيئي، حيث أن المنشآت المعمارية والتجمعات العمرانية بما فيها الحدائق التاريخية تعتبر من أكثر عناصر التراث الثقافي هشاشة، نتيجة لوجودها داخل الكتلة الحضرية أو في ضواحيها القريبة مما يعرضها لمخاطر متعددة مرتبطة بالتلوث البيئي و البصري وسوء الاستغلال و الاستعمال وزيادة الكثافات البنائية والتدهور لغياب الصيانة و من ثم الاندثار.

· و ترتبط أيضا الهشاشة بغياب الوعي المجتمعي بأهمية هذه المواقع و أهمية الحفاظ عليها كتراث أو حتى الإحساس بها كتراث وذلك نتيجة بالصراع بين التحديث و متطلبات التنمية الحضرية و أهمية الحفاظ على تجمعات عمرانية عتيقة تمثل معوقات لشق الطرق لتحسين الانتقال بالوسائل الحديثة، و كذلك التكثيف البنائي من أجل استغلال أفضل للأراضي، ولتحديث العمارة وإبداع أشكال عصرية… إلخ، و يعتبر غياب الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على التراث و توريثه للأجيال القادمة، من أخطر التحديات التي تواجه التراث، لأن إذا رجعنا للمفهوم المبسط للتراث قبل أن يتوسع، أي ما يورثه الآباء للأبناء، سنجد أن الأبناء بددوا التراث الأسري، الذي له قدسية في أماكن أخرى من العالم، فكيف نطالبهم بالوعي بالتراث القومي المشترك بينهم. لذا فكلما تعرض التراث لمحنة، كالتي نعيشها اليوم، نجد أن أقلية فقط، من النخبة الثقافية، تحتج وتقف وحيدة بدون أي دعم من الأغلبية المثقفة والمفترض أن تؤازرها، ناهينا عن غياب الشرائح الأخرى من المجتمع.

· التحدي الثالث ذي طابع اقتصادي ويختص من جانب بنقص أو ضعف الموارد المادية اللازمة وعدم وجود آليات لتوفير موارد جديدة من خلال تحديد مصادر مستحدثة و ضخها بشكل عقلاني في عمليات الحفاظ و الترميم و الصيانة و إعادة التأهيل، و من جانب آخر مواجهة مافيات الممولين العقاريين التي تعظم القيمة الربحية عن القيمة الثقافية.

· التحدي الرابع، تحد سياسي مرتبط  بقصور التشريعات وحالتها البالية التي لا تتوافق مع طبيعة و خصائص المناطق التراثية وتفرد بعضها و لا تتوافق مع المواثيق العالمية التي وقعتها مصر مع المنظمات العالمية و لا مع متطلبات العصر و تطوره، تتمثل أيضا في قصور الجهاز المؤسسي و تضخم طابعه البيروقراطي و تكاثر عدد الجهات و عدم التنسيق بينها، وفقر و جهل حراس التراث من الموظفين و المسؤولين كما أن التوجهات السياسية للدولة واختياراتها تعبر عن تضارب المصالح وسيادة مصالح رؤوس الأموال الريعية التي تبحث عن الكسب السريع  لا تراعي البعد الثقافي في استثماراتها.  

· و حتى في ظل وجود إطار تشريعي ومؤسسي لإدارة عملية الحفاظ على التراث، فإن القوانين لا تنفذ على أرض الواقع و يلقى بها في سلة المهملات، و آخر مثال علي ذلك عمليات الإزالة التي طالت الجبانات القاهرة التاريخية، و هي جزء منها تعتبر أيضًا ممتلك للتراث الإنساني، تحميها تشريعات دولية في إطار اتفاقية كانت مصر من أوائل الموقعين عليها عام ١٩٧، و تحميها أيضا تشريعات أحدث كتراث مميز ومتفرد سنتها جهة أنشئت أساسا لإدارة الحفاظ على التراث ًالمعماري والعمراني وهي جهاز التنسيق الحضاري. ومثال آخر في الجبانات، حيث تشكلت لجنة عام 2015 برئاسة الدكتور حمزة الحداد رئيس قطاع الآثار الإسلامية في هذا الوقت، لحصر وتصنيف المدافن ذات القيمة وتسجيلها، وصدر قرار وزاري و نشر بالجريدة الرسميةً و لم ينفذ.

· هذا بالإضافة إلى أن وزارة الآثار لم تسجل أي أثر جديد على القائمة الوطنية بل قامت بشطب ٢٢ أثرًا مسجلا في السنوات الماضية، أهمهم علي الاطلاق قناة ابن طولون، التي أنشئت في القرن الثامن لجلب المياه من بئر في البساتين للتوصيل المياه للقرافة ولاحقا لضريح الإمام الشافعي. وكانت تعتبر تطور تكنولوجي جديد في منظومة إمداد أحياء القاهرة بالمياه العذبة، على مستوى المنطقة، و هي أثر مسجل و ترك للإهمال و التدهور حتى كاد يندثر.. وفي معرض استجواب لوزير الآثار السابق في البرلمان عن هذا الأثر الفريد، رد قائلا : هو كل شوية طوب مسجلين لازم أحافظ عليهم؟

· التحدي الخامس هو تفشي الفساد في المحليات و المؤسسات المنوط بها الحفاظ علي التراث التي جعلت من التراث سلعة للتربح يتم نهبها بشكل منظم و بيعها لمن يدفع أكثر. و نذكر في هذا الصدد، اثناء ثورة الخامس و العشرين من يناير و ما تلاها من اعوام كان هناك فراغ امني، تم الاستيلاء علي العديد من العناصر المعمارية الثمينة من المنشآت المعمارية القديمة و بيعت في مزادات علنية في الخارج كما تم فك منبر كامل من المنشأة الجنائزية للسلطان قايتباي في القرافة الشرقية وبيعه.

التحدي السادس  ثقافي و تربوي مرتبط بغياب و شرح مفهوم و فكرة التراث من المناهج الدراسية مما يرسخ مفهوم الأثر كمنتج تاريخي بائد في انقطاع تام عن الهوية و الحاضر و غياب المنظور الشامل. يتمثل أيضا في نقص الدورات التدريبية و بناء القدرات لحراس التراث.

3- المحنة

ان تراكم هذه التحديات علي مر العصور أضر بتراث مصر الثقافي عظيم الضرر. فقد فقدنا أشياء لا تقدر بثمن و أصبحت كل مدننا بلا طابع و تم هدم و ازالة معظم الأنوية القديمة لمدننا في الدلتا و الوادي و احلال عمائر حديثة لا طابع لها يمكنها أن تكون في أي مكان. وعمليات الإحلال تلك التي قضت علي السمات المميزة  لتلك المدن وذاكرة الأماكن و الذاكرة الجمعية للسكان من شأنها تعظيم الشعور بالاغتراب عندهم مما يؤثر علي شعورهم  بالانتماء  لمكان واحد يجمعهم فيه تاريخ مشترك و ذكريات مشتركة و أماكن مشتركة يؤثر بدوره علي هويتهم . حتي ممتلك التراث العالمي، أي القاهرة التاريخية، لم ينقذها وضعها الجديد كتراث انساني من عمليات الإحلال و التجديد و التشويه و الخراب.

في مواجهة هذا العبث بالتراث الثقافي لمصر، انطلقت في عام ٢٠١٤ حملة انقاذ القاهرة التاريخية بين مكتبة القاهرة الكبري و جريدة الأخبار برعاية الأديب الراحل جمال الغيطاني لأطلاق صرخة ضد ضياع معالم مدينة الألف مئذنة  تحت معاول مقاولي البناء اللذين عاثوا فسادا بهدم دور صغيرة متفردة في عمارتها و احلوا محلها عمائر عشوائية و قبيحة متعددة الأدوار في حرم الآثار المسجلة، شوهت نسيج عمراني فريد، كان علي رأس المعايير الثلاث للمنظمة العالمية لليونسكو التي من اجلها وضعت القاهرة التاريخية علي قائمة التراث العالمي.  الا انها آخذت  تفقد يوما بعد يوم  تاريخيتها بسبب المضاربة العقارية والتي تسارعت وتيرتها بعد ثورة ٢٠١١  في ظل الانفلات الأمني و سطوة المقاولين و اعوانهم و كل من تواطئ معهم و تراخي عن القيام بدوره في الحفاظ عليها، . بحيث اصبح المشهد الذي يواجه الواقف في اعلي نقطة  في حديقة الأزهر، هو لحي عشوائي من الأحياء الواقعة علي تخوم العاصمة، مثل بولاق الدكرور و إمبابة، و قد تصدرت الواجهة  عمائر الطوب الأحمر حاجبة المآذن و القباب، التي كانت تميزها و تحدد خط السماء، خلدها الفنانون الأجانب في لوحاتهم. في عصور سابقة، و هذا ما تبقي لنا. و لم يقتصر الأمر علي خراب العمران بل تخطاه الي نهب العناصر المعمارية للمنشآت الأثرية من حشوات الابواب و المقابض والتكسيات النحاسية و النصوص التأسيسية  و المشكاوات و وصل الامر لسرقة منبر كامل هو منبر جاني بك الرماح، و كنا قد حذرنا آنذاك من يجئ يوما   نجد  مساجدنا التي لا مثيل لها في العالم العربي و الاسلامي، ، خاصة تلك التي ترجع للحقبة المملوكية، و قد تحولت لخرابات، حوائط جرداء تحوط مساحات خاوية، بعد تجريدها من كل العناصر المعمارية الداخلية و سرقة السجاجيد و النجف و الابواب و الشبابيك .كان هذا علي وشك الحدوث عندما بدأت وزارة الآثار في شهر مايو عام ٢٠١٧ في تنفيذ قرار مجلس الوزراء  رقم ١١٠الذي صدق علي قرار صادر من وزارة الآثار و ينص علي تفكيك ٥٥ منبرا آثريا و كرسي المقرئ و المصحف ووضعها في المتاحف و المخازن بحجة حمايتها من السرقة. و تم تنفيذ هذا القرار بسرعة مذهلة بفك اول منبر من مسجد ابو بكر مزهر الذي  يعود بناءه الي القرن الخامس عشر و القائه في مخزنين من مخازن القلعة سيئة السمعة. الا آن الحملة السريعة التي هبت لمنع تلك الكارثة/الفضيحة و تبنتها جريدة الأهرام آنذاك، منعت المضي في تنفيذ القرار.

أن هذا الحادث يطرح تساؤلات تتخطي موضوع نقل المنابر و المقتنيات الأخرى لتشمل مصير القاهرة التاريخية  التي يتم تشويه نسيجها العمراني كل يوم و آثارها الفريدة تعاني من الإهمال الشديد وغارقة في المياه الأرضية. في هذا الصدد تجدر الإشارة الي حديث ادلي به شيخ الأثريين العرب، الدكتور محمد الكحلاوي لموقع باب مصر في ٣٠ يوليو الماضي. و الدكتور الكحلاوي، هو رئيس اتحاد الأثريين العرب و معروف بنضاله المثابر من أجل الحفاظ علي التراث. و خاض معارك متعددة علي مدي ربع قرن. و يري الدكتور الكحلاوي ان المدينة الأهم في العالم العربي تشهد اليوم تحولات لم تشهدها ربما أكثر من الف عام، و باتت مهددة بشكل لم تشهده منذ ان قرر جوهر الصقلي تأسيسها. وان ما يحدث داخل القاهرة التاريخية هي مخالفات خطيرة قد تمحو ذاكرة مصر التاريخية و الحضارية. كما ادان في حديثه مسؤولي وزارة الآثار و طالب بمسائلتهم و محاكمتهم لمشاركتهم في و سكوتهم علي العبث بتراث مصر، و عدم تسجيلهم للمنشآت ذات القيمة الاستثنائية، بل شطب الموجود علي القائمة، و نظرتهم للتراث العمراني علي انه معوق لتنمية و ليس محفز لها. و عبء عليها،  . كما اعرب عن قلقه علي مصير القاهرة التاريخية  قائلا : أقسم بالله ، لو استمرت القاهرة علي هذا المنوال فلن يكون هناك اثر إسلامي واحد خلال  ال٥٠ سنة القادمة.

4- باب الخروج

إن التصدي للتحديات السابقة التي تواجه الحفاظ علي تراثنا الثقافي ليست مستحيلة، لكنها في حاجة فقط الي ارادة سياسية و ادارة رشيدة وواعية للموارد المتاحة و كيفية توظيفها و ضرورة الاستماع الي المتخصصين و الاستفادة من دراساتهم و تراكم الخبرات في هذا المجال.  و كنا قد وضعنا اقدامنا علي أول درجات سلم الحفاظ و الارتقاء في الفترة التي تلت زلزال ٩٢ و حتي ٢٠١١، في خلال تلك الفترة، التي تعتبر العصر الذهبي للتراث،  اهتمت الدولة بالمواقع التراثية لتشجيع السياحة  و ادرار دخل بحيث تبوأت السياحة المرتبة الأولي قبل قناة السويس و تحويلات المصريين في الخارج في ادخال عملة صعبة لمصر.، في هذه الفترة تم ترميم و إعادة تأهيل ١٥٠ منشأة تاريخية في قاهرة المعز، و نفذت منظمة الأغاخان مشروع رائد لإعادة إحياء منطقة الدرب الأحمر ، نفذ علي اعلي مستوي و طبقا للمعايير العالمية و كان بمثابة مدرسة خرجت جيل جديد من المتخصصين اكتسبوا خبرات واسعة؛ و نفذت وزارة الثقافة مشروع إعادة إحياء شارع المعز، و وزارة الآثار منطقة الفسطاط و مجمع الأديان بالإضافة الي مشاريع أخري نفذها أفراد بتمويل من بنوك إقليمية مثل مشروع الدرب الأصفر و آخرين. كل ذلك تبدد، بل حصل تراجع هائل عن مشاريع الحفاظ ليتم التركيز علي انشاء المتاحف، و هي مهمة بالتأكيد و لكنها لا تحل محل الحفاظ علي التراث الثقافي الممثل في الأنسجة القديمة للمدن.  

إن الخروج من “عصر الظلمات” التي دخل فيها  تراثنا المعماري و العمراني، تفرض علي كل أفراد المجتمع الوقوف بحسم في مواجهة  تدمير الذاكرة. فالإرث الثقافي لمصر هو ثروتها الأساسية والحفاظ عليه و حسن توظيفه يحوله الي موتور للتنمية المستدامة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *