كارم يحيى يكتب : الاحتفال بالشيخ إمام ونجم 1968.. صفحة من تاريخ آخر لنقابة الصحفيين المصريين

لكل مكان تاريخه مع ساكنيه من أهله ومجتمعه المحيط. أحداث تلو أحداث بعضها يسر ويبهج ويدعو للفخر، وأخرى على عكس هذا. وبين هذا وذاك ماهو ملتبس، أو أصابته عوادي التمجيد والمبالغات أو الإهمال، أو تعمد النسيان. و لا يقل في السوء والنكران أن تفقد الأماكن بمرور الزمن ذاكرتها. وهذا لو لم تجد من يهتم، ويعيد النظر والبحث ويوثق، ويظهر أمام الحاضرين ماجرى من السابقين وعندهم ولهم.
ودون مبالغات أو إدعاء تميز وفرادة وتاريخ تمجيدي يبالغ أو يضلل، أظن أن بدورها لنقابة الصحفيين المصريين، الموقع والمكان و الوقائع / الذكريات ، تاريخ لايخلو من دورس وعبر ودلالات. و لا أقول إنها أبدا أنها جمعيا”مهمة” أو “عظيمة”، واكتفى بأنها تستحق التوثيق والإحياء والدارسة. لكنها للأسف مطموسة. وأمسك للآن وهنا عن القول بأنها “محجوبة عن عمد”.
و أقدم اليوم لزميلاتي وزملائي الشباب ولمن يهتم من القراء واحدة من هذه الصفحات المنسية. وبالطبع ولنفسي ولجيلي الذي تردد على مبنى النقابة القديم مع النصف الثاني من السبعينيات، ويتاح له أن يلحق بقبس مما كان حديقته الأمامية الدافئة و بوابتها التي لا تعزل أو تحجب عن شارع أو مجتمع. وسأظل كغيري آسف لغياب صورة فوتوغرافية لهذا المبنى المشحون بالذكريات عن جدران المبنى الحالي لليوم، والذي شبهته في كتابات تعددت، وحتى قبل الانتهاء منه مطلع القرن الحادي والعشرين، “بمول النفخة الكذابه”.

*
يوم الثلاثاء 5 نوفمبر 1968، استضافت قاعة الجمعية العمومية للنقابة بالطابق الأرضي، الثنائي “الشيخ إمام ” و”أحمد فؤاد نجم”. وكانت يتمتع جانب من القاعة بواجهة زجاجية لاتعزل أو تحجب بدورها عن الحديقة، و يجرى الصعود إليها ببضع درجات معدودة في نهايتها. أما الثنائي فقدما لمقر النقابة من حارة “خوش قدم” بالغورية / القاهرة بعدما أصبحا بأغانيهما السياسية الناقدة المحرضة بعد هزيمة يونيو 1967 ظاهرة تقلق الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر” ورجاله ونظامه وأجهزته. وأيضا محل اهتمام وشغف “مجتمع آخر يولد”، متشكك ناقد معارض. وقد أخذ يفصح لتوه عن نفسه في مظاهرات الطلبة والعمال اعتبارا من فبراير 1968، و تمردات المثقفين، وحتى داخل المؤسسات الرسمية، وبما في ذلك دور الصحف التابعة قانونا للتنظيم السياسي الوحيد “الاتحاد الاشتراكي”.
وأن تحتفى نقابة الصحفيين في حفل بظاهرة ” إمام ونجم” في هذا التوقيت هو عند العديد من المصادر المنشورة عن سيرة الرجلين الراحلين بمثابة أول ظهور لهما في حفل عام، أو هكذا على الأرجح. وحتى ذلك الحدث، ربما كان المصدر الأهم لذيوع أغانى “إمام” لنجم وشعراء آخرين من اليسار، هو الحفلات الخاصة في بيوت المثقفين. ولم تكن تسجيلات شرائط الكاسيت قد أصبحت متداولة في مصر بعد على نطاق واسع، وكما جرى مع ثورة تكنولوجية/ موسيقية / غنائية بحلول عقد السبعينيات، وحيث منحت هذه الشرائط وأجهزتها المستوردة الغناء غير الرسمي غبر المعترف به من الإذاعة والتلفزيون ( التابعين بدورهما لسلطة الدولة) فضاء سمح للشيخ “إمام” ثم “عدوية” وغيرهما بالانتشار الجماهيري.
*
ويقدم الزميل الأستاذ “عبده جبير”، شفاه الله، في كتابه “النغم الشارد: المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وآخرين” الصادر عن دار “آفاق” للنشر والتوزيع بالقاهرة عام 2015 توثيقا لمجريات حفل “إمام ونجم” بالنقابة، واستند إلى أرشيف مجلة “الكواكب” وبخاصة عدد 13 نوفمبر 1968، وكان يرأسها الأستاذ “رجاء النقاش” ، وحيث تولت المجلة تنظيم الحفل والدعوة إليه. وينقل عن التغطية الصحفية “للكواكب” أن جماهير غفيرة احتشدت في قاعة نقابة الصحفيين قدرتها بألف شخص، وفي مساحة مجهزة لاستقبال 400 فقط. وتفيد التغطية الصحفية أيضا بأن الحفل المحتفي “بإمام ونجم” قدم ثلاثة أصوات جديدة، هي : “عفاف راضي” و “ليلى نظمي” والفنان التقدمي النوبي السويسي الصديق الراحل المهندس “محمد حمام”، صاحب أغنية “يابيوت السويس يابيوت مدينتي”، وعلاوة على الفنانة المعروفة حينها والمنخرطة في تنظيمات الدولة السياسية “فايده كامل”. وقالت المجلة، وفق “جبير” أن من الأغنيات التي غناها الشيخ “إمام”: “جيفارا” و”شرم برم” و”يعيش أهل بلدي”.
ويلفت النظر هنا مدى ما تتضمنه هذه الأغنيات، من خطاب ممنوع وملاحق سلطويا في مصر 1968. وعلى سبيل المثال، فإن “جيفارا” تتضمن تقديرا وحثا على “حرب الشعب الثورية”.وهذذا بنيما كانت الرقابة الرسمية في الصحافة آنذاك تحذف مصطلح “حرب الشعب” وكل ما يذكر المصريين بها. وعندي شهادة على ذلك سجلتها بالفيديو للكاتب والمؤرخ الفلسطيني المقيم في القاهرة الأستاذ “عبد القادر ياسين”، والذي كان يكتب بالأساس حينها في مجلات يسارية للثقافة السياسية، مثل “الطليعة” و”الكاتب”. أما أغنية ” يعيش أهل بلدي” فهي توجه سهام نقد مباشر ساخر لصيغة تحالف قوى الشعب العامل التي يقوم عليها الاتحاد الاشتراكي، والوثيقة السياسية الأهم لعهد عبد الناصر “الميثاق”.
وفي حواراته مع الزميل الأستاذ “أيمن الحكيم” قال “الشيخ إمام “:” في أواخر 1968 أقيمت لنا حفلة ضخمة في نقابة الصحفيين دعوا إليها كبار النقاد والصحفيين والفنانيين . ورغم أن الدعوة كانت موجهة إلى 400 شخصا إلا أن النقابة امتلأت عن آخرها. وجاء الناس من كل مكان ليسمعوا أغانينا. وفي صباح اليوم التالي، كتبت كل صحف مصر عن هذه الحفلة وامتلأت أعمدتها بكلمات الإعجاب والثناء. ومازلت أذكر مقالات أحمد بهاء الدين و محمود أمين العالم و عبد الرحمن الخميسي وغيرهم من كبار الكتاب”.
ووفق رواية “الشيخ إمام” هذه في كتاب الحكيم “مذكرات الشيخ إمام: سنوات الفن والسجن والدموع” الصادر من “دار الأحمدي” عام 2001، وهي بالأصل حوارات تتابع نشرها صحفيا في مجلة “الكواكب” عام 1994، جاء الظهور في إذاعة “صوت العرب” لفترة وجيزة بعد حفل نقابة الصحفيين. وهذا قبل الاختفاء أو الإخفاء الرسمي التام لظاهرة “إمام ونجم” طوال عهد “عبد الناصر/ السادات) على الأقل.
أما الشاعر “نجم” فلم ينس في مذكراته المعنونه بـ”الفاجومي” التطرق إلى حفل الصحفيين، وإن قال بأنه حفلين اثنين ولم يكن حفلا واحدا. وكتب وفق ماورد في الجزء الثاني الصادر من “مكتبة مدبولي الصغير” بالقاهرة في طبعة ثانية عام 1995 مايلي نصا، ودون تحديد تواريخ أو توقيتات:
” اللي حصل في حفل نقابة الصحفيين شيء ما ينحكيش ولا يتوصفش .. زحام رهيب من الباب البراني إلى المنصة.. حسيت بالدفء والأمان والقوة والعزم الشديد .. الناس حلوة قوي ياولد .. إيه الجمال ده كله .. غابة حقيقة من الزنود والسواعد السمرا مرفوعة حوالينا كأنها بتحمينا وابتسامات صافية وفرحة في العيون محاوطانا من كل جانب” .
وأشار “نجم” الى أن “الشيخ إمام” وهو قاما بالغناء خارج البرنامج المتفق عليه مع “رجاء النقاش”. فأنطلقا بشجاعة للصدح بأغنية”بقرة حاحا” وغيرها. وقال أن هذا أثر على علاقته “بالنقاش”، وأضاف: “خلصت الحفلة بهدف صاروخي سجلناه في مرمى الحكومة بكل مؤسساتها الثقافية والاعلامية ..”. وكان “نجم” قد ذكر أيضا بحملة التشويه والتهديد له و”للشيخ” إمام من جانب شعراوي جمعة وزير الداخلية وغيره قبل هذا الحفل.
وعن الحفلة الثانية بالنقابة، والتي لم يمكن بالنسبة لي العثور على أثر لها في روايات أخرى، قال “نجم” أن “الشيخ إمام” قام بها ودون أن يخطره. واعتبرها بمثابة “مؤامرة من رجاء النقاش للتفريق بينهماط. وقال أو زعم “نجم” أنه فاجأ الجميع بذهابه للحفلة الثانية، وصعوده للمسرح مصطحبا الشاعر “فؤاد قاعود”. وقال أو زعم أن “النقاش” عاتبه غاضبا في مكتب النقيب “بهاء الدين ” وحضور عضو المجلس ” الأستاذ كامل زهيري” قائلا :” ده موقوف تنظيميا ( المقصود من الاتحاد الاشتراكي ) وممنوع من الكتابة”، وأن النقيب تدخل قائلا::” خلاص يا أستاذ نجم ما تشغلش بالك واتفضل روح لجمهورك” ( ص 287 و 288)
*
ولكي نعلم مغزى أن تستضيف نقابة الصحفيين ونقيبها الراحل المرحوم “أحمد بهاء الدين” ظاهرة “نجم/ إمام” التي صنفها باحثون لاحقا بأنها عنوان مهم في “الغناء البديل” و”الثقافة المضادة” لسلطة الدولة مصريا وعربيا حينها أشير إلى رؤوس الأقلام التالية، داعيا للتفكير في إجابة للسؤال: إلى أي حد كانت هذه الاستضافة تنطوي من جانب نقابة الصحفيين ومجلسها ونقيبها على تحد وجرأة سياسيين ونزعة استقلالية عن السلطة، وفي ظل نظام شمولي يقدم “وطنيته وثوريته” هو وزعيمه مبررا لاتهام من يعارضه أو يختلف معه علنا بعكس “الوطنية والثورية”. وبالطبع كان النظام في هذا التوقيت يبدو كـ “أسد جريح” جراء هزيمة 67 واحتلال كامل سيناء.
.. ولنتأمل رؤوس هذه الأقلام :
ـ مصر كانت حينها تعاني ويلات هزيمة 5 يونيو 1967، وجيشها مشتبك في معارك على خط القناة، والخطاب السائد في الصحافة ومختلف وسائل الإعلام بالقاهرة يشدد على شعارات ومقولات “حماية الجبهة الداخلية” و”لاصوت يعلو فوق صوت المعركة”.
ـ كانت نقابة الصحفيين نفسها بالكاد تتعافى من آثار تدخل السلطة التنفيذية في شئونها وبالقرار الوزاري الصادر عام 1967 حل مجلس النقابة ( برئاسة المرحوم الأستاذ إبراهيم البعثي) وتشكيل لجنة مؤقته برئاسة رئيس محكمة استئناف القاهرة أدارتها لفترة، وأعقبها اجتماع للجمعية العمومية ( ربما في مارس 1968 .. أقول ربما) ، انتخب الأستاذ ” أحمد بهاء الدين” نقبيا، وجاء بعضوية مجلس ضم الزملاء الراحلين: سامي داود و محمود سامي وحسن الشرقاوي و صلاح الدين حافظ وفتحي غانم ونوال مدكور و عبد المجيد نعمان ومكرم محمد أحمد وصبري أبو المجد وسعيد سنبل و طلعت شعث.
ـ كانت الرقابة الرسمية المباشرة على الصحافة مازالت مفروضة، ولذا تقدم الأستاذ “بهاء الدين” خلال ولايته بوصفه نقيبا بمذكرة إلى الاتحاد الاشتراكي، يطالب فيها برفع هذه الرقابة، محتجا بأن رؤساء التحرير في المؤسسات الصحفية التي تتبعه، يتحلون بالمسئولية السياسية، وأنه يكفي سلطة الاتحاد في محاسبتهم وتغييرهم، وهذا ما يغني عن هذه الرقابة. وحقيقي يصعب بالنسبة لي الآن تحديد هل كان هذا قبل استضافة مبنى النقابة لظاهرة “إمام / نجم ” أم بعدها بقليل؟.
ـ تحول “إمام ونجم” إلى الغناء السياسي المعارض الناقد بعد هزيمة يونيو 1967،واشتهرا بأغان استفزت نظام “عبد الناصر” وهاجمته، ومن بينها وعلى نحو خاص أغنية ” الحمد لله خطبنا تحت بطاطنا يامحلا رجعة ظباطنا من خط النار” إنطوت على هجاء شديد، وبالطبع جرى استخدامها للتحريض على الشاعر والملحن المغني بأعتبار أنهما يضعفان الجبهة الوطنية زمن الحرب ومعنويات الجيش ويحرضان جنوده على ضباطه. والأغنية متاحة على شبكة الإنترنت، ويمكن الاستماع إليها ولكلماتها القوية الجريئة في نقد طبيعة النظام الناصري وتشهيريها باهترائه وكذبه.
ـ في فبراير 1968 اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال لتتحدى وللمرة الأولى بعد 1954 سلطة وشعبية الرئيس الراحل الأسبق “عبد الناصر”. وتنتقده بشعارات ترددت في الشوارع والميادين، وتطالب بالديمقراطية والحريات ومحاربة الفساد وبسقوط “دولة العسكريين والمخابرات و المباحث”، وبإقالة وزير الداخلية “شعراوي جمعة” وكافة الوزراء العسكريين من الحكومة، و أيضا بحرية الصحافة. وهي المظاهرات التي لم يسلم الأستاذ الراحل “محمد حسنين هيكل” رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس تحريرها من غضبها، فتناولت صحافته باتهامها بالكذب. وعلى سبيل ردد المتظاهرون شعارات: ” تسقط صحافة هيكل الكاذبة”و” حرية الكلمة من أجل الشعب”. وهذا وفق ماورد في كتاب “سنوات عصيبة: ذكريات نائب عام ” للمستشار “محمد عبد السلام” النائب العام في عهد الرئيس ” عبد الناصر” بين أعوام 63 و 1968، والصادر عن “دار الشروق” عام 1975.
ـ بل وجاء الحفل أو الحفلين (والعهده على نجم ) قبل أيام معدودة من تجدد مظاهرات الغضب ضد “عبد الناصر” ونظامه انطلاقا من 20 نوفمبر 1968. وبلاشك أن النذر المباشرة لهذا الغضب كانت تتجمع تحت الأعين والحواس المهنية لصحفيين مطلعين أثناء الإعداد لاستضافة “نجم وإمام” في نقابة الصحفيين واتخاذ هذا القرار.
وماحدث أن “نجم” و”إمام” جرى اعتقالهما بعد أيام فقط من حفلة نقابة الصحفيين، وحول يوم 22 نوفمبر 1968 ، والأرجح بعيد اندلاع المظاهرات يوم 20 نوفمبر بيومين فقط. ولم يكن هذا هو الاعتقال الوحيد في عهد الرئيس “عبد الناصر”، فقد مات يرحمه الله بحلول 28 سبتمبر 1970 وهما في السجن. وللمفارقة تماما كالراحل الإستاذ “لطفي الخولي”، اللذين انتقداه تلميحا في أغنية ناقدة تسخر من تحولات وأدوار المثقف اليساري داخل مؤسسات الدولة. وكان من الواضح أن “نجم” و”إمام” و”الخولي” تحولوا في نهاية عهد “عبد الناصر” إلى مايشبه “سجنائه هو شخصيا”، ولن يعودوا من وراء الشمس في حياته.
*

ما أريد أن أختتم به هنا هو أن أكرر دعوة لا أمل منها وغيرى من أجل العمل على بناء أو إعادة بناء أرشيف نقابة الصحفيين المصريين، وانقاذ ما ضل أو تبدد أو اهترأ أو شرد من وثائقها منذ تأسيسها عام 1941 ، وسواء داخل المبنى أو خارجه. وأيضا انقاذ ما ضاع بسبب تقصير في الحفظ والأرشفه وكتابة محاضر الجمعيات واجتماعات المجلس والمؤتمرات والأنشطة. وكذلك جراء آفة تعامل عدد لا بأس به من النقباء وأعضاء المجالس منذ عقود مع التقارير المقدمة للجمعيات العمومية بوصفها منشورات دعاية شخصية، مع توحش “النرجسية”.
وفي هذا السياق، أصبح ملحا الإسراع إلى جمع شهادات الزملاء المتقدمين في العمر وتسجيلها بالفيديو. وهذه مهمة واجبة على مجلس النقابة لا تحتمل مزيد التأجيل أو التأخير ولها الاستعانة باعضاء الجمعية العمومية المهتمين وأساتذة التاريخ والصحافة .
ولنا عودة للكتابة في هذا الشأن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *