كارم يحيى يكتب: غياب التضامن بين الصحفيين وجنايته على حرية الصحافة العربية

خلال عام واحد فقط، هبطت تونس من المرتبة 94 إلى 121 من إجمالي 180 دولة بالعالم. وأصبحت الخامسة عربيا في تصنيف مؤشرات حرية الصحافة لمنظمة “مراسلون بلا حدود” الدولية ومقرها الرئيسي في باريس. وكانت قد تقدمت إلى المرتبة 72 والأولى عربيا قبل انقلاب الرئيس قيس سعيد ومعه قطاع لابأس به من النخب ببلاده على مسار الانتقال إلى الديمقراطية بعد ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير (جانفي) 2011.
أما مصر وللأسف، فحدث ولا حرج. فهي تقبع منذ نحو عقد كامل في القاع أو على مقربة جدا منه. ووفق تقرير المنظمة الدولية ذاته لعام 2023، والذي يجرى إعلانه مع اليوم العالمي لحرية الصحافة 3 مايو، يحتل بلدنا اليوم المرتبة 166. ولا يفصل بينه وبين آخر دولة في التصنيف العالمي إلا 14 مرتبة/دولة ليس إلا. وهكذا هو ما أصبح عليه حال مصر رائدة الصحافة العربية إلى جانب لبنان، والتي عرف الصحافة مبكرا مع الحملة الفرنسية 1897 و”الوقائع المصرية” عام 1828 في عهد الوالي “محمد علي”، فما يسمى بالصحافة الأهلية ( غير الرسمية) اعتبارا من العقد السابع من القرن التاسع عشر. بل وكان ترتيب مصر وفق ذات المؤشرات لحرية الصحافة عام 2010 هو 127 من إجمالي 178 دولة.
ودول العالم العربي بأسره تتأخر في الترتيب بين أقاليم العالم. ويصف التقرير نصفها على الأقل بأنها في وضع ” سيئ للغاية”. بل وتعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفق التقرير ذاته “أكثر مناطق العالم خطورة بالنسبة للصحفيين” . وتحتل الدولة الأكثر تقدما، وهي جزر القمر، المرتبة 75، أي متأخرة عن تونس الأولى عربيا في عام 2019 كما أشرنا. وبالإصل فإنها دولة شديدة الهامشية والتأثير في الإقليم العربي. وبالطبع مقارنة بمصر، وكذا تونس.


*
بؤس أحوال صحافتنا وصحفيينا يزداد بؤسا. ويصدق في ذلك قول شاعرنا “المتنبي” الذي اشتهر بتبذبه في القول والسلوك بين الشجاعة والجبن : “وتكسرت النصال على النصال”. وبالطبع فإن السهم الأكبر والأخطر في هذا البؤس يعود إلى استبداد السلطات والحكام العرب لليوم. وأيضا إلى إزدياد توحشهم وقسوتهم ـ بل وجنونهم ـ بعد النجاح في كسر موجتي انتفاضات وثورات الشعوب من أجل الحرية والعدالة والكرامة والتقدم والديمقراطية، وإن كنت وغيري نعتبره نجاحا مؤقتا لانهائيا، ولاحاسما.
لكن هناك عامل آخر لايجب التغافل عن سهمه في هذا التأخر والتدهور لحرية صحافتنا ومهنيتها واحترافيتها واحترامها للمواطن ولقواعد وأخلاقيات المهنة. ولقد إختبرته وغيري كصحفيين هنا ومنذ عقود. والمقصود هو غياب وضعف التضامن بين الصحفيين أنفسهم في مواجهة العدوان على حرية الصحافة و الحريات عموما، وعلى حقوقهم والجمهور .. ومن أي جهة كانت.
وقبل نحو شهر أو يزيد قليلا وخلال نقاش وجدال مطول هاتفيا مع زميل عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين من المؤيدين للسلطة وأصحاب المناصب في مؤسسات صحافة الدولة، عاتبني لأن من وصفهم بـ”أصدقائي” من دعاة التغيير ورافعي رايات الاستقلالية والدفاع عن الحرية والحقوق ومن بين أعضاء المجلس نفسه لا يتورعون عن التعاون والعمل وتقاضي مكافآت عن إسهامات لهم بالنشر في صحف ومواقع صحفية إلكترونية ترد إليهم الشكاوي عن انتهاكها لحقوق زميلات وزملاء وكرامتهم. وهذا وحتى بعد تيقنهم من صحة هذه الشكاوى وجسامتها. بل والأنكي أن مثل هذا التعاون والنشر والمكافآت الإضافية فوق أعمالهم الأساسية الأصلية في هذه الصحيفة أو تلك يأتي لاحقا للشكاوى والتحقق من صحتها. وهكذا هو الحال مع وفي ظل العجز أو التقاعس عن ردها ومعاقبة مرتكبيها نقابيا وتفعيل آليات التحقيق والمحاسبة والعقاب من خلال مجلس النقابة وهيئاتها المعنية، أو حتى بأشكال ومباردات حرة بين الصحفيين أنفسهم.
والحقيقة وعند هذا النقطة وجدتني لايمكن لي أن أختلف هذه المرة مع الزميل عضو مجلس النقابة. ومع أنني أدرك تماما وعبر مواقف متعددة وسلوكيات غير خافية أنه ليس بنصير للحقوق والحريات بالمجمل. ولم أجد أمامه هنا سوى أن أنبهه ـ مع إفصاحي عن اتفاقي معه في هذه النقطة ـ لكوني طالما اختلفت بدوري مع من وصفهم ” بأصدقائي” في العديد من الأمور، وبجهادي للنفس حتى لا أقع أيضا مريض الشللية وإعلاء الانتساب للروابط الشخصية والتقليدية والنفعية على حساب المبادئ وقيم الحريات والحقوق والموضوعية والمؤسسية في المجتمع الحديث مابعد الإقطاعي أو شبة الإقطاعي.


*
من قبل ، كتبت ونشرت كتابا/ دراسة موثقة في المقارنة بين حالتي نقابتي الصحفيين بتونس ومصر خلال عشرية ما بعد 2010 وبعنوان “تحولات نقابتين” منتصفا ومقدرا لأحوال زملائنا التونسيين وإزاء التدهورالبالغ في أحوال الصحفيين المصريين ونقابتهم. واليوم أستطيع أن انتقل بمراجعاتي و إعيد تقييم أوضاع الصحفيين التونسيين ونقابتهم إلى مربع أبعد.
في البداية كتبت ونشرت في “الأهرام” مقالا بعنوان ” ربيع الصحفيين في تونس” بعدد 20 يناير 2015 منبها إلى مظاهر التضامن هناك، والمفتقدة بين زملائي في بلادي، وقبل أن تتعاظم وتستفحل وتتوحش بمصر ونقابتها. وكان عندي ما شهدت وسمعت في تونس من وقائع في هكذا تضامن، ومن بينها مقاطعة ندوات ( مؤتمرات) صحفية لمسئولين كبار أو الانسحاب منها لتجاوزهم تجاه زميل واحد. وهكذا ترجمة للوعي بأن إهانة صحفي واحد أو الجور على حقوقه في ممارسة المهنة بحرية وكرامة هو اعتداء على الصحفيين كافة.
لكنني وبعدما تابعت وبدقة مواقف للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وغالبية المجتمع المدني بتونس إزاء ما فعله الرئيس “قيس سعيد” ومعه موجة الثورة المضادة الأقوى والأعنف والأكثرتأثيرا بمسار الانتقال إلى الديمقراطية وبالحريات والحقوق المكتسبة جراء الثورة. وكذا بواكير وتطور انتهاك سلطة الدولة البوليسية العائدة بقوة لحقوق الصحفيين والصحافة والجمهور ولتداول المعلومات وحرية الصحافة والتعبير و تعدد الآراء وما أصاب أداء مؤسسات الإعلام العمومي من انتكاسات. ولذا انتقلت إلى مربع التساؤل والشكوك. وكتبت ونشرت في موقع “نواة” مقالا بعنوان “هل هو خريف الصحفيين في تونس؟” بحلول 1 أبريل ( أفريل) 2022. وهذا وقبل أن أقرر لاحقا التوقف تماما عن أي سعي للنشر به .
وللأسف سرعان ما تعمقت وتوسعت ملاحظاتي وغيري إزاء بعض الشكوك والشكاوى والمخاوف تتعلق بالتمييز في التضامن بين الصحفيين التونسيين أنفسهم ومن داخل نقابتهم مع تعاظم عدوان السلطة. ولأسباب يقال أن بعضها ” أيديولوجي/ سياسي”، أو نتيجة الروابط الشخصية والشللية. أو حتى لمجرد الاختلاف في الرأي، والذي طالما رفعنا شعار أنه “لايفسد للود قضية”. فمابالنا بالتضامن بين الزملاء ؟، ومعه واجبات التنظيم النقابي وقياداته المنتخبة الممثلة لكل أعضائه، ولممارسي المهنة بصفة عامة.
بل وأيضا تجمعت أمامي ـ وبعد غيري ـ شواهد تعددت وتوالت بشكل مؤسف على تدهور روح وممارسات التضامن بين الصحفيين التونسيين أنفسهم. ولعل من بين وقائعها المتكررة استمرار زملاء بوسائل الإعلام العمومية في تغطية جلسات “برلمان الرئيس” فيما منعت السلطات وفي سابقة لم تعرفها تونس بعد الثورة الصحفيات والصحفيين من وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية والجمعياتية من الدخول إلى مقر البرلمان، وحتى في جلسة الافتتاح. ولا أظن أن مثل هذا الانهيار في التضامن بين أهل المهنة كان متصورا من قبل ومنذ سنوات معدودة تلت ثورة الشعب التونسي.
في أمثالنا العربية القديمة يقولون :” لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض”. فكم من ثور أبيض وقف صحفيون ونقابيون وحقوقيون يتفرجون عليه وهو يأكل المختلفين معهم في الرأي أو من ليسوا “من جماعتهم”. وهكذا ورويدا رويدا وآجلا إن لم يكن عاجلا صاروا هم أيضا بين أنياب الأسد ذاته، والذي لا يشبع ولن يشبع. يصرخون ولا مجيب وبلا أثر فعال.
وحتى على مستوى التجربة المباشرة عندي ما أقول عن غياب روح التضامن بين الصحفيين وتأثيرها على أحوال حرية الصحافة العربية ومهنيتها واحترافيتها واحترامها للجمهور والحقائق والآراء. عندي ما أقول وأكتب وأنشر سواء بالنسبة لمصر. وحتى لما عايشته بشأن مالحق بتونس وصحفييها منذ عامين ويزيد قليلا، وعلى أصعدة التضامن بين الزملاء إزاء عدوان السلطات أو احترام الاختلاف في الرأي بينهم، وكبح جماح شهوات رقابة المسئولين عن النشر الصحفي في منع آراء الزملاء. وفي فمي ماء اليوم، لكن لابد يوما ـ ويحسن قريبا ـ من كشف الجروح القروح هنا في مصر وهناك في تونس، وحتى لاتزداد تعفنا وخطورة.
*
في بداية عام 2005 ، نشرت في سياق كتاب ” حرية على الهامش: في نقد أحوال الصحافة المصرية” ـ وتحديدا فصل بعنوان ” النقابة المختطفة: عن البيروقراطية النقابية والقيادات العازلة” ـ ما يعكس نوعا من الوعي بغياب التضامن بين الصحفيين المصريين بصفة عامة، وبخطورة هذا الغياب حتى داخل نقابتهم وبين قيادتها. ومن بين ما كتبت ونشرت هذه الفقرة:
..” كاد التنظيم النقابي للصحفيين أن يتحول إلي جمعية استهلاكية أو شركة لتسويق العقارات ، و تعلوهما لافتة نقابة، وانتهاء بمجمع خدمات مكيف كأنه “جزيرة الاستثناء” في دولة يجري فيها إهدار حقوق وكرامة المواطنين طلبا لواسطة أو لدفع رشوة ، حتى في سداد فاتورة تليفون.
لا تتكفل هذه السياسات فقط بتحويل النقابة إلي مجمع خدمات وساحة لاقتناص فرص غير متاحة لآخرين. فقد انحرفت بالمنظمة النقابية عن أدوارها الأساسية لتعيق الصحفيين عن التفكير والعمل جماعيا علي تحسين الأجور وعلاقات العمل. وانحسر ما تبقي من تراث التضامن مع الزملاء المعتقلين والمفصولين و في الصحف المغلقة والمعطلة. وأصبح مألوفا مشهد الازدحام في قاعات الاقتراع علي الشقق و قطع الأراضي وحتى المدافن ، بينما علي مقربة تخلو الغرف والأركان حول المعتصمين أو المضربين عن الطعام وقد شارفوا علي اليأس أو الموت. وهكذا يترسخ التنافس الفردي بين الصحفيين أنفسهم علي السلع والخدمات ليحل محل رابطة التضامن الجماعي والإحساس بمسئولياته ومهامه ، بينما يجرى إيهام الصحفيين بأنهم ” فئة مميزة” ، تحصل بفضل نقيبها و رجاله علي امتيازات خاصة من الدولة . وكان مثل هذا الإيهام كفيلا ببناء أسوار من حساسيات وعزلة بين الصحفيين والمجتمع . هذه الأسوار سرعان ما ارتفعت فوقها رايات صمت آثم علي انتهاكات حقوق المواطنين ، و خفتت خلفها خر بشات المقاومة لكافة أشكال الرقابة المفروضة علي الصحف و انتهاك أخلاقيات المهنة. و أوشك جيل كامل من الصحفيين ممن تبقت جذوة الاستقلالية ـ وهي روح المهنة ـ تنبض فيهم علي الموت صمتا تواطؤا وقهرا.”.
*
وبالطبع كان هناك وجاء ما هو أسوأ وأضل سبيلا. فقد عرفت نقابة الصحفيين المصريين، وحتى بعد ثورة يناير المجيدة، تورط أعضاء بمجالسها في التواطؤ ضد حقوق زملاء لهم في صحف يشغلون مواقع قيادية بها. بل وحتى تسهيل فصل أعداد منهم من العمل فصلا تعسفيا جائرا مع التنكر لحقوقهم جراء هذا الفصل. وكما جرى استدعاء تراث لا أخلاقي على صفحات الصحف منذ عقود. وهو موثق على صفحات الصحف لايخفي التحريض والتشهير ضد الزملاء المستهدفين من السلطة الاستبدادية والحاكم الطاغية والدولة البوليسية بالاعتقال والاتهامات الظالمة ومصادرة الحق في العمل والنشر. ناهيك عن قبول بعض الزملاء ـ ودون إدانة او استنكار أو توقف من الجماعة الصحفية ـ تولي مناصب قيادية في هذه الصحيفة أو تلك بديلا عن زميل قامت سلطة السياسة والمال والإعلانات المتجبرة المتعسفة بالإلقاء به من النافذة. وهكذا مطرودا ومعتدى على أدنى حقوقه المالية والمعنوية لالتزامه بالمهنية وحرية الصحافة، وحتى ولو لدفاعه عن الفصل الواجب بين المادة الصحفية وغير الصحفية أو لرفضه تدخلات غير صحفية في مجريات العمل الصحفي. وكذا القبول وببساطة باحتلال مساحة نشر رأي كانت مخصصة لزميل أو تغطية مصدر من مسئولياته بعدما ضاقت به سلطة الطغيان، وانصاع لها ولمزاجها الزملاء أصحاب سلطة النشر الصحفي.
اليوم أيضا علينا كصحفيين ومهتمين بحرية الصحافة بخاصة والحريات وتقدم مجتمعاتنا بصفة عامة الانتباه أيضا لخطيئة غياب التضامن بين الصحفيين أنفسهم وضعفه، وجنايته على صحافتنا وصحفيينا.
.. لننبته كذلك إلى ضربات أدوات الطغاة وأشبهاهم أعداء الصحافة والحرية بين صفوفنا، وداخل بيوتنا صحفا ونقابات.
.. انتبهوا لأن السهام لاتأتي من جانب واحدة. ولأن بعضها يأتي من الخلف كطعنات “بروتوس” ووشايات “يهوذا”.
ــــــــــــــــــــــ
(*) بمناسبة يوم حرية الصحافة العالمي و أول مقال أرسله إلى “درب” بعد رفع الحجب عن موقعها في مصر . وعقبال كل المواقع المحجوبة صحفية ومعلوماتية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *