كارم يحيى يكتب: “خميس الشماري” أبعد من تونس .. ولا نقل وداعا بل إلى لقاء

يستحق الحقوقي “خميس الشماري”، الذي رحل أمس عن عمر ناهز 81 سنة، التكريم من العالم العربي بأسره وليس تونس وحدها، وذلك لنضاله من أجل الحريات والديمقراطية، ومن أجل أن تتمتع شعوبنا المنكوبة بطول الاستبداد والفساد والتخلف بحياة تليق بالإنسان والإنسانية.

لا تسعفني الذاكرة اليوم، فلا أتذكر هل التقيت بهذا المناضل الكبير في القاهرة خلال عقد الثمانينيات أو مطلع التسعينيات أم لا؟. ربما، وحيث كان مصريون يتبارون مع أشقائهم بتونس في اللحاق، ولو متأخرا، بركب حركة حقوق إنسان كونية ناهضة، ومستقلة عن الحكومات أجنبية ومحلية، ومنحازة للمواطن والمواطنة.


وليس أدل على جاذبية هذه الحركة عند مولدها في مصر عقد الثمانينيات، ومن قبل في تونس خلال عقد السبعينيات، أن شخصيات وازنة ذات تاريخ وطني تصدرت صفوف المؤسسات الأولى لهذه الحركة. وأذكر في مصر تحديدا وعلى سبيل المثال: المرحوم “فتحي رضوان” (1911 ـ 1988). ولن أنسى كيف مشينا خلفه في مظاهرة من أجل الحقوق والحريات بشوارع القاهرة منتصف الثمانينيات، وقتما كان الخروج للتعبير عن الرأي ممكنا .

لكنني ها أنا، بعدما جاءني نبأ وفاته من تونس قبل ساعات، أعود إلى كتابي “الشبيهان: سيرة مزدوجة لمبارك وبن على” الصادر في سلسلة “كتابات الثورة” من “الهيئة العامة لقصور الثقافة ” بالقاهرة 2014، فأجد اسم “الشماري” محفوظا بين صفحاته، وفي فصل تحت عنوان: “الوعد الكاذب: خطاب العهد الجديد”.

وينقل الكتاب هنا عن تقرير “منظمة العفو الدولية” عن أول عام لعهد الجنرال “زين العابدين بن على” في قصر “قرطاج” الرئاسي، وعلى الرغم من مؤشرات تفاؤل مخادع بقرارات عفو عن آلاف المعتقلين وسجناء الرأي، توثيقه لمحاكمة ” خميس الشماري ” الأمين العام للرابطة التونسية لحقوق الانسان في يناير 1988، بزعم “الترويج لمعلومات كاذبة من شأنها تكدير النظام العام”. وذكر التقرير بأن “الشماري” كان قد ألقى القبض عليه في أبريل عام 1987، أي قبل انقلاب “بن على” الأبيض على الرئيس “بورقيبة” بنحو ستة أشهر، ولكن جرى إطلاق سراحه بعد شهر واحد على خلفية حالته الصحية.
وفي عام 1999 عندما صدر من القاهرة للحقوقي المصري “حجاج نايل” وعن “البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان” كتاب “نشطاء تحت الحصار: تونس 1987 ـ 1997″، يتقدم اسم “الشماري” هؤلاء مع الدكتور “منصف المرزوقي” ( الرئيس التونسي لاحقا بين 2011 ـ 2014 ) والمحامية “راضية نصراوي” وغيرهم.

ويستحق التوثيق والتقدير كون نضال “خميس الشماري” ورفاقه بتونس من هذا الجيل المؤسس لحركة حقوق الإنسان في العالم العربي لم يتوقف ولم يعرف “استراحة أو راحة”، أو “تقاعد ” أو “استقالة”، بعدما تركوا مواقعهم القيادية في صدارة “الرابطة التونسية لحقوق الإنسان”، وهي الأعرق والأقدم عربيا وعالميا. أو غيرها من منظمات إقليمية وعالمية.

والعبرة الأولى هنا، ووفق حكمة ” بضدها تتميز الأشياء”، أن “الشماري” وغيره من اسماء مهمة لم تتوقف عن النضال من أجل الحقوق والحريات في تونس ومنطقتنا، أو الجهر بمواقف لاتقبلها السلطة. وهو نضال لم يكن عندها موقتا بسنوات عمر أو أحوال صحة، أو حتى بتغير علاقتها بالدولة بعد ثورة أوتغيير أو إصلاح. وقد أصاب الرجل بدوره ما يستحق من تكريم ومسئوليات في العشرية اللاحقة لثورة التونسيين بعد 17 ديسمبر 2010 / 14 يناير 2011، ومن بينها : سفير بلاده وممثلها “باليونسكو”، و عضوا منتخبا بمجلس “هيئة الحقيقة والكرامة” المكلفة بملف العدالة الانتقالية وقبل استقالته، فضلا عن وسام الجمهورية التونسية عام 2018.

و العبرة الثانية أن أمثال “خميس الشماري” لايعرف عنهم تشبث بمواقع قيادية، أو بطول بقاء في الصدارة والواجهة والأضواء. وتصادف أنني قبل أيام من رحيل “الشماري” التقيت صديقا من مؤسسى المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالقاهرة، فروى لي ما يؤسف ويدهش ويحزن عن حال شخصية مازالت مستمسكة برئاسة واحدة من كبريات المنظمات الحقوقية العربية بعد نحو أربعين سنة متصلة من احتفاظها بهذا الموقع. وهذا على الرغم من تقدمه في العمر إلى مابعد التسعين عاما، وجمعه بين مناصب قيادية أخرى وبالتعيين من سلطات سيئة السجل في انتهاك حقوق الإنسان.

أما العبرة الثالثة، فتتعلق بهذا القدر من الانفتاح والمصارحة التي ناقش بها الأشقاء بتونس ومازالوا العلاقة بين حركتهم الحقوقية و كل من اليسار و السياسة والساسة، وكذا الحركة الكونية الحقوقية ومكوناتها المؤسسية وروافدها الفكرية. وأظن أن هذا لم يحدث بعد عند الحالة المصرية، وبتحرر من المبالغات والاتهامات والخصومات الشخصية والخلفيات التنظيمية / الحلقية/ القبائلية. وهذا دون قمع أو كبح ممارسة النقد والتصحيح لكل السلبيات والاخفاقات والانحرافات. ولمن يود من المصريين المهتمين، يمكنه الدخول إلى شبكة الإنترنت للإطلاع على كم لابأس به وكيف جدي من الكتابات التونسية في هذا الشأن (*).

ومن الأمور التي آسف عليها بعد فترة إقامة بتونس مراسلا “للأهرام” لنحو العامين، أنه لم يتح لي لقاء “الشماري” ومحاورته، والكتابة عنه في حياته. فالرجل ورموز مهمة بين جيله مثل :” مختار الطريفي” و”عبد الستار موسى” و” حسيب بن عمار” رحمه الله مؤسس جريدة “الرأي” المتميزة مهنيا وبحرية التعبير، مع “صلاح الدين الجورشي” و “د. المرزوقي” و”راضية النصراوي” وغيرهم، عندهم من التاريخ والخبرات مايستحق نقله لمصر والمشرق العربي، والاستفادة منه.

وكنت أمني النفس من قبل أن أعمل على دراسة موثقة عن حركة حقوق الإنسان ورابطتها الأم بتونس، موثقة وبالاستعانة بمقابلات شخصية هناك. وهذا على غرار ما نشرت بمجلة “السياسة الدولية ” الصادرة من مؤسسة “الأهرام” زمن رئاسة الدكتور “وحيد عبد المجيد” وفي عام 2016 ، بعنوان:” الدور السياسي للمجتمع المدني التونسي: دراسة حالة الاتحاد العام للشغل”. لكن لم يعد باليد حيلة، بعدما جرى لتونس ولإمكانية زيارتها من باحثين وصحفيين مستقلين يتطلب دخولهم تأشيرة مسبقة بعد 25 يوليو 2021.

ومع هذا كنت محظوظا، وواتني الفرصة في العشرية اللاحقة للثورة التونسية للقاء عدد من رموز الحقوق والحريات والمناداة بالديمقراطية في وطنهم. وهذا علاوة على الرمز اليساري والحقوقي الإنسان الذي لاينسى، المرحوم ” أحمد عتماني”، والذي التقيته مرارا في القاهرة قبل منتصف عقد الثمانينيات، وأتيح أن أنشر عنه مقالا في “الأهرام” خلال عام 2016 (**). لكن ساء حظي فلم ألحق بآخرين رحلوا مبكرا مثل “حسيب بن عمار”، أو كانت ظروفهم الصحية لاتسمح مثل السياسي “أحمد المستيري” أحد آباء الديمقراطية والحريات بتونس بعد الاستقلال، أو حالت الظروف بيني وبينهم مثل القاضي المحترم الشجاع “مختار اليحياوي”، والذي رحل بدوره عام 2015 ، وقبل أن استقر بتونس بين 16 و 2018.

.. رحم الله “خميس الشماري”، سيبقى ورفاقه وأمثاله بتاريخهم ونضالهم و تراثهم ومواقفهم، أحياء في تونس وفينا جميعا خارجها. ولذا لانقل: وداعا.. بل إلى لقاء ودائما، وطالما بيننا من سيأتي بعدنا ليهتم بأن يعرف ويتعلم من الإيجابيات والسلبيات ويتحاور ويتفاعل ويتعلم ويتجاوز، ويعمل من أجل الحريات والحقوق والديمقراطية والشعوب، وبهدف التقدم نحو مستقبل أفضل.
ــــــــــــــــــــــــ
() على سبيل المثال يمكن مطالعة مقال: “اليسار ومسألة حقوق الإنسان: بعض الملامح من التجربة والمقاربَات” لمحمد أكرم الهويل، بموقع “المفكرة القانونية، في 21 /5/2023. وعلى هذا الموقع الإلكتروني:https://legal-agenda.com/ (*) رابط المقال:https://gate.ahram.org.eg/daily/News/131846/4/485247
9:05 AM

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *