طاهر البرنبالي في ذكراه الثالثة: لساه بينسف كل أوهام الخلايق.. ويمد إيده للحياة.. «ماتعيطوش لو مت متعكر»

كتبت – هاميس البلشي :

مرت ثلاث سنوات ولازال حاضرا بشعره وروحه وتفاصيله الانسانية.. أذكر يوم رحيله وكأنه مر بالأمس.. أيقظني الموت، هذه المرة؛ جاء على هيئة دموع أبي تخبرني أن عمو طاهر مات. فتحت عيناي ولم أتحدث لثوانٍ، تجمدت، كنت أنظر لعينيه اللتين ضاعتا في مكانٍ ما، ووجهه المرصع بالألم. فكرت في احتضانه حتى باغتني سؤاله:- “أنا هعمل ايه؟”.  كنت أقل حيلة من أن أجيبه، تعلمت أن الموت هزيمتنا الكبرى؛ يلوي أعناقنا بقسوة ولا يلتفت لدموعنا المتكاثفة لأجل مَن نحب.

هل كانت عينا أبي متجهة نحو ذكريات شقة الهرم وأيام العدس والبطاطس؟ أم أنها تسترجع سهرات وسط البلد ومداعبتهم لطاهر على هوسه بالنظافة: “انت ناقص تغسل الميه بالميه”، ربما انطلقت لأيام إسكندرية التي أذكر منها يومًا اصطحباني فيه معهما، ورحت وعمو طاهر -كان يعاني وقتها من أزمة صحية تعيقه عن المشي بانتظام- نتسابق في الشارع ولما فزت هللنا وضحكت منه ببراءة. كان معروف بعذوبته وخفة دمه حتى في أصعب الأوقات، وإخلاصه الدائم لأصدقائه فلا تكاد تمر مناسبة، طيبة كانت أو حزينة، إلا وكان أول القادمين. خيانته الوحيدة لنا هي موته.

في أحد زياراته لنا استوقفته جدتي بالطابق الأرضي: “مجبتش ولادك معاك ليه يا طاهر، العيال دول نعمة. ده الرسول كان معدي على عمارة فيها كهارب، قال: العمارة دي مضلمة كده ليه، وعمارة تانية مضلمة قال: الله العمارة دي منورة وحلوة -إشارة إلى وجود أطفال بها-“. يومها دخل علينا طاهر بجسده النحيل وصلعته الخفيفة بمقدمة رأسه وقسماته الهادئة وهو غارق في ضحكه: “الحاجة بتقولي الرسول كان معدي على عمارة فيها كهارب”.

“باحذرك جبل الرماد من غير ميعاد مستنظرك..

لو إن لونك باش عناد وسبت حيطك للشروخ وبعت أوتار الشموخ..

والنار بتاكل أخضرك..

ولا طفل بكرة اللى بكى قبل الميلاد يقدر ف مرة يعذرك”

جسد البرنبالي (1985) ثنائية الشاعر المناضل، هو الذي طارد الظلم في أشعاره، وواجهه في الواقع فعرضه للاعتقال أكثر من مرة في التسعينات. ابن برنبال محافظة كفر الشيخ، المكان الذي أشبعه بهموم البشر فراح ينشدها أملًا في ثنايا قصائده .

“لساه بيقدرع الوجع والآه.. لساه بينسف كل أوهام الخلايق.. ويمد إيده للحياه.. طريق واحد مالوش رجعه.. يدغدغ الليل الفسيح من طاقة الجامعه.. ويطل بالمواويل فى أرض النيل”

منذ تخليه عن مهنة الطب البيطري وانضمامه لقائمة شعراء العامية، أحدث طاهر بديوانه الأول “طالعين لوش النشيد” -الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 1989- صدى ملحوظ في الأجواء الثقافية؛ فبدا واضحًا للجميع أننا أمام تجربة شعرية متميزة، بلغتها الخاصة وقربها الشديد من حياة الناس، وانحيازها لمعانتهم وإعادة إنتاجها بصورة مختلفة لا تكتفي بعرض المشكلة وإنما تغذيها بالأمل وتحذر من التراجع.

“تلاتين سنة.. والبحر عازب

تلاتين سنة.. والبحر يحبل بالشطوط..

والحمل كاذب

تلاتين سنة.. والبحر ما داقشي الصبا

لأن عينه قريبه م المستحيل

والناس بترمح في الوريد

طالعين لوش النشيد”

وفي قصيدته “طريق مفتوح في ليل أعمى” التي تحمل نفس عنوان الديوان؛ يقول طاهر في أحد المقاطع: “اللى بانين الحضاره.. ما بيعرفوش الموت..الخلود فى البـُـنا والنقش على الجدران”. يبدو هنا وعيه بقيمة الإبداع والحضارة الإنسانية التي لا تعرف الفناء. وقد نجد في الجملة عزاء لأنفسنا على رحيله، فأمثال طاهر ممن تركوا بصمة في الإرث الثقافي يظلون عالقين بذاكرتنا ولا يمحوهم غياب جسدي.

“ماتعيطوش لو مت متعكر

انا اللى كان ضحكى رايق

تتباهى بيه الخلايق

ماتعيطوش لو مت متعكر

بكره اللسان اللى صان

يجرى عليه السكر”.

كتب طاهر وصيته حي: حتى في موته لا يرغب أن ترتبط ذكراه بالدموع، هو من ذاع صيت ضحكته “واتباهى بيها الخلايق”.

شاعر من الزمن البعيد، لم يترك للحزن فرصة تطويق حياته، كما يقول عن نفسه في إحدى قصائده:

“قولى لأبويا

ابنك ماسابشى للغبار حبله

يرخى المدار ف الليل أو يتسند ع الحيط

ابنك من الزمن البعيد

طالع ربيع نعناع بيحب راس الغيط

وبيعشق الموال بطين أخضر

وبيستغيث بالبحر

لما النزيف بيطيش

ويرج صحن البيت.”

ويوجه طاهر اللوم إلى المتخاذل والمتهاون في حقوقه مع الأنظمة التي تسلبه إياها، ويربط بين قيمة الإنسان داخل وطنه وخارجه فيقول في قصيدته “هزيمة”:

لوعزيز جوا بلدك.. بره بلدك تبقى قيمه..

لكن إنت بكل طيبه.. والنوايا أكيد سليمه..

سبتْ روحك للى باعك.. خرده للعالم قديمه..

واللى فرط ف انتصارك.. دوّقك طعم الهزيمه

وتظهر حالة من الغضب على الوطن يبادر طاهر بتبريرها أنها من فعل أعدائه ويرسمه في صورة حبيبة يطمئنها بإخلاصه، فيقول في قصيدة “حضن شبابك الدافي”:

أنا بحبك.. قد عناقيد غضب مفروطه..

مفروطه بفعل أعدائى..

وح أفضل عشانك باشتياقى فدائى..

وألـِمْ بيكى الألم.. وارميه ف حجرالخوف.

ورغم قسوة الوطن عليه طوال حياته، وتجاهل الدولة مرضه، وإنكار المشرفين على جوائز الشعر قيمة أعماله الأدبية -هو المعروف بنزاهته وترفعه عن أصحاب المصالح وعدم تملقه أي شخص أو انضمامه للشللية-، كتب طاهر يعترف في قصيدة تذكرني بجملة صلاح جاهين “وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء”:

مفضوح يا قلبى فى كل لحظة شجن..

وف كل رعشة وطن..

وف كل عشق جديد.

لكن ثبات طاهر: “يا عدوى لسه روحى مرفرفه.. لسه شمع الحلم لاخضرما انطفى”، ويقينه بمصير الفاسدين: “اللي باعوا المر في سنين الجفا”؛ كان أقوى من سقطاتهم: “مش حيسلم من عمايله..عمره ما يدوق الصفا”.

كتب طاهر اثنى عشر ديوانًا للأطفال، أودعها هدوءه وخفته ودهشة الطفل المخبتئة بين جناحيه، وشحنها بطاقة تخيلية قادرة على رسم صور مبهرة وتقديم معاني نبيلة تحاكي عالم الأطفال بنغمات الحروف الفاتنة.

“امبارح والنهارده

باحلم بالشمس ورده

….

منين أول طريقها

وفين بتروح ليلاتي

….

الشمس الدافيه .. عافيه

الصبح بتيجي صافيه

لكن ساعة الغياب

بتسيب قلبي في عذاب

……

أنا كنت أروح إليها

وهناك أسأل عينيها

بتروحي فين ليلاتي

وتسيبي الأرض باردة

…….

امبارح والنهارده

باحلم بالشمس ورده”

2 thoughts on “طاهر البرنبالي في ذكراه الثالثة: لساه بينسف كل أوهام الخلايق.. ويمد إيده للحياة.. «ماتعيطوش لو مت متعكر»

  • 8 مارس، 2020 at 7:03 م
    Permalink

    حلوة اوي الكتابة الدافية دي، طاهر البرنبالي كان شاعر جميل، روحه بتفيض إنسانية وحب للحياة وشعره كان دليل عليه

    Reply
  • 8 مارس، 2020 at 11:40 م
    Permalink

    كأنه لسه انبارح يأ طاهر
    وكأنك يأ هاميس بتقولى كلام محصلش
    طاهر رايح يجيب اغنية للأطفال
    أو نايم بيحلم ببكرة اللى لسه مجاش
    طالعين لوش النشيد

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *