د. محمد نعمان نوفل يكتب: ليس تعويما للعملة ولكنه تعويما للاقتصاد

منذ أبريل 2023 والاقتصاد المصري يتوقع تعويما ما بين شهر وآخر حتى مر شهر يونيو فأصبح ترقب التعويم من أسبوعين إلى بضعة أسابيع. كان الانعكاس المباشر لذلك تزايد سيناريوهات التحوط سواء على صعيد المستوردين أو المصدرين أو رجال الصناعة حتى القائمين على مشروعات زراعية كانت لديهم خطط للتحوط. وفكرة التحوط السعري أو التحوط الاستثماري ( وهي الأخطر) تعني أن المستثمر أو رجل الأعمال يتوقع مخاطر ما أو تغيرات ما في المستقبل القريب أو البعيد في مجال استثماره فيبدأ في وضع خططه الخاصة لتجنب المخاطر المتوقعة. هذا السلوك الاقتصادي مشروع تماما وطبيعي أيضا في جميع الاقتصادات، وتزداد حدته في مجال الاقتصاد الزراعي بحكم طبيعة النشاط الزراعي الذي يتأثر بالعوامل الجوية أو بموجات الآفات الزراعية، لذلك نقول أن النشاط الزراعي من الأنشطة المهددة بعوامل عدم اليقين لذلك تلجأ الحكومات إلى توفير الدعم المالي والفني للإنتاج الزراعي دائما لمواجهة أثر عوامل اللايقين، حتى إتفاقية التجارة الدولية كانت لها حدود مراعاة خاصة بالإنتاج الزراعي لهذه الأسباب. على أي حال هذا هو شأن الحكومات الرشيدة التي تدير الاقتصاد حسب القواعد العلمية.
ما أشرنا إليه في تفسير التحوط هو التحوط الطبيعي في النشاط الاقتصادي، ويتلازم معه تحوط المضاربة وهو من العمليات البنكية ذات المخاطر العالية، ولم يسلم منها نظامنا المصرفي في مصر، إذ فتح البنك المركزي المصري قنوات لإدارة التحوط على الجنية المصري، وفي هذه الظروف الشاذة لعدم استقرار العملة لابد لمضاربات التحوط أن تؤثر سلبيا على قيمة التداول للجنية المصري وتمارس ضغوطا لتخفيض قيمته لأن الصفقات المتوقعة لأجل شهرين فأكثر تقوم على تقدير منخفض جدا لقيمة الجنية المصري، والمضاربين في عمليات التحوط تلك يحققون أرباحا فلكية على حساب المستوردين والمصدرين المصريين، أي أنهم يستنزفون الاقتصاد عن طريق هذا النشاط مما يضيف المزيد من الخسائر للاقتصاد المصري.
غير أن التحوط الذي تعيشه كافة مجالات النشاط الاقتصادي في مصر مرجعة أنتظار تخفيض سعر العملة غير المحدد لا من ناحية قيمة التخفيض، ولا تاريخ التخفيض. الكل يضرب في الغيب ويحدد سيناريوهات المستقبل طبقا لتوقعاته الخاصة أو توقعات مجموعة من اللآعبين في السوق. لأن الحكومة ليس لديها سياسة اقتصادية واضحة وأنما تتعامل مع إملاءات صندوق النقد بطريقة السماسرة. فهي تساوم مرة على سعر العملة ومرة على سعر الفائدة وأخرى على قيمة القرض المتوقع وثالثة على دفعات القرض. وفي كل مرة تقبل أشياء وتتحفظ على أشياء دون أي سياسة واضحة لإدارة الاقتصاد، تلك التي تسمى بالإدارة الاقتصادية اليومية. فلا رؤية وضعت، ولا نصائح خبراء فلحت.
على صعيد المستوردين والمصدرين وتجار الجملة والتجزئة في هذه الظروف، ترى أنهم يطرحون سؤالا لا يملكون دائما عنه إجابة، وهو مقدرتهم على استعادة أموالهم من السوق بالقيمة التي تمكنهم من أستمرار الدورة الاقتصادية. فإذا كان التاجر سوف يستورد بضائع بمليون دولار مثلا، ويطرحها في السوق المحلي بالجنية المصري فإنه يتساءل حول القيمة التي يقيم بها الجنية حتى إذا استعاد امواله بعد شهرين أو أكثر مثلا، فعلية أن يكون قادرا على شراء مليون دولار مرة أخرى حسب السعر الجديد للدولار. لهذا هو يضع سعر تحوط للجنية يفوق كثيرا السعر الذي أجرى به عملية الشراء الأولى لضمان تحقيق المقدرة على استكمال دورته الاقتصادية. نفس الأمر تجده عند تاجر الجملة وتاجر التجزئة، هو لا يتعامل بالعملة الصعبة ولكن السعر الذي سوف يحصل على سلعته به سوف يكون محكوما بالتغير في قيمة الجنية أمام الدولار وهو سعر غير معروف له لا قيمة ولا تاريخ، وحتى يستطيع استكمال دورته الاقتصادية فعليه وضع سعر تحوط يضمن له هذا.
تتراوح التوقعات من سلعة إلى أخرى ومن سوق إلى آخر وبناء عليه ترتفع أسعار المستهلك على فترات متقاربة تحركها كل من الضغوط الخارجية للأسواق العالمية من ناحية ( وهذه تأثيرها هو الأقل) كما تحركها القرارات الاقتصادية العشوائية والتصريحات الصحفية المتضاربة للمسئولين. كما تحركها موجات التفاؤل والتشاؤم بشأن سياسات صندوق النقد الدولي. تارة تزيد الأسعار 10%، وأخرى 30%. تحدث الزيادات السعرية أحيانا أسبوعيا وأحيانا في مدى زمني أسبوعين أو شهر. هذه التغيرات السعرية غير المنتظمة والتي لا تخضع لقواعد محددة سوى أن السوق في حالة ترقب غير مفهومه وغير مبررة، تؤثر مباشرة في سلاسل الإمداد في السوق لأن السلع تعتمد على بعضها البعض وربما تدخل بعض السلع في تصنيع سلعا أخرى فتنتقل حالة القلق عبر عمليات التداول غير المنتظمة إلى سلع أخرى ربما كانت بعيدة عن حركة الاستيراد والتصدير، ولكنه عمليا وعلميا لا توجد سلعة في أي سوق محصنة إزاء التغيرات في السوق بسبب سلاسل الإمداد المحلية (أو العالمية) المتشابكة.
الصناعة ليست بعيدة عن التأثر بما يحدث في السوق من فوضى سعرية مطلقة معدلات تضخم عالية ومتتابعة. غير أن الصناعة تملك كعب أخيل، وهو القروض المصرفية فلا توجد صناعة لا تعتمد على الجهاز المصرفي في تمويل العمليات التصنيعية وبناء خطوط الإنتاج، لكن الصناعة في مصر تعيش حالة ترقب بشأن اسعار الفائدة خاصة وأن الخبرة السابقة في رفع أسعار الفائدة لا تبشر بأي خير فقد سبق أن رفع البنك المركزي سعر الفائدة 3%، ثم 2% وأخيرا كانت الطامة الكبري وهو رفع سعر الفائدة 6% هذا الرفع الجزافي غير المبصر يهدد الصناعة تهديدا جذريا لأنه يحلق بعيدا بأسعار الفائدة على القروض، خاصة بعد أن منع صندوق النقد الدولي عملية إصدار قروض بفائدة مخفضة للصناعة، ورفض مشروع دعم الصناعة الوطنية بمبلغ 150 مليار جنية. هذا التوقع يهدد التوسعات الصناعية ويهدد عمليات فتح الأسواق أمام السلع الصناعية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، لأن المصنع لا يمكنه المنافسة السعرية من ناحية، وسوف يخاطر بشدة في سداد أي قرض لأنه عندما عقد القرض كان على أساس دراسة جدوي تقوم على نسبة عائد معين للمنتج، ومع إطلاق سعر الفائدة على الإقراض على هذا النحو ربما لايستطيع سداد القرض، وإذا استخدم القرض في مرحلة تصنيعية فإنه لا يستطيع الاقتراض لاستكمال باقي المراحل. في حال الصناعة لن يكون هناك أسعار تحوط تحمل في النهاية للسوق المحلي، ولكن عدم اليقين سوف يؤدي إلى إنكماش الصناعة وتراجع المنتج الوطني من السوق، لأنه حتى لوضع المنتج الصناعي سعر تحوط على إنتاجه فإن سوف يخرج من السوق أمام المنافسة السعرية للمنتج المستورد في ظل فتح المجال واسعا أمام الاستيراد.
مشكلة الزراعة في ظل أوضاع عدم اليقين تلك، أسوأ من بقية قطاعات النشاط الاقتصادي لأن دورة الإنتاج الزراعي طويلة نسبيا فهي تصل في بعض المحاصيل إلى 9 اشهر، وأقصر دورة إنتاج هي الخاصة بالخضر والتي تصل دورتها الإنتاجية إلى 3 أشهر. أما دورة الإنتاج لأغلب أصناف الفاكهة فهي سنوية وفي حالة تربية الماشية فهي تتراوح ما بين ستة أشهر وعامين، ولدى الدواجن شهرين ونصف الشهر. هذا التراخي الزمني في الزراعة يجعل أسعار التحوط الزراعية عالية جدا، وغير منتظمة أمام أي عامل من عوامل عدم اليقين. المنتج الزراعي متوتر في جميع الحالات، وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية هو الأكثر توترا والأكثر تشاؤما بالتبعية لأنه لا يستطيع تعديل قراره الإنتاجي بسهولة وبسرعة، فما حدث قد حدث. وإذا مني بخسائر في دورته الإنتاجية فقد لا تجده في السوق في الدورة التالية إما بسبب ضعف الإمكانات المالية التي لا يتحمل معها الخسارة أو إنصرافه لمنتج أخر أكثر أمانا مما يؤدي لنقص حاد في منتج زراعي أو أكثر في الموسم التالي. هذه الاضطرابات في القطاع الزراعي تنعكس مباشرة على مائدة المستهلك خاصة وأن أغلب السلع الزراعية من ضروريات الاستهلاك ومكون أساسي في قائمة الطعام. هذا الاضطراب يخلق ضغطا لا يمكن مقاومته على فاتورة الاستيراد.
التعويم الأخير بل لنقل التخفيض الأخير لسعر العملة وكان أكبر عمليات التخفيض خلال السنوات الماضية إذ بلغ 60% من قيمة الجنية انعكس من دون شك على أسعار كافة السلع وقد شدد من آثاره السلبية الزيادة الكبيرة في سعر الفائدة. لكن السوق لم يهدأ ولم يستقر كما تزعم الأبواق الإعلامية. لأن السوق في حالة ترقب جديدة للمرحلة التالية من تخفيض سعر العملة والمتوقعة (ولا نعرف بالتحديد) خلال بضعة أشهر تزيد أو تقل لا نعرف، وسوف تصاحب أي دفعة من القروض، لا نعرف، وهل يستقر الوضع التنافسي الحالي بين الجهاز المصرفي والسوق السوداء، لا نعرف. ومتى نتوقف عن سياسة الاستدانة الواسعة، لا نعرف. مرحلة جديدة من عدم اليقين لا يملك أحد عنها إجابة لدى أي مستوى من مستويات صنع القرار، ولا كبار المتعاملين في الأسواق، لأن الإجابة تكمن في نتيجة المساومة التالية مع صندوق النقد الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *