د.عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب: قصة “القضاء على حماس” تخفي الأهداف الحقيقية لإسرائيل

في آخر لقاء له مع وزير الخارجية الأمريكي في الأسبوع الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الحرب على غزة لن تتوقف قبل أن تحقق إسرائيل أهدافها. عودة جميع الرهائن، والقضاء على حماس، وضمان ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل في المستقبل. ومع أن الصحف الإسرائيلية والأمريكية تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية، إلا أن إسرائيل، وبعد مرور أكثر من شهرين من الحرب الوحشية، فشلت في تحرير أي رهينة بالقوة، وتعترف المصادر الإسرائيلية والأمريكية بأن حماس لم تفقد كثيرًا من قوتها العسكرية، وليس هناك ما يضمن ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل في المستقبل.

ثمة أهداف أخرى للحرب على غزة غير تلك الأهداف التي قالها بنيامين نتنياهو وتروج لها وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية. إسرائيل منخرطة في عمليات عسكرية تهدف إلى نقل وتهجير جماعي لسكان غزة. تحاول إسرائيل إخلاء غزة من سكانها. وكل ما تفعله يجب أن ننظر إليه من خلال هذا المنظور. إسرائيل قالت ذلك صراحة منذ البداية، بدءًا من أمر إخلاء شمال غزة الصادر في الثالث عشر من أكتوبر الماضي. وكل ما فعلته إسرائيل منذ ذلك الحين هو تنفيذ لأمر الإخلاء هذا. تهجير أكثر من مليون فلسطيني من شمال غزة إلى مخيمات اللاجئين في جنوب غزة. هذا ما قالوا أنهم سيفعلونه، وهذا ما يفعلونه بالفعل.

مع ذلك، تواصل وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية الكذب والتضليل وخداع الرأي العام، من خلال تصوير كل ما قامت به إسرائيل في شمال غزة، وكأنه جزء من عملية لمطاردة لحركة حماس. وأبرز مثال على ذلك، إنه في الفترة التي سبقت “مداهمة” إسرائيل لمجمع الشفاء الطبي في منتصف نوفمبر الماضي، في هذه الفترة، روجت وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية لما تقوم به إسرائيل من حصار للمستشفى على أنه مطاردة لحماس، وصورت اقتحام إسرائيل للمستشفى وكأنه يشبه حصار القوات الأمريكية لمقر “أسامة بن لادن” في آبوت-آباد، في باكستان.

نشرت إسرائيل مقطع فيديو يظهر مخبأً أسفل المستشفي، وتناقلت وسائل الإعلام الفيديو وروجت لهذا الادعاء. وقالت صحيفة “واشنطون بوست” في أحد عناوينها أن مستشفيات غزة في مرمى النيران وأن “مطاردة إسرائيل لحماس تضع مستشفى الشفاء تحت الحصار”. وجاء في عنوان لصحيفة “نيويورك تايمز”، أن القوات الإسرائيلية، التي تقاتل مقاتلي حماس، تضيق الخناق على المستشفيات”. وقالت وسائل إعلام أمريكية أن المستشفى هو “القلب النابض لحماس”، وروجت انطباعًا غير حقيقي بأنه يتوجب على الجيش الإسرائيلي الاستيلاء على المستشفى. تم خداع الجمهور بكلمات تشير ضمنيًا، وأحيانًا بصراحة، إلى أن إسرائيل كانت تداهم المقر الرئيسي لحماس الموجود تحت وداخل مستشفى الشفاء.

مات أطفال رضع في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة بالمستشفى، بالإضافة إلى عشرات من المرضى الآخرين. وبعد أن استولت إسرائيل على المبنى، لكن لم يكن هناك أي مقاتلين لحماس، كما اعترفت إسرائيل فيما بعد. ومع أن إسرائيل زعمت أنها وجدت نفقًا تحت الأرض وبعض الأسلحة، لكنها لم تجد أي شيء، ولم تقدم أي دليل على أن المجمع كان أحد مراكز القيادة لحركة حماس، كما زعمت. وخلصت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن مقاطع الفيديو التي نشرها الجيش الإسرائيلي “لم تظهر دليلا قاطعا على وجود شبكة واسعة من الأنفاق”. واتضح للجميع أن كل التقارير التي أشارت إلى حدوث تبادل لإطلاق النار من المستشفى كانت غير صحيحة.

إن النظر إلى الهجمات الإسرائيلية الوحشية على غزة من منظور “مكافحة الإرهاب” يجعل القرارات العسكرية الإسرائيلية تبدو محيرة وغير مفهومة. فهل كان الهجوم على المستشفى مطاردة لحركة حماس؟ ولماذا تهاجم إسرائيل المستشفى إذا لم تكن تعتقد أنه أحد مراكز القيادة لحماس؟

قصف الجيش الإسرائيلي عدداً من المستشفيات، دون أن يكلف نفسه عناء الادعاء بأنها قواعد عسكرية لحماس، وذلك لأن قصة “مطاردة حماس”- التي تتبناها وتروج لها وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية- هي قصة خاطئة ومضللة. والحقيقة أن حماس، بحسب صحيفة “واشنطن بوست” لا تزال “سليمة إلى حد كبير” بعد أكثر من شهرين من الحرب وبعد مقتل أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني. وإذا أدركنا حقيقة هدف إسرائيل المتمثل في إجبار سكان غزة على مغادرة القطاع، فإن هذه العمليات العسكرية تبدو متسقة تمامًا مع هذا الهدف.

بعد أمر الإخلاء الصادر لسكان شمال غزة، لجأ كثير  من الفلسطينيين إلى المستشفيات، وذلك لأن المستشفيات بحكم طبيعتها من آخر الأماكن التي يتم إخلاؤها. وبحسب ما نشر، طلب الإسرائيليون إخلاء المستشفى قبل أن يداهموه. لكن إخلاء المستشفى كان يعني الموت المحقق للعشرات من المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية طبية مستمرة، ولأولئك الضعفاء والمسنين الذين لا يستطيعون السفر إلى جنوب غزة سيرًا على الأقدام عبر منطقة حرب بلا ماء أو وسائل نقل. لكن إسرائيل لم تهتم، ولا تهتم بمثل هذه الأمور.

إسرائيل تقوم بتنفيذ عملية نقل وتهجير قسري واسعة للسكان في غزة، وهذا يعني جميع السكان. إنها أبسط طريقة لتفسير سلوك إسرائيل في هذه الحرب.لكن وسائل الإعلام التي تروج لشعار”مطارد حماس ومكافحة الإرهاب” لا تستطيع-أو لا تريد- أن تركز اهتمامها على هذه الحقيقة الواضحة، التي تتمثل في أن إسرائيل تحاول إخلاء غزة من سكانها على مراحل. أصدرت إسرائيل أمر الإخلاء لسكان شمال القطاع، وهي تنفذ هذا الأمر حرفيًا. ومع ذلك، تواصل وسائل الإعلام الكذب والتضليل، وتصور الحرب على الفلسطينيين وكأنها “حرب ضد حماس”.

من وجهة نظر إسرائيل، لا فرق جوهري بين الفلسطينيين، فكلهم سواء كانوا في غزة أو في الضفة الغربية مستهدفون بالقتل والتهجير القسري. نعرف ذلك لأن الإسرائيليين قالوا ذلك مرارًا وتكرارًا. ومع  خطاب الإبادة الجماعية الذي وثقت وسائل الإعلام الكثير منها، هناك حقيقة مفادها أن إخلاء غزة من سكانها على مراحل هو الخطة المتداولة والأكثر شعبية بين القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.

وفقاً لتقرير صادر عن “المونيتور” في 17 نوفمبر الماضي، فإن الخيار الذي “يحظى بأكبر قدر من الدعم بين صناع القرار الإسرائيليين، هو أن تسيطر مصر على الجيب، في مقابل الإعفاء الكامل من ديونها الخارجية الضخمة”. وتشمل المقترحات أيضًا “إعادة بناء” غزة ولكن في جنوب موقعها الحالي، وليس في مناطق الدمار التي خلفتها القنابل الإسرائيلية في الشمال، ونقل بعض سكانها إلى دول عربية أو دول أخرى، وترك الباقين- لأسباب إنسانية-في غزة الجديدة المعاد بناؤها”.

وكشفت خطة مماثلة، عرضتها وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية، جيلا جمليئيل، في مقالة افتتاحية نشرتها صحيفة “جيروزاليم بوست” في 19 نوفمبر الماضي، أن الخيار الأفضل للحكومة الإسرائيلية هو التطهير العرقي. واقترحت وزيرة المخابرات الإسرائيلية “تشجيع إعادة التوطين الطوعي للفلسطينيين خارج القطاع”. وقال عضو مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي ووزير الزراعة، آفي ديختر، للتليفزيزن االإسرائيلي في 12 نوفمبر الماضي: “نحن الآن نواصل نكبة غزة. نكبة غزة 2023. هكذا ستنتهي”. وكتب جيت هير في صحيفة “ذي نيشن” الأمريكية الإثنين الماضي أن “نتنياهو يدرس حاليًا اقتراحًا لتقليص عدد السكان في غزة وتوزيع من يتبقى على قيد الحياة من الفلسطينيين بعد الحرب على البلدان المجاورة، وهو الإقتراح الذي يحاول إقناع نواب الحزبين في الكونجرس”.

“لكن مصر والدول العربية الأخرى لن تسمح بذلك” هي عبارة شائعة عند طرح مثل هذه الخطط. أما ما إذا كانتهذه الخطط قابلة للتنفيذ أم لا، فهي مسألة ثانوية لا تعيرها إسرائيل أية أهمية. ما يهم هو النية، ومن الواضح أن نية إسرائيل هي قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وإخلاء غزة من سكانها، حتى لو بقيت التفاصيل النهائية لمكان وكيفية “إعادة التوطين” قضية مطروحة للنقاش.

وفقاً لصحيفة الإيكونوميست، فإن شمال غزة سيكون “غير صالح للسكن لسنوات قادمة”، وخطة إسرائيل الحالية هي أن تفعل بمعظم جنوب غزة ما فعلته بشمال غزة. وهذا من شأنه أن يجعل الجزء الأكبر من غزة غير صالح للحياة البشرية لسنوات. ونشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تفاصيل عن خطط مماثلة لتجميع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في مخيمات بالقرب من الحدود المصرية. وذكرت الصحيفة في 19 نوفمبر الماضي أن “بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين يعترفون بأنه سيكون من المستحيل حشد مليوني شخص من سكان غزة في منطقة المواصي جنوب غزة، وهي منطقة بحجم مطار لوس أنجلوس الدولي تقريبًا”. لكن هذا، مرة أخرى، مجرد مشكلة أجرائية أو لوجستية، وليست مشكلة اخلاقية أو سياسية.

أضف إلى ذلك أن استهداف البنية التحتية المدنية بشكل متعمد هو جزء من استراتيجية الحرب الإسرائيلية، وليس من الواضح ما الذي تعنيه بالضبط عبارة “مطاردة حماس” أو “الحرب على حماس” في الواقع. ووفقاً لتقرير حديث لموقع مجلة ( +972)، وهي مجلة ألكترونية يديرها صحفيون إسرائيليون وفلسطينيون، فإن إسرائيل تقصف ما يسمى بـ “أهداف السلطة”، والتي تُعرف بأنها “المباني العامة والحكومية والبنية التحتية والمباني الشاهقة”، وهي أعمال “تهدف بشكل أساسي إلى إلحاق أكبر ضرر بالفلسطينيين” و”إحداث صدمة” في المجتمع.

استهدفت إسرائيل ودمرت المحاكم والجامعات والقاعات التشريعية وعدد لا يحصى من المباني الحكومية الأخرى ونقابة المحامين الفلسطينيين، ودمرت البساتين والأراضي والصوب الزراعية، وقصفت المستشفيات والمساجد والكنائس ومراكز البريد والاتصالات، وهدمت تمثالًا لياسر عرفات- عدو حماس القديم – في الضفة الغربية، حيث لا تملك حماس أي سيطرة. فهل يمكن أن نعتبر قصف أي من هذه الأهداف المدنية بمثابة “مطاردة لحماس”؟ هل قتل الأطفال الخدج هو مطاردة لحماس؟ وهل هذا المستوى غير المسبوق من القتل والتدمير والتخريب لمطاردة لحماس؟!

في هذا السياق، نشرت وكالة رويترز للأنباء، أن إسرائيل أمرت السكان بمغادرة الشمال والذهاب إلى الجنوب، ثم قصفتهم حيث أمرتهم أن يذهبوا. ويوم الإثنين الماضي، سأل مراسل رويترز أحد كبار مستشاري نتنياهو: أين عليهم أن يذهبوا؟ كان هذا هو السؤال، وكان الجواب واضحًا: أي مكان غير غزة. ومع تزايد حدة حملة القتل الجماعي والتهجير القسري والتطهير العرقي، يصبح من الصعب قبول وجهة النظر التي تروج أن هدف هذه الحرب القذرة هو القضاء على حماس.

لم تنجح إسرائيل في تحرير أي من رهائنها المحتجزين لدى حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى بالقوة العسكرية، وليس هناك من دليل على أن حركة حماس قد انهزمت، في حين لدينا الكثير من الأدلة، التي تتزايد يومًا بعد يوم، على القتل الجماعي والتهجير القسري والتطهير العرقي للفلسطينيين. لذلك، علينا أن نضع هذه الحرب في إطارها الصحيح باعتبارها حرب إبادة جماعية، خصوصًا وأن الإسرائيليين أعلنوا صراحةً عن أهدافهم ويحاولون تحقيقها بكل الوسائل، حتى ولو كان ذلك على حساب الدول المجاورة.

ولا يخفى على القاريء، إنه إذا ما سُمح لإسرائيل بتنفيذ خططها في غزة، قتل أكبر عدد من السكان وطرد الباقين إلى مخيمات في الجنوب أو إلى دول الجوار، فسوف يفتح ذلك شهيتها لتنفيذ نفس السياسة في  القدس والضفة الغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *