الرئيس يتحدث عن “مستقبل الكوكب”.. والواقع يحكي عن الزحف المقدس للأسفلت (حين تأتي على الأخضر لحساب اليابس)

كتب – أحمد سلامة

“كارثة عالمية تدق ناقوس الخطر”، عنوانٌ عريض لما قال عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية، خلال كلمة ألقاها عبر تقنية الفيديو كونفرانس أمام مؤتمر الأمم المتحدة لحماية التنوع البيولوجي في الصين.


خلال الكلمة أكد الرئيس أنه على دول العالم أجمع أن تعزز جهودها لتغيير أنماط الاستهلاك والإنتاج وجعلها أكبر استدامة وأكثر وعيًا بأهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي وسلامة الأنظمة الحيوية لمستقبلنا على هذا الكوكب.

البعض رأى في نص كلام الرئيس أملا في تغيير أوضاع تهدد تلك السلامة داخل مصر، والبعض رأى فيها موقفًا مغايرًا للواقع الذي تعاني منه عدة محافظات وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية في ظل ما وصفوه بـ”مجزرة الأشجار” التي تجري بعدة أحياء عريقة.

في مصر الجديدة، دشن أهالي الحي القديم عدة وسوم عبر  مواقع التواصل الاجتماعي لتوصيل مطالبهم بالحفاظ على الأشجاروالمسطحات الخضراء لكن دون مُجيب.


قبل سنوات، بدأ “المنشار الكهربائي” عمله في القضاء على الأشجار، وبدأت الجرافات عملها في إزالة المسطحات، وبدأ الأهالي في شكواهم.. البعض قال إن ما تم إزالته من مسطحات خضراء بلغ 96 فدانًا، والبعض قال إن عدد الأشجار التي اقتلعت وصل إلى 6600 شجرة.. وهو الأمر الذي دفع وزيرة البيئة ياسمين فؤاد  إلى الإدلاء بتصريحات في نوفمبر 2019 قالت فيها “إنها تواصلت مع الجهة المنفذة لأعمال التطوير، والتي أكدت أنها تمتلك معدات متطورة تقوم بإزالة أي شجرة في محاور التطوير من جذورها، ثم يعاد زراعتها مرة أخرى، حفاظاً على هذه الأشجار المهمة والمظهر الحضاري”.


على مضض حاول أهالي مصر الجديدة ابتلاع عملية الزحف المقدس للأسفلت على حساب المساحات الخضراء، غير أن “المنشار” لم يتوقف، وإنما امتد إلى “حديقة الميريلاند”.. هذه المرة بحُجة وضع “نصب تذكاري”.


تساءل الجميع عن سر إقامة “النصب التذكاري” في هذا الموقع وعلى حساب أشجار تاريخية، بينما يمكن إقامته في عدة ميادينمجاورة أقربها “ميدان روكسي”، غير أن سؤالهم لم يلق إجابة.


على مساحة 50 فداناً، تمتد حديقة الميريلاند، وهي المتنفس الأخضر الوحيد حالياً لأهالي مصر الجديدة، إثر القضاء على جميع المساحات الخضراء في الحي لإنشاء العديد من الطرق والجسور الجديدة.

ويعود تاريخ إنشاء الحديقة إلى عام 1949 في عهد الملك فاروق تحت اسم نادي سباق الخيل، وتضم الكثير من الأشجار المعمرة، فضلاً عن بحيرة مخصصة للمراكب الصغيرة، ومشتل لتشجير الحديقة، وبيع النباتات للجمهور، إلى جانب برجولات، ومشايات، وشلالات.

“مبادرة تراث مصر الجديدة” أدانت هدم تراث المباني وقطع الأشجار في حديقة الميريلاند، بما يمثل مخالفة صارخة لقوانين البيئة، والتنسيق الحضاري.

*****

خلال كلمته، الرئيس السيسي أن مصر سارعت -في عام 2018- لطرح مبادرة طموحة بين مختلف جوانب العمل البيئي؛ لتحقيق التناغم والتكامل بين جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي ومواجهة تغير المناخ وتداعياته السلبية، ووقف تدهور التربة وتصحر الأراضي؛ إيمانا منها بما لهذه الجهود مجتمعة من أثر إيجابي على صحة الإنسان وتحقيقه التنمية الاقتصادية الشاملة.

لكن صحة الإنسان (المصري على وجه التحديد) التي تحدث عنها الرئيس أضيرت بالفعل عندما تمت إزالة كاملة للمساحات الخضراء من قلب العاصمة.

تتساءل مريم ماجر إحدى أهالي مصر الجديدة، “هل يوجد مسؤول في مصر لديه من الضمير لإنقاذ الأشجار المعمرة في شارع نهرو؟ نهرو شارع سكني هادئ جداً خلف حديقة الميريلاند في مصر الجديدة، والعمارات توجد على ناحية واحدة من الشارع، وحديقة الميريلاند على الناحية الأخرى”، مستكملة “الشارع واسع جداً، ولا يشهد ازدحاماً مرورياً لتوسعته”، وأضافت: “اليوم قرروا تصغير الرصيف أمام العمارات من أجل توسعة الشارع الجانبي الواسع في الأصل، وبالتالي قطع كل الأشجار أمام العمارات، وهي أشجار قديمة وجميلة جداً مثل أشجار حديقة الميريلاند. والسؤال هو لماذا تدمير شارع سكني هادئ، وجعل المرور منه مستحيلاً للسكان مثل كل شوارع مصر الجديدة حالياً؟”.

وتضيف زينب عز الدين، التي سكنت الحي قبل قبل 50 عاما من الآن، “الواحد صعبان عليه الخضرة والجمال اللي كانت بتتميز بيه منطقة مصر الجديدة، اللي كان معروف عنها الهدوء والخضرة ووجود أشجار نادرة”.
سميرة الجزار، عضو مجلس النواب وعضو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بسؤال برلماني إلى كل من: رئيس مجلس الوزراء،  ووزير التنمية المحلية، ووزيرة البيئة حول ما يحدث.

الجزار قالت في سؤالها “مما لا شك فيه أنه أصبح من الهام جدا إجراء حوار مجتمعى فى حالة التحرك وإصدار أوامر من شأنها إثارة غضب المواطنين خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحديقة الميريلاند والتى يرتبط بها سكان مصر الجديدة ارتباط تاريخى وهى الرئة الباقية فى الحى ويعتز بها المصريين لما لها من ذكريات مثل حديقة الحيوان والأسماك والأندلس والزهرية.. وغيرها من معالم مصر الشهيرة”.
النائبة طرحت أسئلة هامة منها وما أهمية شخصية النصب التذكارى لدرجة البدأ فى هدم ساحة التزلج (الباتيناج) فى حديقة الميريلاند؟، وهل تم إخطار وزارتى البيئة والتنمية المحلية بهذا التطوير؟”.. لكن يبقى السؤال الأهم الذي طرحته “من أصدر القرار بالتعديلات والتطوير بحديقة الميريلاند؟”.

*****

“من أصدر القرار”، ربما إذا أجيب عن سؤال النائبة نعرف من أصدر قرارات مماثلة اتخذت جميعها شعار “التطوير”، من قرر أن يتم إزالة حدائق “المنتزه” بالإسكندرية، أو حديقة الأسماك بالجيزة؟.
قال الرئيس السيسي “إن مصر إذ تشرف بتسليم رئاسة المؤتمر إلى جمهورية الصين الشعبية الصديقة؛ فإنها واثقة من قدرة الجانب

الصيني على مواصلة العمل المهم الذي تطمح إليه شعوبنا لحماية التنوع البيولوجي والنظم الحيوية على كوكبنا”.
ولفت إلى أن مصر استطاعت -خلال رئاستها للمؤتمر- تحقيق إنجازات ملموسة على هذا الصعيد، معربًا عن أمله في أن تشهد الفترة القادمة؛ تنفيذا فعالا لتلك الأهداف.
لكن الدكتور محمد أبو الغار الطبيب والكاتب والسياسي كان له رأيٌ آخر.. في نظره فإن ما حدث لـ”القاهرة الخضراء” كارثة يجب وقفها.
أبو الغار، قال إن إزالة جزء من حديقة الأسماك ليس قرارا مصيريا يجب أن تنفذه الدولة للمصلحة العامة، وإنما هو قرار لحل مشكلة خلقها الفساد والتسيب منذ عدة عقود ببناء هذا البرج المخالف.
وتابع في مقال بـ(المصري اليوم) بعنوان: (تخطيط المدن والحفاظ على التراث والبعد الاجتماعي): الحكومة تقوم بهدم المباني المخالفة في مناطق كثيرة، للمنفعة العامة، وهى محقة في ذلك فى كثير من الأحيان. الحل الوحيد المنطقى ليس بيع هذا البرج لمستثمر ثم تدمير حى بالكامل. الحل الذى سوف يعيد الأمور إلى نصابها هو هدم هذا البرج حتى يعرف كل من يخالف أن مبناه سوف يزال، وساعتها سوف تنصلح الأمور، أما أن نكيل بمكيالين فنهدم مبانى الفقراء المخالفة بسبب توسيع طريق ونترك مبنى سوف يدمر جزءا مهما من القاهرة، فهو أمر محير.
وأضاف أبو الغار: تجرى الآن إصلاحات مهمة فى البنية التحتية فى مصر، منها إنشاء طرق جديدة وتوسيع وتحسين طرق قديمة، وكل ذلك مهم بالنسبة للمستقبل ولكن تحديث المدن القديمة يحتاج لخطة شاملة مدروسة وليس بناء قطعة قطعة دون تخطيط شامل ورؤية شاملة. هذه الخطة يمكن تنفيذها حسب القدرة المالية والفنية لأن إنشاء كبارى فى كل اتجاه قد تنتج عنه مشاكل تضطر الدولة فى المستقبل إلى إزالة بعضها. هذه الخطة يجب أن تشمل مراعاة حماية الأماكن الأثرية.
وقال أبو الغار إن بناء الكبارى داخل المدن أمر غير مألوف فى العالم، فالمدن القديمة الكبيرة مثل لندن وباريس وروما وأمستردام وغيرها يتم بناء طرق وكبارى دائرية حولها لتخفيف الزحام فى الطرق الداخلية مع التوسع فى إنشاء وسائل النقل تحت الأرض. المونوريل وسيلة يمكن استخدامها داخل المدن المزدحمة لأنها لا تحتاج إلى مساحة من الأرض ولا حرم حول خط سيرها، ولكن يعيبها أن حمولتها محدودة وبسيطة فى المدن كثيفة السكان المزدحمة، ثم إنها طريقة باهظة التكاليف، ولكنها شر لابد منه فى بعض المدن شديدة الازدحام، مضيفا: أما فى الصحراء وفى الأماكن الواسعة لا يوجد دور للمونوريل لارتفاع تكلفته ووجود مساحة فى الخلاء تكفى لتسيير قطارات ومترو يحمل أعدادا كبيرة من السكان وتكلفته أقل بكثير.
وأكد أن معظم سكان المدن، خاصة فى البلاد الفقيرة، لا يملكون سيارات، ولذا يجب أن يراعى فى تخطيط المدن وعند تعديل المسارات حقوق المشاة فى السير على رصيف واسع وأماكن تسمح بعبور الطريق بسهولة وأمان، ولذا لا يوجد شىء اسمه طريق سريع أرضى داخل مدينة مزدحمة.
وتابع: ولابد من مراعاة أهمية وسائل المواصلات العامة، خاصة مترو الأنفاق فى المدن المزدحمة، وكذلك وسائل المواصلات العامة المحترمة. القاهرة الآن بها وسيلة مواصلات واحدة جيدة، وهى مترو الأنفاق. وفى المناطق التى لا يغطيها المترو لا توجد وسائل مواصلات عامة محترمة للمواطن.
وقال أبو الغار إنه عند التفكير فى التخطيط كان أول شىء هو إزالة أشجار وإلغاء حدائق، والعكس هو الذى يجب أن يحدث، أى إنشاء حدائق وزرع أشجار. ما حدث للقاهرة الخضراء كارثة يجب أن تتوقف، وأن نعيد زراعة ما دمرناه بأيدينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *