مصطفى الأعصر يكتب: يوم غير مناسب للموت.. صديقي المنكسر.. لا تنتحر!

هل فكرت يومًا في كوني قيد الحبس؟ الإجابة نعم، كوني صحفيًا مستقلًا يعني أنني قيد التهديد، لي دور في قائمة الانتظار. هل فكرت يومًا في الانتحار؟ الإجابة بلا خجل أو مواربة، كثيرًا. بل اتخذت قرارًا مسبقًا بالانتحار إذا ما تعرضت لتجربة السجن لأي سبب كان. تعودت على الانطلاق حتى النهاية ولن أتحمل تقييد الحرية، لن أتحمل بؤس السجن، لن أتحمل كوني حبيسًا. ماذا حدث إذن؟ لماذا لم أنتحر وكيف تحملت ثلاث سنوات ونصف في السجن؟ هذا هو السؤال. الإجابة ببساطة، حقيقة لا أعلم، ولكن في النهاية لازلت هُنا، لم أرحل يا صديقي المنكسر، أعلم أنك مثلي مشوّش كثيرًا، لذا دعني أوشوش إليك بما يفيض به قلبي.
الإنسان ليس فردًا صحيحًا بل شخوص عديدة مجمّعة في فرد وحيد، هذا ما اكتشفته وتيقنت منه مع مرور الأيام وخوض التجارب، تبيّنت لي جوانب غامضة من شخصيتي، تشكلت وظهرت جلية كلما مر الوقت، وأظن أنك تمامًا مثلي يا صديقي.
تعجبت من قدرة الإنسان المهيبة على التحمل والاعتياد، تحمل الآلام بدرجاتها القصوى التي لا تُحتمل حيث يشير المؤشر إلى منطقة الخطر الحمراء، واعتياد كونها جزءًا أساسيًا من روتينه اليومي، استيقاظ، ألم، طعام، وجع، قضاء حاجة، بؤس، قراءة، أسى، نوم، عذاب. تلك الكلمات القليلة التي نحاول جاهدين أن نوصف بها المشاعر المستحيلة الشرح، تلك الكلمات تصير مجرد عنصر يومي كالطماطم في طبق السلاطة، نعتاد عليها حتى نزدريها ونبتذلها ونجردها من معناها، بل الأحرى نجردها من قدرتها على الضغط على خلايانا العصبية، فبشكل ما الألم لا يؤلم، والحزن لا يُحزن، والسجن لا يقتل (في أغلب الأحيان).
ما أثار انبهاري حقًا ليست قدرتي على التحمل والتجاوز، ولا صعوبة التجربة وكيفية التكيف معها، ما أثار انبهاري كان هؤلاء الذين تعرضوا لأضعاف أضعاف ما تعرضت له حتى رأيت نفسي بينهم قزمًا، ورغم ذلك تمكنوا من العبور والاستمرار. كان النظر إليهم ووضع حالتي في مقارنة معهم كفيل باحتقاري لذاتي، ما أعانيه لا يساوي شيئًا مقارنة بما عانوه ولازالوا، هكذا كنت أقنع نفسي للاستمرار، فإذا نجا هؤلاء فمن العار أن أسقط في نصف الطريق، يا لتفاهة آلامي.. بالطبع لم تكن تافهة، فمعايير الألم ليست واحدة، وأحيانًا أشعر أني اتألم كما لم يتألم أحد من قبل ولكني أخدع نفسي كي يمر يومًا جديدًا بسلام دون أي مصائب أو مفاجآت.

عندما يقول أحدهم “أنا حزين” بهذه المباشرة والبساطة، هذا لا يعني أي شيء البتة. اللغة قاصرة ومفصولة الرأس، فاشلة عن شرح ما نريد قوله فعلا، نرغب في الاستجداء والصراخ والهروب من سرير العدم، نشعر بتلاطم من الصور والأفكار، نريد التعبير بوضوح عن مشاعرنا عل يتفهمنا أحد، فلا نقول أكثر من” أنا حزين”. ماذا تعرف يا هذا عما يعنيه الحزن؟ أنت لا تفهم إطلاقاً. اللغة لا تشرح شيء وأنت لا تفهم شيء بينما أرغب في البوح بكل شيء قبل أن يبتلعني العدم.

عندما نتعرض لظرف ضاغط لا نتقبله ولم نستعد لاستقباله، نرتبك داخليًا ونشعر كأن العالم كله يدور، كأن أحدهم فتح سهوًا أدراج عقلك، سرق أوراقك وأضرم فيها النيران وبعثر البقية في الهواء، نشعر بالخواء، لو ضربت بيدك على رأسك لسمعت الصدى كرأس مجوّفة، نشعر بالرغبة الآنية في الخلاص من هذا الهذيان، إما الآن أو أبدًا، الانتظار حتى الغد أمر مرهق ورحلة طويلة ومجهود جبار، محاولة حرق الوقت كمحاولات حرق الجروح كي لا تتعفن، أمر صحي لكنه مؤلم أكثر من الجرح ذاته.

تتشكل الخدعة في أذهاننا ونتخيل بانتهاء الظرف المؤلم تنتهي الآلام، وهذا هو الغباء بعينه، فالحقيقة أنه بانتهاء الحرب تبدأ الصراعات. الشعوب لا تنهار على الأغلب جرّاء الحروب إنما تفككها الصراعات الداخلية بوتيرة أسرع، كذلك الإنسان كصورة مصغّرة من المجتمع لا ينهار من حروبه الخارجية إنما تقتله بوتيرة أسرع صراعاته الداخلية. عندما تنتهي الحرب تبدأ المعاناة، نحن أعداء أنفسنا.
قد يبدو من عنوان المقال أنني أدعو إلى التفاؤل أو محاربة الأفكار السوداوية والانتحارية التي تجتاحنا وهذا خطأ لا شك، إنما ما أعنيه حقًا ألا ننتحر جرّاء معاناتنا مع الظروف الخارجية التي تستنزفنا وألا نقع في خدعة أنه بالخلاص من الظرف تنتهي المعاناة، فالحقيقة المؤسفة يا صديقي أننا جبلنا على المعاناة وعلينا أن نفهم ذلك جيدًا، فمن الغباء والجبن أن ننتحر لسبب واحد واضح لأعيننا، كفقداننا لعزيز أو تعرضنا لموقف صعب النسيان أو لتجربة اعتقال أو تعذيب أو خوض تجربة عاطفية فاشلة أو لظروفنا الاقتصادية المنهارة وغيرها من الأسباب.
نتعرض يوميًا لأشكال مختلفة من الضغوط والمصاعب ولكن الاستسلام ليس خارجيًا أبدًا، الاستسلام يبدأ من الداخل عندما لا نرغب إطلاقًا في خوض هذا الصراع الساذج، لا أحد يحب الاستسلام ولكننا لم نختر خوض الصراع من البداية أصلاً، لقد فُرض علينا فرضًا، فهل الاستسلام أو الانسحاب من شيء لم نختره يعد استسلامًا أيضًا أم شجاعة تقرير المصير؟ نحن نستسلم عندما لا نشعر بشيء ولا نستمتع ولا نرى ذرة أمان أو حب، عندما نفشل في إلهاء ذواتنا عن الحقيقة البشعة، كم من المرات التي فكرت بالخلاص فيها من هذا الوضع المقيت ولكني أتراجع وأقول أنه يوم غير مناسب للموت، حاولت مرارًا الاستمتاع بأقل الأشياء المتاحة كي أثني نفسي عن القرار، دومًا ما أجد متعة ما تروي جدب روحي، والبحث لا ينقطع أبدًا والمتع الصغيرة لا تنتهي، ولذلك فإن محاولات الاستمرار مقرونة ببحثي عن متع وقتية صغيرة، فكما أن الوقت غير مناسب للموت فهو غير مناسب للخطط العظيمة أيضًا، لربما لم نخلق لنصير عظامًا ولكن بسطاء يحاولون التشبث بأذيال التاريخ، ولربما يأتي الوقت المناسب للخطط الكبرى وحينها يصبح لدينا هدف أسمى نحيا من أجله.. كلام واهٍ، أعلم، ولكنها طريقتنا للخداع والإلهاء، ابحث معي يا صديقى المنكسر عن المتع الصغيرة في قلب الأشياء الكبرى، عش دون قيد فاليوم غير مناسب للموت، عش حتى يأتينا اليقين فإما أن نرحل رغمًا عنّا أو ننسحب إراديًا من هذا العذاب، ولكننا لن نرحل طالما لم نتيقن بعد من أن اليوم مناسب للموت، نحن مستمرون بإرادتنا في رحلة العذاب، وأنت معي يا صديقي المنكسر، هات يدك نبحث عن المتع، لربما معًا نصير أقوى، لربما معًا ننقذ بعضنا من السقوط، لا تنتحر ولن أنتحر، فاليوم غير مناسب للموت.. انفض عنك الهم وأعطني وعدًا وعناقًا وقبلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *