عشر سنوات على ثورة يناير.. خالد البلشي يكتب: شعب شغفني حبًا.. (ذكريات يناير)

كل شيء مجنون وعاقل فعلت.. عن الميدان بعد أن صار وطناً وموئلا وملتقى محبين

كتبت هذه الشهادة قبل أربع سنوات، تغير مكان الكتابة، وأغلق، لكن بقيت محاولات الاستمرار،  منذ وقت كتابتها لازال النهر يجري عكس جريانه، ولازالت الثورة المضادة تربح مساحات جديدة، لكن الحلم بغد مختلف لازال حاضرا ولو أتعبنا، ورغم الألم لم نفقد قدرتنا على الأمل.. ربما تعبنا لبعض الوقت، ربما هزمنا كثيرا، لكن يبقى أننا لم نكسر تماما.

 هي شهادة عن مصر التي حلمنا لها وبها ولازلنا نحلم.. وعن شعب “شغفني حبا”، وعن حلم عصي وهجمات متواصلة، ومحاولات لا تنتهي، وعن ذكريات الميدان وقت أن صار وطنا، وقبل أن يصير وجعا يطاردنا.

(1)

صباح 25 يناير 2017، أتوجه لعملي أملأ المكان بأغاني الثورة المنبعثة من “لاب توبي” الشخصي، في محاولة لاستدعاء حلم ما زال يشاغل من عاشوه يوما، قبل أن يتسرب كالماء من بين أيديهم، لم يكن موعد استنباط العبر أو استقراء الدروس، كان موعدي مع  الحنين، أقاوم حزنا لا يلين فتهزمني الذكريات.

«فلان الفلاني اللي كان يومها جنبي ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص.. فلان الفلاني اللي معرفش اسمه.. ف دايما بقول يابن عمي وخلاص»، توجعني الكلمات أتذكر مشاهد 29 يناير، «معركة الداخلية»، شباب يندفع نحو حلمه، يرى مستبده، أقاوم جموحهم أحاول منعهم، يندفعون، «من هنا طريق الثورة، من هنا طريق النصر»، يمتلأ الطريق بجثامين الشهداء العائدين ترفرف أرواحهم فوق الرؤوس. بينما ما أزال أقبل رؤوس المندفعين أحثهم على العودة «سننتصر بوجودكم بيننا»، أنفض عن خاطري مشاهد الموت المحلق استدعي النصر.

«منصورة يا مصر مش بجميلة العسكر.. احنا اللي روحنا بدري مش أكتر»، دمعة ساخنة تغافلني يلمحها الزملاء، أحاول المكابرة، يهزمني تيار من الدموع، زلزل معه كل قدرتي على الصمود فأجهش في البكاء، غصة في الحلق أغالبها باستدعاء مشاهد أخرى من الميدان «يوتوبيا الـ 18 يوما» الحلم الذي ما زال قادرا على حملنا للسماء حتى ولو استيقظنا مرات على صوت ارتطامنا بالأرض، رغم كل شيء مازلنا قادرين على استعادته.

في مثل هذا اليوم (25 يناير)، قبل 6 سنوات كانت المرة الأولى التي قررت أن أقود هتافاً، بعدها، تعلمت أن أهتف وأن أًهزم وأن أُغالب الهزيمة وأستمر، كنت تقليديا، أهتف «حرية .. حرية»، بينما يحملني للسماء هتاف سحري ينبعث من الميدان، يتحدى القنابل المسيلة للدموع، الشعب يريد إسقاط النظام، «قد شغفني حبًا»، من يومها يتردد الهتاف داخلي بنفس الطريقة ومن يومها ننازع نظاما يأبى السقوط، ونأبى الهزيمة، انهزمنا كثيرا لكننا لم نكسر بعد، أو هكذا أحلم وسأحلم.

(2)

بدأ 25 يناير معي ربما قبلها بأيام كنت أتابع الثورة التونسية، مشدوهًا بعظمة القدرة البشرية، كنت أحلم معهم ولهم ولنا معهم، يوم سقوط بن علي وجدتني دون أن أدري أكتب «الأول.. الشعب خلاص أسقط الديكتاتور» جعلتها عنوانا لموقعي الصغير البديل، ربما سعيت لإعادته للحياة انتظارا ليوم كهذا، ولأيام كنت أدرك وأمتلأ باليقين أنها ستتلوه، وجدتني دون أن أدري أحلم بالثاني، وكنت أرى أن الحلم ربما يتحقق عندنا، في صباح اليوم التالي كتبت «عطر الياسمين.. عقبال عندنا»، كانت الثورة التونسية حلمًا أحمله لنا، وكنت أشعر أن عدوى قدرتهم لا محالة ستحملنا معهم، وتجرف ظالمينا، لا أعرف من أين أتيت بيقيني لكنه كان معي يلازمني، كان الجميع محبطاً، وكنت أحلق مع حلمي.

يدخل عليّ عدد من شباب الموقع صباح 15 يناير، كلهم سقطوا في براثن إحباط، رأيته جميلا ورأوه نهاية العالم، قرأت لهم عطر الياسمين تفتحوا معي، ملأنا الموقع أخبارًا عن الثورة القادمة، «مرعوبين مرعوبين مرعوبين»، كنا نتلمس كل خبر يحملنا للثورة، أعددنا “بوستر”، حددنا مع من حددوا 25 يناير موعدا للخروج، لكننا حددناه موعدًا للثورة ، هكذا حلمنا، وهكذا كتبنا، وهكذا صرنا سخرية الجميع، وهكذا صار حلمنا فوضويا.

كان كل يوم يمر نستدعي معه حلمنا، ونستدعي كل من تصل له كلماتنا، مع أول مصري قلد بوعزيزي، قررنا أن نحشد، حتى لو كان عقلنا يقول لنا إن الثورة لا تقلد، حملة اتصالات تستدعي الناس للنزول، في 19 يناير كتبت مقالا آخر عن موعدنا القادم للثورة 25 يناير، قلت للجميع ربما تظنونه، مجرد يوم عادي ويمر، ونظنه غير ذلك، دعوتهم نصا: « ندعوكم ليوم واحد معنا، احلموا معنا بلحظة غضب، لا تحلموا بثورة، اتركوها لنا، احتجوا معنا لمرة واحدة، فقط جربوا معنا فلن نخسر ولن تخسروا، لكن ربما نكسب جميعا»

كان الحلم يقترب وكانت قلوبنا تستعد لفرحة قررنا أن نمتلئ بها، قبل أن تأتي، وكانت دعوتنا للجميع «كونوا معنا يوم 25، هل يحتاج نداء المحبة والوطن لدعوات؟» كتبناها هكذا.

(3)

كان الموعد الثانية قبل عصر 25 يناير، في الثانية عشرة من ظهر اليوم المحدد لغرامنا العصي، يأتيني صوت شقيقي محبطا، «مفيش حد نزل»، أرد «لسه الميعاد مجاش.. استنى الناس نازلة».

أرتب تفاصيل الموقع كي أكون أول النازلين للشارع مع وعد بالعودة ليحل آخر محلي، أنزل بلا عودة: (معلهشي يا كل الناس في الموقع)، تساعدني بعدها منحة حكومية بحجب الموقع عن الظهور في مصر (كتر خير أمكم)، أضحك بكل جوارحي.

أدور في الشوارع أبحث عن أي تجمع، أسير وسط الناس نهتف، نقف أمام مبنى التليفزيون ونهتف، أبحث عن أصدقائي ونهتف، أعود للميدان ونهتف، يهاجمنا العسكر فنفر ونعود لنهتف للحرية، ويدهمنا هتاف شباب الأولتراس الشعب يريد إسقاط النظام، أمتلئ بالهتاف لا يبارحني طوال الـ 18 يوما، يقويني يوم الداخلية، ووقت الجمل، يقوينا أينما حللنا، كان معنا وزخات الرصاص تلاحق الجميع، وكان معنا يقوينا والطائرات إف 16 تحلق فوق رؤوسنا في الميدان، تكسر حاجز الصوت فنهتف «مبارك اتهبل»، ونتجمع بدلا من الهروب نستدفئ ببعضنا البعض، صار الميدان هو دفء أيامنا، أما برودتها فتلاحقنا كلما فارقناه، نخاف إذا فارقناه، ونمتلئ قوة بمجرد أن تلامس عيوننا حدوده، صار وطننا، قبل أن يصير وجعا يطاردنا بعدها، وصرنا معه حلما بشريا بالعدل والحرية.

(4)

شاركت في كل الأحداث، وكل المظاهرات منذ مظاهرات طلاب الجامعة في يناير وفبراير 1990، من يومها وربما بالنسبة لي من قبلها، سقط مبارك في وجداني، كانت المرة الأولى التي يتم فيها إسقاط صورة المخلوع ودهسها بالأحذية، كنا في جامعة القاهرة، وكان الهتاف موجهًا من يومها للرئيس «بعت الجندي بكام جنيه.. بعت المصري بكام جنيه»، من يومها حلمت بإسقاطه، خططت له، شاركت في أغلب المظاهرات الكبيرة ضده، بعضها شاركت في الأعمال التحضيرية لها، كل شيء فعلت لإسقاطه، تجدد حلمي مع مظاهرات 2003، شاركت في كفاية منذ لحظاتها الأولى، هتفنا للمرة الأولى يسقط حسني مبارك، وطورناها يصعد يصعد حسني مبارك مع رفض الإخوان الهتاف، انخرطت بكل جوارحي في حركة الدفاع عن القضاة، طاردني العسس في الشوارع، جهزنا لمظاهرت التعديلات الدستورية في 2007 من مكتبي، اندمجنا في الإعداد لـ 6 إبريل، صرخ البديل حين كان ورقيا غضبا في كل صفحاته، اخترعت ورفيقان لي لعبة الفرح الموازي لجمال مبارك «خديجة آه.. مصر لا»، كل شيء مجنون وعاقل فعلت بحلم زوال مبارك، لكن إحساسي بـ 25 يناير كان مختلفا.. كل تفاصيله كانت مختلفة، كان كالفارق بين الأعمال التحضيرية للفرح، والفرح ذاته، كلها كانت بمثابة دعوات للعرس، وفي 25 يناير حان وقت العرس حتى لو انقلب شىء آخر بعدها.

ربما كنا ثوريين فقط، ربما خطأنا أننا بقينا حالمين 21 عاما كاملة، ربما لم نمكن أن نكون غير ذلك، ومن مكنوا منا جرفهم تيار آخر، بعد 21 عاما من الإعداد جاء موعد الفرح ونحن على حالنا حالمين.

هكذا كنت أحلم وكنت للمرة الأولى أدرك أن الموعد آت، لا أعلم لماذا لكنه بالنسبة لي أتى.

(5)

لم يكن موعدًا مع الكاميرا، كما تخيل بعض من نكصوا وعادوا، كان موعدا مع الثورة والحلم، سخروا أن الثورة ليست موعدا غراميا، لكن من نزلوا لها أرادوها كذلك، فكان اللقاء مع الحبيبة على قدر الإعداد، كلنا هربنا إليه، أنا هربت من زملائي في الموقع، حين غافلتهم بالنزول مع وعد بالعودة، ثم فروا جميعا إلي بعد حجبه، وأغلب من كانوا في الميدان هربوا من أهلهم لكنهم مالبثوا أن تبعوهم إليه.

 في الميدان أدركت أننا منتصرون، كنت بين جيل أغلبه عرف طريق الخروج للمرة الأولى، ظنوا الميدان سدرة المنتهى، وظنوا الخروج إليه جنة المأوى، ووقفوا يتصدون لأي محاولة لإخراجهم منه، كنت أتلقى قنابل الشرطة المسيلة للدموع باعتيادية، أصرخ ضدهم أقاومهم، لكنني أدرك أنها قادمة وأن الضرب قادم والهجوم المضاد قادم، وكان بعض ممن حولي، لا يرون إلا النصر، للمرة الأولى يتعاملون مع عصا النظام، كانوا يرونها جريمة كبرى بحقهم، لايمكن الصمت عليها، بعضهم آمن أنهم أسقطوا النظام لأنهم امتلكوا الإرادة، وسعوا إليها، لم يكن الشعب يريد إسقاط النظام مجرد هتاف بالنسبة لهم، لكنه كان عنوانا لهذه الإرادة، وكان تحققها عنوانه البقاء في التحرير، بحس المجرب كنت أدرك أن العسكر آتون لا محالة، وأن شرطتهم حتما ستخلي الميدان، حددت الموعد في الثانية عشرة من صباح 26 يناير وحضرت نفسي له.

في الموعد الذي حددته جاءوا، في الثانية عشرة ملأت قنابل الغاز الميدان، تحضيرا للهجوم المضاد، خرجت مع من خرجوا، كان سلاحنا هو الجري، لكن هناك من بقي يقاوم، عدت لأجدهم مُصرين على البقاء، بعضهم كان يبكي حلمًا يصر على الإمساك به، بعضهم لم يتخيل أن يتم الاعتداء عليهم بكل هذه القوة، كانت تجربتهم الأولى، وكانوا بقدر الصدمة يقاومون، عدت أقنعهم، بالمغادرة ربما نعود غدا، وهم مصرون على التصدي لهراوات الجنود وقنابلهم المسيلة للدموع، امتلأت الشوارع المحيطة بالتحرير بالمواجهات، كر وفر، اندمجت معهم، كان كل همي أن أقنعهم أن يحموا أنفسهم، ربما نعود غداً، درت في الشوارع أجمع أكبر عدد من الشباب كنت أوجههم للطرق التي يبتعدون بها عن جحافل القبض والاعتقال التي ملأت الشوارع، جمعت أعدادًا كبيرة، وصحبتهم لمقر البديل، كان حصني الذي صنعته ليوم كهذا.

هنا أمانكم وهنا سنبيت، ومن هنا ربما سنعود، كان المكان محاصرا، بمدرعات الشرطة لكننا دخلنا، أول من حاول الخروج كان أحد الزملاء في الموقع أراد أن يطمئن أهله، فتم القبض عليه، اتصل بي خرجت إليه فطاردوني، عدت للمقر، لم يكن في رأسي إلا حماية من به، أغلقت بوابة المنزل، دخلت المقر أغلقته من الداخل، تواعدنا جميعا على البقاء بلا خروج وعيوننا مشرعة على العودة، وفي القلب غصة للقبض على علاء، تراجع بعض منها بعدها بيوم مع رد فعل والده على الخبر (بقدر قلقه كان يخفي فخرًا ظهر في ابتسامة عابرة، بأن ابنه كبر وخرج فاعتقل).

من وقت لآخر كان أحد الزملاء يحضر للموقع، ومع طرقات الباب الحذرة كانت تتدافع الحكايات عمن بقوا في الشارع، وكيف تم القبض على عدد منهم وكيف تم تفريقهم، عرفنا أن بعض المسيرات استمرت لساعات، إحداها تم فضها في النفق المؤدي من رمسيس لشارع شبرا، وتم القبض على أعداد كبيرة من المشاركين فيها، وإحداها توجهت لبولاق أبو العلا موطن أول شهداء الثورة بالقاهرة، وحماها الأهالي وتصدوا للجنود، وتطايرت إلينا أيضا أخبار المواجهات المستمرة في السويس.

مع الفجر وبينما سيارات الشرطة تغادر وسط القاهرة وتتحرك من أسفل مقر البديل، كانت كل المؤشرات تؤكد أن الشرارة التي اندلعت لم تنطفئ، وأن سقف الطموحات بدأ في الارتفاع، وبينما خرجت من المقر عائدا إلى بيتي بعد أن اطمأننت على جميع من به، كنت ممتلئًا بالهتاف الجديد، الذي هز كياني «الشعب يريد إسقاط النظام»، وبعظمة الوافدين الجدد للميدان وبقدرتهم وقوة إرادتهم، وبحلاوة أن تريد وأن تدرك أنك قادر على تنفيذ هذه الإرادة، كان كل همي هو توثيق المشهد، والدعوة لإكمال ما بدأنا وهو ما وثقته في اليوم التالي مباشرة، أقصد بعدها بساعات في اليوم الجديد الذي كنا بالفعل قد بدأناه.

(6)

«خلال يومين  كان كل من فقدوا الأمل قد اكتشفوا أن هناك شعبًا وأن له إرادة،  وكان الشباب لا يزالون يواصلون صمودهم في مواجهة آلة قهر كبست على أنفاسنا ثلاثين عاما، كانت الشرطة تطلق القنابل والرصاص في محاولة لإرهابهم وكانت قلوبهم قوية تصر على مواصلة الدرب الذي بدأوه ” الشعب يريد إسقاط النظام” بينما يتصدون بكل قوة لمدرعات وجحافل الأمن وهراواتهم فتتجمد أوصال الجميع أمام قوة الفعل والإرادة»

هكذا سارعت إلى تسجيل اللحظة يوم 27 يناير، بمجرد عودة موقع البديل من الحجب الحكومي، دونت اللحظة في مقال جديد « الشعب يريد إسقاط النظام .. حلاوة أن تريد وأن يكون لك إرادة» كانت الأحداث تتسارع، مسيرات متفرقة بالشوارع وحصار لنقابة الصحفيين وقبض على أعداد كبيرة، ودعوات جديدة للنزول يوم 28 يناير، والسويس تقود الغضب لليوم الثالث.

 كانت الشوارع تمتلئ غضبًا كامنًا، وكنت حريصًا أن أرسل رسالة واضحة للجميع، أن موعدنا غداً وأن من صنعوا 25 يناير هم أصحاب الكلمة الآن، قلتها واضحة « ليس سوى أن تريد .. أنت فارس هذا الزمان الوحيد وسواك المسوخ .. رسالتي للشباب الذين صنعوا مجد جيلهم عندما أعلنوا رفضهم للقهر والاستبداد و30 عاما من حكم الفرد والتعذيب والفقر والبطالة.. لستم بحاجة إلا لإرادتكم . كسرتم كل حواجز الخوف فحق لكم أن تعلنوها قوية نحن أصحاب الغد» ثم ختمت توثيقي للحظة بحلم من صنعوا انتفاضة يناير الجديدة «موعدنا غداً».

(7)

لم تكن ليلة 28 يناير ككل الليالي، كان الهدوء يخيم على القاهرة، كانت كل الأطراف تستعد لمعركة الغد، الشرطة غادرت مواقعها، شوارع نقية من العسس، طرق مفتوحة، القاهرة بلا عساكر، مررت بكل أماكن التمركز الطبيعية للشرطة لم أجد أثرًا لجندي حتى في الشوارع المحيطة بالوزارة، هل قرروا ترك الساحة لنا أم أنهم يستعدون للغد، جولة على كل الأقسام، قوات الأمن اختفت من الشوارع بينما إحساسي بالأمان يعلو، دعوت زوجتي للنزول للشارع للاحتفال باللحظة وتوثيقها، هذه شوارعنا ردت إلينا، دون عسس، صعدت للمنزل كانت آخر عبارة أكتبها على حسابي على فيسبوك (القاهرة آمنة بلا عسكر أو عساكر)، ثم انقطع الإنترنت.

صحوت على حال غير الحال، الشوارع التي تركتها خالية امتلأت باللون الأسود، وحواجز الشرطة في كل مكان، طوابير العساكر تسد الطرقات، كل أنواع الشرطة تنتشر في كل مكان، هكذا استراحوا استعدادًا للمعركة، وهكذا غافلتهم الجموع يأتون من كل فج عميق.

(8)

أسفل موقع “البديل” عندما توجهت إليه صباح الجمعة 28 يناير، قبل أن تتحول لجمعة الغضب، كان هناك صفان من الجنود بخلاف المدرعات، صعدنا للموقع، اتفقنا على سيناريو اليوم، كانت القاهرة بلا إنترنت، وكنا بلا عمل، وكانت فرصتنا للنزول للشارع لتوثيق ما يجري وكل منا لا يرى سوى أنها فرصته لصنع الحلم وإتمام ما بدأناه، كان كل منا يخفي حقيقة مشاعرنا وكان حماسنا يفضحنا، حددنا موعدًا للقاء في الخامسة عصراً، والتليفون الأرضي وسيلة للتواصل، وكلنا لم نجد وقتا للاتصال، وموعدنا لم يلتزم به إلا محمد العريان.

نزلنا نبحث عن الجموع كانت الشوارع هادئة، ثم بدأت أصوات الجموع تتدفق لمسامعنا من كل الجهات، في الشوارع قابلت كل من كنت أعرفهم، كنا نهتف سلمية ونقبل رأس كل شاب يحمي حلمه بطوبة يلقيها على قوات الأمن حتى يتوقف، كنا نحلم بثورة على مقاس الحلم، وعدل يتسع حتى لمن يقمعوننا، دافعنا عن العساكر الذين يعتدون علينا، حملناهم للعلاج عندما سقطوا بتأثير قنابل الغاز التي يطلقونها علينا.

 سرنا مع الجموع أنا وزملائي ومن التقيتهم من أقاربي، كنت أحمل منديلًا مشبعًا بالخل وبصلة ألقاها لنا الأهالي من البلكونات وهم يلقون بالتحية علينا ويحموننا بقلوبهم، بينما أقود الهتاف للمرة الثانية، لكن هتافي هذه المرة لم يعد تقليديًا كان «الشعب يريد إسقاط النظام».. وكان حلمًا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية للجميع، حتى لمن ظلمونا. 

امتلأ اليوم بتفاصيل كثيرة عن أشرف جهاد الذي القي القبض عليه ثم تركوه بعد أن امتلأت الشوارع بالجموع، عن أشقائي الذين قابلتهم بالشوارع، عن زملائي الذين حلموا بسقوط النظام مع المساء وقول أحدهم ونحن تحت زخات الغاز الذي ينطلق من كل مكان «لن يكمل اليوم»، لكنه تمكن من البقاء لـ 18 يومًا كاملة قبل أن نكتب رحل وحل عن سمانا.

عن ضابط الشرطة الذي خاننا وأعطانا الأمان والتحية، وعندما جلسنا هادئين في شارع صبري أبو علم انهال علينا من مدرعته بقنابل الغاز يساعده جنوده، ثم مالبث أن هرب وتركهم، عن مدرعة الشرطة التي تركها أحد الضباط بعد أن أغلق الباب على الجنود داخلها، حتى كادوا يموتون بفعل قنابل الغاز التي ملأتها، لولا أن تدخلنا لإنقاذهم وفتحنا لهم الباب وحملناهم للعلاج، عن الميدان الذي فتحناه بقوة إرادة الجموع، والشرطة التي انسحبت، وحظر التجوال الذي لم ينفذ، عن شباب عابدين الذي انتفض ولم يوقفه إلا سقوط الداخلية، عن عودتي للمنزل وقت حظر التجوال، لأوصل شقيقة زوجتي بعد أن أنهكها الدوران معي في الشوارع وإحساسي بالخنقة لأن الجنود أغلقوا شارعنا وإصراري على العودة مهما كان الثمن، عن استسلام الجنود أسفل منزلي القريب من الداخلية، أمام إصراري على النزول والعودة للميدان، وعن خطاب مبارك الذي كان عنوانا جديدا لانتصارنا، وكيف أصررت على توثيق الانتصار بقيادة مسيرة ليلية في الثانية عشرة مساء من طلعت حرب للتحرير تهتف بسقوط النظام وتؤكد فرض سيطرتها على الميدان، عن مدرعات ودبابات الجيش التي ملأت الميدان، وكيف قرر المتظاهرون منذ اللحظة الأولى فرض سيطرتهم عليها ولو إلى حين .

وعن الميدان صباح 29 يناير بعد أن صار وطناً وموئلا، وملتقى محبين، عن دفء ووجع ما زال يلازمني لأكثر من 6 سنوات وهتاف «أهلا بالثوار»، يتردد في أذني كلما مررت بالتحرير، بينما أتذكر، كيف صنعنا الحلم، وكيف يحاولون سرقته، وكيف ننازع نظامًا يأبى السقوط، ونأبى الهزيمة.. «ربما هزمنا كثيرا.. لكننا لم نكسر بعد».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *