إكرام يوسف تكتب: أمينة رشيد.. النبيلة

لا أعتقد أن أحدا ممن يعرفونها كان يتوقع أن تنجو هذه المرة!! حتى أولئك الذين ظلوا يتشبثون بالأمل لآخر لحظة، لا أعتقد أن أحدا منهم كان يتقبل أن تعيش في حال، لا ترضاه لنفسها ولا يرضاه أحبابها!! كان لا بد أن ترحل في هدوء رحيلا يليق بكبريائها وعزة نفسها!!.

ومنذ أن دخلت الدكتورة أمينة رشيد المستشفى وللمرة الأخيرة، قبل أيام؛  ولا تغيب عن ذهني صورتها عندما جاءت عام ١٩٨٦تعزيني في وفاة عبد الحميد العليمي الله يرحمه، صديق زوجها الدكتور سيد البحراوي، وبلدياته!! كانت أسرة عبد الحميد تعيش في مدينة بركة السبع، وكان سيد البحراوي من قرية بجوارها، جاءت للعزاء بجلباب فلاحي أسود مثلما ترتدي النساء في قرية زوجها وقريباته!، فكرت كم هي جميلة ونبيلة بنت الباشوات التي تحترم عادات أقارب زوجها في قريته!! وكانت بالقطع ترتدي أشيك وأجمل الثياب في المناسبات التي تقتضي ذلك، وفي الأوساط التي تنتمي إليها، سواء الأكاديمية في مصر وخارجها، أو بين أصدقائها في القاهرة وخارج مصر!!.

الصورة الثانية التي شغلت تفكيري منذ دخولها المستشفى، صورتها في سجن القناطر، التي صورت بدايتها الكاتبة صافيناز كاظم؛ زميلتها مع أخريات شملتهم حملة القبض على المثقفين في سبتمبر ٨١ : “بدأت أمونة تتحدث بصوت عربي فرانكفوني: «أنا كنت ألم كتبي في صناديق العزال وبعدين فتحت الباب لواحد قال إحنا مباحث أمن دولة ممكن يا دكتورة تتفضلي معانا؟ قلت فين؟ قال شوية كده نتكلم سوا، قلت له حضرتك شايف إني أعزل ممكن نأجل الكلام ده أسبوع؟ قال لا دول خمس دقايق بس وترجعي، لكن لقيتهم ماشيين في سكة غريبة وبعدين جابوني هنا مش هم كده يبقوا بيكدبوا؟».

كنت أتابع الصوت وعند النهاية لم أملك نفسي من الإغراق في الضحك حتى كدت أموت. يا نهار أبيض أمونة داخل الزنزانة ولا تزال تتساءل بكل جدية وبراءة إذا كان وفد الاعتقال كاذبا أو صادقا.

نهضت جالسة وقلت لأمونة: «تأكدي حضرتك إنك في سجن القناطر»، وكان هذا هو لقائي الأول مع صديقتي العزيزة الدكتورة أمينة رشيد أستاذة الأدب الفرنسي بآداب القاهرة. “. انتهى كلام الاستاذة صافيناز!

واتذكر ما سمعته عن حالة الدهشة التي عاشتها طوال فترة السجن التي استمرت حوالي شهر ونصف شهر -مع تعاملها مع السجينات والسجانات، من قاع المجتمع ومن بيئات لم تتعرف عليها من قبل – إلى أن أفرج عن معتقلي سبتمبر بعد اغتيال السادات!!.

واتذكر ما كانت صحف السادات تتهم به هؤلاء المعتقلين من التخريب والعمالة  للخارج!!.. وأقول في نفسي “أيامها كان للبسطاء عذر في تصديق افتراءات الإعلام الرسمي، فلم يكن هناك فضائيات ولا انترنت ولا مواقع يستطيع الناس الاطلاع من خلالها على الأفكار المختلفة والرؤى المتنوعة، ليستطيعوا الحكم على مدى دقة الروايات الرسمية!! لكن الآن ما عذر أولئك الذين يرددون كالببغاوات افتراءات المطبلاتية على أصحاب الرأي الشرفاء؟ إلا أنهم يخشون تشغيل امخاخهم، ويقبلون أن يفقأوا أعينهم بأصابعهم حتى لا يروا الحقيقة! أو أنهم مستفيدون من الفساد والاستبداد، ويخشون على مصالحهم المرتبطة به!!.

وتدور في ذهني قصة روتها إحدى الشابات اللواتي ارتبطن ببنت الباشوات المثقفة التقدمية الوطنية المدافعة عن الثقافة الوطنية والعدالة الاجتماعية؛ حكت هذه الشابة أنها كانت تلتقي وزميلاتها مع الدكتورة أمينة رشيد فتأخذهن إلى إحدى المقاهي البسيطة، وتطلب لهن ساندوتشات الفول والطعمية، وسألتها إحداهن “هل أنت بخيلة؟”..فقالت لها “لا، واستطيع أن أعزم صديقاتي على أماكن مكلفة، لكنني لا أحب أن تشعر إحداهن بالحرج لأنها لا تستطيع أن ترد لي العزومة، مش مهم المكان. المهم إننا مع بعض”!!.. وأقارن سلوكها هذا بسلوك محدثي النعمة -الذين ربما لم يكن  أحدا من أهلهم يحلم بأن يعمل في قصر أهل أمينة- عندما يحرصون على التباهي  بما يملكون من وسخ الدنيا، وصار بوسعهم التردد على الفنادق والفنادق الفاخرة، ويتأففون عندما يأتي ذكر الفقراء!! (تذكرون واحدة حكيت لكم عنها من قبل كانت تطالب بحملة لتعقيم الرجال الفقراء حتى يتوقفوا عن الإنجاب!!).

لم أعرفها في قاعات المحاضرات، لكنني عرفتهاباعتبارها رمزا من رموز النقاء والإنسانية التي تدفع صاحبها للإنسلاخ عن مصالح طبقته عندما يكتشف تعارضها مع مصلحة أغلبية الشعب من البسطاء!! ورمزا من رموز الدفاع عن الثقافة الوطنية أولًا. وزوجة سيد البحراوي صديق عبد الحميد العليمي ثانيا، وسمعت عنها كواحدة من المدافعين عن الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعة، وعندما زرتها في بيتها قبل عامين -لم أستطع القيام بواجبات اجتماعية منذ خطف زياد- شعرت أنها قاربت على إنهاء رسالتها، ورحلتها، وتمنيت لها الصحة على قدر العمر وأن يكون رحيلها كريما، يليق بشموخها وكبريائها!!.

بين هذه المناسبات الثلاث ترتسم في ذهني صورة أمينة رشيد التي فقدناها، وكنت أتمنى لها رحيلا كريما نالته بالفعل!! رحمها الله وغفر لها، والهم قلوب أحبائها الصبر، وعوضنا عنها في تلاميذها ورفاقها

المناضلون والعظماء لا يرحلون؛ فقط، تفتح لهم أرض الوطن بطنها كي يستريحوا، وينجبوا براعم جديدة في شجرة العطاء والإبداع والحرية!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *