يمشون على أشواك الغلاء.. تقرير: متلازمة “التضخم” تعمق معاناة المصريين والتعويم وهيمنة المتحكمين في السلع أبرز الأسباب

وكالات

تعمق “متلازمة” التضخم من معاناة المصريين، إذ يواجهون ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الأغذية، جعلتهم في أعلى قائمة الدول الأكثر تضررا من “تضخم الغذاء” بحسب بيانات البنك الدولي.

ويظهر أحدث تقرير للبنك عن تزايد انعدام الأمن الغذائي حول العالم، أن تضخم أسعار الغذاء في مصر ارتفعت بنسبة 35 في المئة منذ بداية 2023 مقارنة مع العام السابق، وهو الرقم الأعلى بين الزيادات التي شهدتها الدول الأخرى، إذ تبعتها ليبيريا بزيادة نسبتها 15 في المئة، والأرجنتين 11 في المئة، وتركيا 11 في المئة.

ويرى محللون أن استمرار التضخم في مصر يعود إلى عدة أسباب منها ما أسموه بـ”تضخم مستورد” لارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية من بلاد المنشأ، ومنها ما هو “تضخم محلي” بسبب ارتفاعات غير مبررة في السوق المحلية وسط ضعف الرقابة الرسمية.

المحلل الاقتصادي المصري، وائل نحاس، قال إن “التضخم أصبح سمة تلاحق الاقتصاد المصري، وكأنه مرض أو متلازمة لا تفارقه”، مشيرا إلى أنها العوامل المحلية المؤثرة به أكثر من العوامل الخارجية.

وأضاف في حديث لموقع “الحرة” أن ” النسب المرتفعة في زيادات أسعار الغذاء في مصر يعود إلى المضاربات التي تحصل في السوق المحلية المرتبطة بأسعار صرف العملية من جهة، وبأسعار السلع الأساسية من جهة أخرى”.

ويشرح النحاس أنه “هناك ارتفاعات في أسعار السلع العالمية، ولكن انعكاساتها في السوق المحلية المصرية تكون أضعاف ما هي عليه بالأصل”، مؤكدا أنه تتوفر هناك “هيمنة وسيطرة المتحكمين في أسعار السلع بالسوق المصرية، وسط ضعف أدوات الرقابة الرسمية”.

وأشار إلى أن التضخم لم يطل “أسعار السلع المستوردة (فحسب) بل حتى تلك التي تعتبر مصر من كبار منتجيها مثل السكر أو حتى الأرز، إلا أن المضاربات في السوق المحلية لم تستطع الدولة كبح جماحها، ودائما ما تكون إجراءاتها متأخرة”.

ويقول النحاس: “أصبح التضخم للمواطن المصري يمثل رقما إحصائيا مجردا، إذ تآكل دخله بالكامل، فحتى لو نزلت أسعار بعض السلع يقابلها ارتفاع في سلع أخرى”.

وكان البنك المركزي المصري قد كشف، في مطلع ديسمبر، أن المعدل السنوي للتضخم الأساسي بلغ 35.9 في المئة، في نوفمبر عام 2023، مقابل 38.1 بالمئة، في أكتوبر عام 2023.

الخبير الاقتصادي، علاء عبدالحليم، يرى بدوره أن التضخم في مصر يمكن تسميته بـ”التضخم المستورد” خاصة وأن العوامل التي تؤثر به بشكل كبير هي “الخارجية، خاصة وأن مصر تستورد على سبيل المثال أكثر من 60 في المئة من القمح، وتصل إلى 90 في المئة فيما يتعلق ببعض الحبوب”.

ويوضح في رد على استفسارات موقع “الحرة” أن “معاناة مصر مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية بدأ منذ جائحة كورونا، وتبعتها حرب أوكرانيا التي أثرت على أسعار الحبوب والزيوت بشكل مباشر”.

ولم ينف عبدالحليم تواجد أثر “لتعويم سعر الجنيه المصري وشح الدولار، والذي تسبب في زيادات بأسعار بعض المواد، مثل الأعلاف على سبيل المثال، ولكن العوامل الخارجية كانت مساهمتها أكبر”.

وكان الدولار يبلغ 29 جنيها مصريا في السوق السوداء قبل عام، ويُباع الآن بأكثر من 50 جنيها، مقارنة بالسعر الرسمي البالغ 30.85 جنيه، وفق رويترز.

وتتوقع أسعار صرف العملات الأجنبية الآجلة، التي تتنبأ بمكانة الجنيه في أواخر يناير، أن يسجل 35 جنيها للدولار، بينما تلك التي تنظر إلى العام المقبل فتضعه عند ما يقرب من 50 جنيها.

ودفع عدم اليقين بشأن أسعار الصرف المصريين في الخارج إلى الإحجام عن إرسال ما يجنونه إلى بلادهم، مما عصف بمصدر رئيسي للنقد الأجنبي. وانخفضت التحويلات بنحو 10 مليارات دولار إلى 22 مليار دولار خلال 12 شهرا حتى نهاية يونيو عام 2023.

الجنيه المصري

ونفذت السلطات ثلاثة تخفيضات حادة لقيمة العملة منذ أوائل عام 2022، لكنها عادت في كل مرة إلى تثبيت السعر على الرغم من التعهدات المُقدَّمة لصندوق النقد الدولي بالتحول إلى نظام مرن بشكل دائم.

وقال قسم الأبحاث في مورغان ستانلي في مذكرة: “نعتقد أن تعديلا على خطوات هو الأرجح على المدى القصير، بدلا من الانتقال إلى ترتيب تعويم”.

وحول كيفية مواجهة التضخم على الصعيد الرسمي يرى الخبير النحاس أنه لا يمكن النظر لهذه “المعضلة بمعزل عن المشاكل الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد المصري، بما يحتاج لوضع خطة متكاملة، وليس مجرد إطفاء حرائق منفصلة”.

أما على مستوى الأفراد، وصف الخبير “المصريين بأنهم كمن يمشي على الأشواك، فهم يعانون ويتألمون من الغلاء الفاحش، وتآكل قدرتهم الشرائية، ولمعرفة أثر هذا التضخم على المواطنين علينا النظر إلى التغير في سلوكياتهم على صعيد الإنفاق”.

بدوره، قال الخبير عبدالحليم إن “الحكومة لديها حزمة أدوات لمساعدة الأسر الفقيرة والمتوسطة على تجاوز المصاعب المالية”.

وأضاف أن الاقتصاد المصري يحتاج إلى “خطة استراتيجية للحد من استيراد السلع الحيوية وإنتاجها محليا، لمواجهة الارتفاعات التي تنتج في الأسواق العالمية، تترافق مع خطط رقابة لضمان استقرار الأسعار في السوق المحلية”.

وذكر عبدالحليم أن “الأسر المصرية تحاول التأقلم وترشيد استهلاكها من خلال تغيير أنماط الاستهلاك، إذ أصبحت الكثير من الأساسيات مواد ثانوية، وهو ما يجب التنبه إليه”.

الباحث في الشؤون الإقليمية في مركز الأهرام للدراسات، سامح راشد، يرى أن “مشكلة التضخم هي مظهر من مظاهر مشكلات هيكلية في الاقتصاد المصري، والتي تكمن في جوهرها بضعف قطاع التصنيع والإنتاج، وبالتالي محدودية الموارد المتاحة بالعملة الأجنبية من إجمالي الدخل القومي. أي أن التضخم نتيجة وليس سببا في مشكلات الاقتصاد أو تدهوره. لكنه يظهر بوضوح في الغلاء وصعوبة الوضع المعيشي للمواطنين”.

ويؤكد في حديث لموقع “الحرة” أنه “لا يوجد حل جذري للتضخم إلا بتوفير الحد اللازم من الإنتاج والتصدير، لما يكفي على الأقل لتثبيت قيمة العملة المحلية، وتحجيم الارتفاع المستمر في الأسعار”.

ويشرح أن مثل هذه الحلول تستغرق وقتا طويلا، ولهذا حاولت السلطات المصرية خلال الأعوام القليلة الماضية الحد من التضخم بتحركات متنوعة، بعضها نقدي مثل خفض سعر الجنيه المصري، وبعضها مصرفي مثل تقييد عمليات الاستيراد وخفض سقف التسهيلات المصرفية بالعملة الأجنبية، غير أن كل الإجراءات والقرارات كانت آثارها محدودة أو مؤقتة في أفضل الأحوال، ولا توجد خيارات مضمونة قصيرة الأجل أو بدائل عملية سريعة الفعالية في مواجهة التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية”.

ويرجح راشد أن “تلجأ الحكومة المصرية إلى تعجيل وزيادة عمليات البيع لأصول استثمارية ثم خفض جديد لقيمة العملة، وتستعين في الوقت ذاته بزيادة قيمة الدفعة المقررة من قرض صندوق النقد الدولي، وكذلك سحب كمية من العملة الأجنبية المتاحة في السوق الموازي ولو بدون غطاء نقدي حقيقي أي طباعة العملة المحلية بدون إنتاج فعلي ثم يتم ضخ هذه الكمية من الدولارات مع تطبيق خطوة خفض الجنيه. على أمل انحسار السوق الموازي وتوقف عمليات المضاربة على العملة الأجنبية وتقليل حجم الفجوة الدولارية.. ولو إلى حين”.

وزاد أنه “في كل الأحوال، سيكون على الحكومة المصرية، مواجهة تحديات اقتصادية صعبة وعاجلة، أبرزها حجم أقساط الديون وفوائدها المقررة في العام الجديد. وسداد فوائد السندات والشهادات البنكية التي تم إصدارها في العامين الماضيين بنسب فوائد مرتفعة”.

وتعثرت حزمة مالية بقيمة ثلاثة مليارات دولار تم التوصل إليها مع صندوق النقد الدولي قبل عام بسبب عدم سماح مصر بتعويم عملتها أو إحرازها تقدما في ملف بيع أصول الدولة. وأرجأ الصندوق صرف نحو 700 مليون دولار مستحقة في 2023.

وقال صندوق النقد الدولي هذا الشهر إنه يجري محادثات لتوسيع الحزمة بسبب المخاطر الاقتصادية الناجمة عن الصراع بين إسرائيل وحركة “حماس”، ويبدو أنه حول تركيزه من سعر الصرف إلى استهداف التضخم، بحسب تقرير لوكالة رويترز.

وقالت كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي في تصريحات صحفية مؤخرا “ينصب تركيزنا على جعل الاقتصاد يعمل بأفضل شكل ممكن. وبهذا المعنى، نعم، نعطي الأولوية لمكافحة التضخم ومن ثم بالطبع سننظر إلى سعر الصرف في هذا السياق”.

وقالت المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، في وقت لاحق إن برنامج مصر يتضمن الحاجة إلى تشديد السياسة النقدية والمالية، إلى جانب نظام مرن لسعر الصرف، “للانتقال تدريجيا إلى نظام استهداف التضخم”.

وتواجه تدفقات الدولار تهديدات جديدة بعد تأثير الأزمة في غزة على السياحة والهجمات على السفن في البحر الأحمر والتي تمنع بعضها من الإبحار عبر قناة السويس. وحققت مصر بحسب بيانات بنكها المركزي إيرادات بلغت 13.6 مليار دولار من السياحة و8.8 مليار دولار من رسوم قناة السويس في 2022/2023.

وتحتاج مصر إلى الدولار لسداد ديونها الخارجية العامة متوسطة وطويلة الأجل والتي قفزت بمقدار 8.4 مليار دولار في الأشهر الستة حتى الأول من يوليو إلى 189.7 مليار دولار. ومن المقرر سداد ما لا يقل عن 42.26 مليار دولار من الديون الخارجية في عام 2024.

وقدر صندوق النقد الدولي في يناير العجز التمويلي لمصر على مدى 46 شهرا بنحو 17 مليار دولار.

وتحتاج مصر أيضا إلى الإفراج عن بضائع متراكمة في الموانئ ودفع متأخرات لشركات النفط الأجنبية والسماح للشركات بإرسال الأموال المستحقة لمكاتبها في الخارج، فضلا عن تلبية الطلب المتزايد على الواردات.

واعتمدت مصر في السابق على حلفائها الخليجيين الأثرياء للحصول على الدعم لكن لم يعلن كثير منهم تقديم أي مساعدات كبيرة لها مؤخرا.

ولتعويض ذلك لجأت الحكومة إلى منظمات التمويل متعددة الأطراف ومجموعة واسعة من الدول الصديقة لتجمع الأموال هذا العام من اليابان والصين والهند والإمارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *