مجلة التحالف| الخصخصة في مصر من الفساد إلى تفكيك الصناعة وتصفية المشروعات المنتجة: الحصاد المر لسياسات تجاوزت النصف قرن

حتى مايو ٢٠٠٣ باعت الحكومة عددا ضخما من المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالمحليات.. كما تم بيع ١٩٤ شركة من شركات القطاع العام

الموجة الأخيرة أظهرت الذهاب لسرعة وخطورة بيع أصول مصر في العام الأخير على خلفية أزمة اقتصادية تعاني منها مصر بفعل سياسات السلطة

بقلم / د . زهدي الشامي – أمين عام مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي

عندما نتحدث  فى مصر اليوم عن الخصخصة يتعين أن ندرك إننا لانتحدث عن أمر جديد، بل عن أفكار وسياسات عمرها يتجاوز نصف قرن بالكامل، ودخلت مرحلة التنشيط والتسريع منذ مايتجاوز ثلاثين عاما. والحصاد المر لهذه السياسة التخريبية واضح وضوح الشمس، وليس هناك أى داعى لإعادة اكتشاف العجلة.

أولا: تاريخ الخصخصة فى مصر : فساد واحتكار وتفكيك للصناعة المصرية

قامت الحكومة المصرية منذ بدء برنامج الخصخصة  وحتى مايو ٢٠٠٣ ببيع عدد ضخم من المشروعات الصغيرة والمتوسطة التى كانت تمتلكها المحليات، كما تم بيع ١٩٤ شركة من شركات القطاع العام، فضلا عن ٣٨ مصنعا تم بيعه أو تأجيره.  وقد بلغت قيمة الشركات الحكومية التى تم بيعها فى إطار برنامج الخصخصة منذ بدايته فى عام حتى مايو ٢٠٠٣ نحو ١٦٦١٨ مليون جنيه مصرى حسب بيانات وزارة قطاع الأعمال العام فى تقريرها عن برنامج الخصخصة. وبعد مجئ حكومة نظيف تسارعت وتيرة الخصخصة .

 وتجلى الفساد الواسع الذى ارتبط بهذه العملية الكبيرة فى حالات كثيرة وأيضا فى أحكام قضائية عديدة قضت بطلان عمليات البيع .

  لكن على وجه العموم يرصد الاستاذ أحمد السيد النجار فى كتابه :  ” الانهيار الاقتصادى فى عهد مبارك “الفارق الكبير بين التقديرات الخاصة بالقيمة السوقية لقطاع الأعمال العام وبين القيمة الفعلية التى بيعت بها شركاته .

وقد ظهرت تقديرات متفاوتة للغاية لتلك القيمة السوقية ، حيث أشار رئيس تحرير جريدة الأهرام شبه الرسمية فى أبريل ١٩٩٠ إلى أن أصول القطاع العام تتراوح بين ٨٤  و ١٠٠ مليار جنيه ، أى بين ٤٢-٥٠ مليار دولار بسعر صرف ذلك الوقت وهو ٢ جنيه مصرى .

فى حين أشار كمال الجنزورى رئيس الوزراء إلى أن قيمة قطاع الأعمال ١٢٤ مليار جنيه ، وهو مايشير فى الغالب للقيمة الدفترية فقط فى ذلك الوقت . بينما قدر بنك الاستثمار القومى القيمة الفعلية لشركات القطاع العام بما يزيد على ٥٠٠ مليار جنيه مصرى ، أى ١٥٠ مليار دولار أمريكي.

وفي المقابل فإن قيمة ما باعته الدولة من شركات تمثل الغالبية العظمى من القطاع العام بلغ في تلك الفترة حوالى ٢٥ مليار جنيه فقط، مما يكشف حجم الإهدار للمال العام، والنهب الذي تعرض له الشعب المصري في تلك الفترة.

ثانيا – التطورات الراهنة من الصندوق السيادى إلى تصفية الشركات

بدلا من العدول عن سياسات الخصخصة والالتزام بالاستجابة  للآمال والتطلعات التي أحيتها ثورة يناير، والوعود التي كانت قد قدمتها حكومات تلكم الفترة وعلى رأسها حكومة ابراهيم محلب من معالجة أوضاع الشركات المتعثرة وإعادة هيكلتها و تطويرها وتشغيلها  سارت الأمور للأسف فى اتجاه معاكس تماما.

وتمثل أبرز التطورات فى هذا الشأن فى تعديل قانون تعاقدات الدولة بما يحظر الطعن على تلك التعاقدات أمام القضاء، وهى العون التى تمكنت فى الفترة السابقة من الحصول على أحكام متعددة ببطلان البيع، وحقوق العمال فى تلك المشروعات، وكان من بين ذلك بطلان بيع عمر أفندى، وقضايا طنطا الكتان وغزل شبين وغيرها. والان وبحكم التعديلات التى تم إدخالها فقد حظر على المواطنين استعمال حقهم فى التقاضى فى تلك العقود، وللأسف فقد ايدت المحكمة الدستورية ذلك مؤخراً ، فيما يعد بشكل واضح نوعا من التحصين للفساد فى تلك الصفقات الكبرى .

 وكانت الخطوة التالية الخطيرة فى التمكين للخصخصة وتحصين كل القرارات المتعلقة بها هو انشاء صندوق مصر السيادى فى عام ٢٠١٨ . وعلى عكس مفهوم الصندوق السيادى فى الدول التى تمتلك فوائض مالية تريد استثمارها لصالح الأجيال القادمة يحمل الصندوق السيادى المصرى طابعا مناقضا تماما حيث يظهر بأنه على ماوصفه به الاقتصادى الشهير د . جوده عبد الخالق “الباب الملكى للخصخصة”. فهذا الصندوق التابع مباشرة لرئيس لجمهورية ، وغير الخاضع عمليا بالتالي لأى رقابة جادة ، حولت له نسبة كبيرة للغاية من أصول وممتلكات  وموارد الدولة ، وتم منحه حرية واسعة للغاية فى التصرف فيها بما فى ذلك شراء وبيع و تأجير واستئجار واستغلال الاصول الثابتة والمنقولة و الانتفاع  بها. بعبارة أخرى تم انشاء صندوق مهمته الرئيسية خصخصة وبيع أصول الدولة .

 ولم تكتف الحكومة المصرية بكل ماسبق ، بل شهدنا فى الواقع موجة جديدة أخطر من الهجوم العام على القلاع الصناعية الرئيسية  ، ليس حتى بهدف الخصخصة ، بل بغرض التصفية المباشرة والكاملة، بذرائع  متهافتة، مستندة لتخسير عمدى، أو حتى اعلان زائف عن خسائر، أو حتى بدون ذلك مبررات أخرى وهمية الحفاظ على البيئة . وكان العامل المشارك فى تلك الهجمة التدميرية للصناعة هو الرغبة المحمومة لدى المجموعة التى تتخذ القرار الاقتصادى فى التوسع فى الاستثمار العقارى، ولو على جثة المشروعات الإنتاجية والصناعية، وتحويل أراضيها من التخصيص للاستثمار الصناعى إلى الاستثمار العقارى .

 وشملت تلك الهجمة عددا من المشروعات العملاقة والاستراتيجية المحورية للاقتصاد المصرى على رأسها الحديد والصلب فى حلوان وشركة  الكوك وسماد طلخا. ومصر للغزل والنسيج  بكفر الدوار .وقد تم تمرير تلك التصفيات عموما فى مواجهة معارضة عمالية واسعة تظهر من هو المتمسك بالانتاج ومن الذى يريد تعطيل وتدمير الانتاج فى مصر . ومن المفارقات الواضحة أن الحكومة التى تلجأ للسياسات الأمنية والقمعية بحجة الحفاظ على الانتاج،  استخدمت فى الواقع القمع ضد العمال من أجل أن تفكك هى الهياكل الانتاجية للبلاد لصالح سياسات عقارية وطفيلية .

ثالثاً – مخاطر الموجة الراهنة لبيع أصول مصر

أظهرت الموجة الأخيرة الذهاب لسرعة وخطورة بيع أصول مصر فى العام الأخير ، على خلفية الأزمة الاقتصادية الخارقة التى تعانى منها مصر بفعل السياسات الفاشلة للسلطة الحاكمة، والتي كان من بين أهم معالمها تراجع احتياطي النقد الأجنبي، وتزيد عجز ميزان المدفوعات، وانكشاف الدولة إزاء أقساط الديون والفوائد المطلوب سدادها في الفترة الراهنة ولا تتوفر موارد كافية لذلك، والتي تقدر في عام ٢٠٢٣ بما يصل إلى ١٧.٦ مليار دولار، وفى عام ٢٠٢٤ إلى ٢٤ مليار دولار.

وفى نفس الوقت تشددت الجهات المانحة والنظرة الخارجية سواء صندوق النقد الدولى ودول الخليج فى تقديم قروض جديدة للحكومة المصرية تعينها على سداد القروض التي حان أوان سدادها كما كانت تفعل في الماضي، واشترطت عليها بيع أصولها  كأسلوب وحيد للحصول على العملة الأجنبية باسم الاستثمارات.

 وفى هذا السياق تحديدا وفى إطار السعى لاتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، طرحت الحكومة برنامج أصول الدولة، الذي تسعى معه لبيع ما قيمته ٤٠ مليار دولار في السنوات المقبلة. وهو برنامج يبدو على أنه أخطر برنامج للخصخصة حتى الآن، حيث تضمن ليس فقط شركات قطاع الأعمال بل العديد من مرافق الدولة الاستراتيجية من شركات الكهرباء والمياه، وصولا للموانئ المصرية، وصولا لخصخصة أنشطة هيئة قناة السويس ذاتها ، وهو الأمر الذى اثار حملة معارضة قومية عارمة اضطرت الحكومة لتجميد هذا المشروع  لتأسيس صندوق خاص لقناة السويس تدخل الخصخصة فى  صلاحياته ، بعد الموافقة عليه فى قراءة أولية فى مجلس النواب .

 وتشمل موجة الاطروحات الراهنة غالبية شركات الأسمدة ، وبعض البنوك والمؤسسات المالية كالتجارى الدولى والاسكندرية والقاهرة ومصر للتأمين وشركة فورى ، وشركات تداول الحاويات مثل الإسكندرية ، وعددا كبيراً من فنادق الدولة وغيرها .

 ومن الملاحظ ان غالبية تلك المشروعات هى رابحة بدرجة كبيرة ، و أن سعر البيع لايتوافق مع ربحيتها. فعلى سبيل المثال فإنه تم بيع حصة من  شركة سماد ابو قير لصندوق ابو ظبي السيادى فى أبريل ٢٠٢٢ بقيمة ٧.٢ مليار جنيه مصرى ، وحققت الشركة فى شهر يوليو أرباح تبلغ ٩ مليار و ٢٤ مليون جنيه ، نصيب صندوق ابو ظبي فيها ١.٩ مليار جنيه . ومن ثم فإن معامل استرداد راس المال فى  شركة ابو قير ٤ سنوات فقط ، فى حين أن هذا المعدل عالميا قد يصل إلى ١٠ سنوات .

 ومن الضرورى هنا الإشارة إلى أن الحكومة المصرية بذلك تعالج الخطأ  السابق لها بخطأ أشد. فبعد أن ورطت البلاد فى ديون تعجز عن سدادها، تلجأ لبيع الأصول التى كانت تدعم موازنة الدولة ، كما أنها ستصبح ملزمة بتحويل أرباح المستثمر الأجنبى بالعملة الصعبة مما سيزيد متاعب ميزان المدفوعات بدلاً من أن يحلها ، حيث أن تحويلات أرباح المستثمرين الأجانب أو مايعرف بميزان دخل الإستثمار أصبح فى السنوات الأخيرة من أبرز البنود التى تستنزف النقد الأجنبى. فقد ارتفع العجز فى ميزان دخل الإستثمار من ١٢.٣٩٩ مليار دولار فى عام ٢٠-٢١ إلى ١٥.٧٦٣ مليار دولار فى عام ٢١-٢٢ ، ومن ثم فإنه سيصبح مرشحا لمزيد من التزايد .

 وينبغي أن نشير أيضا إلى أن استحواذ الأجانب والمستثمرين الخليجيين على غالبية شركات الأسمدة كأبو قير وموبكو و وغيرها من الشركات الحيوية للاقتصاد المصرى والزراعة المصرية  وهى شركات ذات ربحية عالية ، إلا أنها تابعة لما يسمى الإقتصاد البنى ، وفق مايشير الدكتور السيد الصيفى عميد كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، أى الصناعات الملوثة للبيئة ، وبعد أن تم فى السابق بيع شركات الأسمنت والاسمدة أيضا ، فإنه يعنى أن الدولة الأجنبية والعربية تحول  هذه الصناعات الملوثة للبيئة عن أراضيها  ، وتنتج بدلا من ذلك فى مصر وتحصل هى على  الأرباح العالية .

لاحاجة للقول أن بيع الأصول عموما لايعد استثماراً بالمعنى الحقيقى والانتاجى  الذى يضيف فعلا للطاقات الإنتاجية الوطنية الموجودة فعلاً،  فما يحدث ليس أكثر من نقل ملكية من مصر لدول اخرى، وأن الحكومة المصرية بذلك عندما تتحدث عن جذب استثمارات مباشرة فانها غير ناجحة فى الواقع فى جذب أى استثمارات مباشرة حقيقية جديدة.



“تنويه: ينشر موقع درب الإخباري ملفات ومقالات العدد الثالث من مجلة التحالف والصادر بمناسبة عيدالعمال”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *