كارم يحيى يكتب: عن زميلنا “عماد الفقي” وتاريخ القسوة في “الأهرام” (3).. عن إبراهيم نافع وموسى جندي

موسى جندي.. الزميل الذي توفى بالسرطان وهو ممنوع من دخول المؤسسة بسبب خلافاته مع إبراهيم نافع

بعد ثورة يناير شاركت في ملف عن ميلاد الأهرام الـ135 بمقال عن موسى جندي والقسوة معه لم ير النور

الصحافة المصرية تعيش سنواتها الأسوأ.. وأخشى أن نستيقظ على مأساة أكبر من مأساة انتحار عماد الفقي



رحم الله
الأستاذ عماد الفقي
زميلي في “الأهرام”
وغفر له ..

موجع رحيله على هذا النحو المؤلم الصادم.
الانتحار في حد ذاته موجع .
فما بالنا بالانتحار من مبنى الأهرام فجرا وعلى هذا النحو بالغ البشاعة .. والقسوة أيضا .
*

لو كتبت أجيال من الصحفيين في ” الأهرام” عن تاريخ القسوة معهم لاكتشفنا وقائع بلا حصر تفيد في فهم علاقة الصحفي / الإنسان الفرد بالمؤسسة /السلطة.. المؤسسة العملاقة الكبيرة. ناهيك عن كونها علاقات تجرى في سياق مجتمعات متخلفة ونظم حكم تسلطية استبدادية. وطالما مرت و تمر هذه العلاقات داخل المؤسسة عبر السلطة السياسية/ الأمنية وأجهزتها وقادتها ومسئوليها خارج “الأهرام”.
لو كتبت أجيال من صحفيي ” الأهرام “، لعلمنا أيضا أن الظاهر والسمعة المستمدان من عراقة العنوان الأشهر في الصحافة المصرية والعربية و فخامة المبنى ونظافته وهندام موظفي استقباله غير باطن الأمور والعلاقات. و سواء أكانت بين الإدارة / القيادة / السلطة وبين الصحفيين أو بين الصحفيين بعضهم البعض وأنفسهم . وأقول ياريت أن تبوح و تكتبت أجيال من الصحفيين في “الأهرام ” عن تاريخ القسوة، وفق ما حدث معها وكانت شاهدة عليه.
ويتمنى المرء اليوم كتابات متعددة لاتقتصر فقط على أولئك النفر المعدود دائما على أصباع اليد أو اليدين المحسوبين على المعارضة السياسية أو الاستقلالية المهنية أو من الشخصيات المتفردة النافرة من التسلط والسلطة داخل المؤسسة، والتي تعلي من الولاء للقارئ والمهنية على الاتباع الأعمى لـ” سلطة ( الريس) في المجتمع والمؤسسة طلبا للمغانم والامتيازات أو خوفا من التنكيل والتهميش والنبذ.. وانطفاء الأضواء.
وعني شخصيا وبمناسبة صدمتي ووجعي في هذا الرحيل الصادم لزميلي “عماد الفقي” سأضيف هنا بعض ما أود ألا أذهب به إلى القبر طي النسيان. ولربما ساعدني ما أكتب الآن أنا أيضا في التطهر والخلاص على كل ما أبذل ـ وكغيري ـ من جهد من أجل النسيان والتسامي والتصالح. ناهيك عن جولات المقاومة ولو الفردية . وبالطبع لا يمكنني أن أقول كل ما عندي ، وعلى الأقل لاعتبارات مساحة هذا المقال. وسوف أخصصه لزميل قدير راحل.

في ربيع 1998 توفى الصديق والزميل الأستاذ “موسى جندي” وهو من بين أكثر صحفيي ” الأهرام ” والصحافة المصرية في جيله كفاءة وقدرة على إثارة النقاش والجدل متعدد الآراء في القضايا العامة، وكما تشهد على هذا أعداد مجلة “الأهرام الاقتصادي” زمن رئاسة تحرير الراحل الزميل المحترم الأستاذ “لطفي عبد العظيم” في مطلع عقد الثمانينيات من القرن العشرين. ناهيك عن قدرات “موسى” المعتبرة في الترجمة الصحفية من الإنجليزية إلى العربية.
مات “موسى” بعد معاناة مؤلمة مع مرض سرطان الكبد، وهو مضطهد من إدارة / قيادة “الأهرام” برئاسة المرحوم الأستاذ “إبراهيم نافع”، وإلى حد أنه مات وهو ممنوع من دخول المؤسسة بسطوة وغرور قوة ” الريس” نقيب الصحفيين السابق واللاحق حينها. وكنت بنفسي شاهدا على محطات عدة في عرقلة رحلة علاجه داخل مستشفيات مصر العامة ومن الإدارة السلطة / المؤسسة ذاتها، وحتى أننا لجأنا إلى وساطات من بينها لنقيب الصحفيين حينها المرحوم الأستاذ “مكرم محمد أحمد”. وبالطبع كان هناك من يسافرون للعلاج في الخارج لأمور أقل ضرورة و خطورة بكثير من مرض “موسى” . وهكذا طالما هم من ” أهل الرضا والحظوة” من أولئك المرضي عنهم من السلطة في الدولة والمؤسسة.

ولم يكن تاريخ القسوة هنا يقتصر على تنكر الزملاء للأستاذ “موسى جندي” في مرضه ومستشفاه الأخير بالقصر العيني الفرنسي. بل امتدت القسوة لتغمر وفاته. نفر على أصابع اليد الواحد أو اليدين من الزملاء في “الأهرام” جاءوا إلى عزاء “موسى المنبوذ المغضوب عليه “. وكانت إدارة المؤسسة قد قامت بتعليق نبأ الوفاة وموعد العزاء بعد العزاء بالأصل. وهذا وكأنها تستمر في التنكيل والقسوة . لكن القسوة أيضا تتمثل في أن أحدا من الزملاء لم يحتج أو يطلب تفسيرا لما جرى. والقسوة أيضا اختبرتها عندما سألت هذا الزميل وذاك بشأن تخلفه عن العزاء على الرغم من أنني أبلغت مسبقا، لتصدمني الإجابة / المبرر :” ما حبتش حد يشوفني هناك ويبلغ الأستاذ إبراهيم”. ولقد فكرت حينها بأن موقف رئيس مجلس الإدارة والتحرير الذي يفترضه مرؤسوه من الصحفيين ربما ليس بهذه الحدة و القسوة والحماقة مع جلال لحظة الموت. لكنها جناية وشهوة ” نفاق الريس وخشيته”.

ولقد كتبت ونشرت بين عامي 4 و2005 دراسة / فصلا بعنوان :” الطيعون المطيعون: في انتقاء الصحفي وترويضه” بكتاب ” حرية على الهامش : في نقد أحوال الصحافة المصرية” عن الزملاء الطيعون المطيعون في مختلف الصحف على مبدأ “نافق رئيسك الذي ينافق الرئيس”. كما حاولت أن استفيد من كتابات المفكر الراحل “هشام شرابي” عن ” الأبوية أو البطريركية المستحدثة” عند العرب في تفسير علاقات الهيمنة والإخضاع داخل صحفنا المصرية. ناهيك عن تأثيرات عوامل أخرى تستحق المزيد من الدراسات كالأصول والتنشأة الريفية لأجيال من الصحفيين..و القمع ثم التوظيف الأيديولوجي/ الدعائي لسلطة يوليو 52 .. و اغتراب العمل و إزاء المنتج الصحفي ..و ما اسميته بـ “مجتمع الاستثناء” والواسطة وعلاقات القرابة وتوريث الوظائف داخل المؤسسة.. وتوحش الفردانية ووالأنانية والنرجسية بين الصحفيين في تنافسهم على النشر والمناصب في المؤسسة الصحفية.. وتدهور الأداء المهني و استفحال الخفة والتفاهة.. وغيرها. وبالإمكان العودة إلى هكذا ملاحظات واستنتاجات يمكن اختبارها وتطويرها كخلفية لفهم ظاهرة القسوة في ” الأهرام” وصحافتنا المصرية (*)

.. للأسف تاريخ قسوة ” الأهرام ” مع “موسى” لم ينته عندي بعد . ففي أغسطس 2011 أي بعد الثورة وبمناسبة الاحتفاء بمرور 135 سنة على إصدار الأخوين الشوام “تقلا” العدد الأول من “الأهرام”، ومن الأسكندرية تحديدا، طلب أول رئيس تحرير بعد الثورة الزميل الأستاذ “عبد العظيم حماد” اعداد ملف خاص بهذه المناسبة . وأظن انه دعاني للمشاركة أو ربما تطوعت باقتراح الكتابة عن اثنين متميزين في تاريخ “الأهرام”. وأشرت على نحو خاص إلى أهمية الكتابة عن كل من الأستاذة “جاكلين خوري” والأستاذ “موسى جندي”. وما حدث أن شيئا لم ينشر عن الاثنين.
ولا أعرف ماذا بشأن انتحار “جاكلين”، وهل اهتم أحد ممن عاصروها وكتب تفصيلا يحقق ظروف هذا الانتحار أم لا، وما جاء بتحقيقات النيابة؟. وأيضا هل سعى أحد لفحص تأثير التناقض المتصور بين سياق “كامب ديفيد” على العلاقات داخل “الأهرام” وما ينشره حينها وبين تغيير “السادات” لقيادات الصحافة القومية بين 79 و 1980 لتوائم الصلح والتطبيع مع إسرائيل. وأيضا كون “جاكلين” من أصول وطنية فلسطينية واهتز كيانها ووجودها لاستشهاد زوجها الزميل الأستاذ “إبراهيم عامر” في قصف إسرائيلي لمقر صحيفة “المحرر”اللبنانية في بيروت قبلها بسنوات. لكن ما أعلمه جيدا أنني تقدمت بمناسبة 135 عاما على العدد الأول بمقال بعنوان ” موسى جندي .. صفحة من التاريخ غير الرسمي للأهرام ” (**)، ويقع في أقل من ألف كلمة كما هو متفق . لكن المقال لم ير النور أبدا في الجريدة أو أي من إصدارات المؤسسة. و اعتذر رئيس التحرير حينها عن عدم النشر . ربما بدعوى أنه يخشى غضبة ” رجال إبراهيم نافع “. وهذا مع أن المقال لم يأت أبدا على ذكر اسمه أو صفة له، كما أن “نافع ” حينها كان ملاحقا بتحقيقات النيابة في ملفات فساد بمئات الملايين من الجنيهات من أموال “الأهرام”. وربما كان قد فر إلى خارج مصر .
قبل وفاته ، واجه الأستاذ ” موسى جندي” الذي جرؤ ورشح نفسه لمنصب نقيب الصحفيين في مواجهة الأستاذ “إبراهيم نافع” ومؤكدا على لا مشروعية الجمع بين تمثيل الصحفيين نقابيا و الإمساك بسلطة الإدارية العليا و الثواب والعقاب إزاء الصحفيين في “الأهرام” و كاشفا عن عورة واستفحال الخلط بين الإعلان و التحرير في المؤسسة والصحافة المصرية بصفة عامة. وعندي في أرشيفي ملفات تسلمتها من أسرته بعد وفاته متخمة بوقائع “بهدلة ” الأستاذ “موسى ” أمام الشئون القانونية في تهم واهية تثير السخرية والأسى. والمؤسف أن هذه الملفات توثق أيضا تورط زميلة نقابية من “الأهرام” في تنكيل الإدارة / السلطة بزميلها ـ مع ما يجمعهما من انتماء وماضي يساري مشترك ـ ولصالح رئيس مجلس الإدارة والتحرير نقيب الصحفيين. واتمنى أن اتفرغ مستقبلا لكتابة قصة هذه التحقيقات وهذا التنكيل مدعمة بصور مستنداتها.
وعلى هامش ماجرى مع “موسى جندي” والقسوة في ” الأهرام” ، استدعى الآن موقف تحتفظ به ذاكرتي كانت مجموعة من الزملاء الأكبر سنا منى قد تعرضوا للمنع من العمل ودخول المؤسسة لجهرهم وتحركهم ضد استمرار رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير الأستاذ “إبراهيم نافع” في منصبه بالمخالفة للقانون لتخطيه سن البقاء في المناصب القيادية بالصحف القومية . وبالفعل صدرت فتوى من مجلس الدولة للمستشار الراحل “طارق البشري” تنحاز لتطبيق القانون. وماهو محفور في الذاكرة إلى اليوم حين توفى أحد رجالات هذه المجموعة التي كانت مغضوبا عليها،وكان من قيادات ” الأهرام” وشغل لسنوات عدة واحدا من أهم مكاتبه في أوروبا. أقول ما هو محفور في الذاكرة انني عندما علمت بخبر الوفاة تقدمت لزميلي شقيقه الأصغر معزيا بكلمات مواساة. إلا أنني فوجئت بأنه ينكر أي صلة قرابة به أو أنه يعرفه أصلا. وهذا مع أن شقيقه الأكبر كان قد صحبه معه للعمل في مكتب “الأهرام ” الأوروبي هذا بدون مسابقة وكالعادة أو مؤهلات لمهمة المراسلة ، بما في ذلك عدم إجادة لغة أجنبية .
حقيقة كنت ومازلت مصدوما من وقع هكذا قسوة قد تمزق علاقات القربى والدم وفي مواجهة وجلال الموت . وكنت مصدوما أيضا لأنني حرصت على مواساة الزميل ـ الطموح للترقي ولمزيد المناصب في الجريدة ـ على أنفراد. ولم يكن بيني وبينه ثالث. وفيما بعد علمت أن الشقيق الأصغر كان قد اشاع عندما دب الخلاف بين شقيقه ورئاسة الجريدة والمؤسسة أنه قاطعه تماما.

*
أخشى أن يتلاشى الاهتمام بحدث انتحار زميلنا الأستاذ ” عماد الفقي”، وينتهى بعد أيام أو أسابيع إلى لا شئ .. إلى النسيان. حقا.. جرأ الحدث العديد من الزميلات والزملاء على البوح عن بؤس أحوالهم الاقتصادية وعلاقات العمل وبيئتة غير الصحية غير السوية، وكذا البوح بشأن بؤس النشر ، بل وانعدامه مع تغييب المهنية ليس في الأهرام وحدها . بل في عموم الصحافة المصرية التي يبدو أنها تعيش السنوات الأسوأ بعد انكسار ثورة يناير بحلول صيف 2013 وماتلاه. لكني أخشى من عودة ” للاشئ” وللنسيان، حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك .
ــــــــــــــــــــــ
(*) كارم يحيى، حرية على الهامش: في نقد أحوال الصحافة المصرية، الطبعة الثانية، دار العين، القاهرة، 2011 ، من ص 63 إلى ص 94 .
(**) رابط المقال منشورا في موقع ” المشهد” بتاريخ 25 مايو 2019 ، علما بأن المقال نفسه منشور من بين ملاحق الطبعة الثانية للكتاب المشار إليه سابقا:
https://www.elmashhad.online/Post/details/1081957m

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *