عبد المجيد المهيلمي يكتب: في شأن البنك المركزي ومحافظه

“أبجديات. لكن متى كنا نؤمن بها؟ نظامنا يعشق الموظفين ويمقت السياسيين”. هكذا علق الكاتب الصحفي الكبير عبد العظيم حماد – رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق على ما جاء بمقالي المعنون: “الاختيار الخطأ للمحافظ واختياره المخطئ لمستشاريه” الذي نشر يوم الجمعة الماضي بصحيفة درب الالكترونية. حماد وضع يده على الداء، فالبنك المركزي لا يحتاج إلى موظف يتلقى الأوامر من أعلى ليقوم بتنفيذها، لكنه بحاجة ماسة إلى رجل أو امرأة اقتصاد (من الطراز الأول علميًا وعمليًا) مستقل/ة (ولو نسبيًا) ذي حس سياسي، حاذق/ة ذي شخصية قوية، متمكن/ة من أدواته/ها، ويملك/ تملك القدرة على صناعة القرار.
فمواصلة علاج المريض على يد طبيب جديد، لا نقول غير كفء في تخصصه، لكنه من تخصص الطبيب المستقيل نفسه (أو المخلوع حسبما يتراءى لكم) وله خبرته نفسها، في البيئة والظروف السابقة نفسها، لن يجدي نفعًا، لأن الشفاء يحتاج إلى طبيب متمرس في تخصصات مختلفة تمامًا (لكم أن تتصوروا رجلًا يعاني من انسداد في تدفق البول خارج المثانة، فيرسلوا له أخصائي جراحات تجميل كبير ليسهر على علاجه!)، يعمل في بيئة وظروف مغايرة بالكامل (استقلالية القرار، ورفض الإملاءات الرئاسية)، مثلما هو الحال بكافة الدول المتقدمة اقتصاديًا، والدول التي سارت بنجاح على طريق الإصلاح المالي والاقتصادي في السنوات القليلة الماضية كرواندا، وفيتنام، وبيرو مثلًا.
فماذا نعرف عن محافظي البنوك المركزية لتلك الدول؟

لقد شهدت رواندا طفرة اقتصادية هائلة صارت حديث المحافل الدولية. في 2013، تم تعيين رانجومبوا محافظًا للبنك الوطني لرواندا. وهو حاصل على ماجستير في إدارة الأعمال من كلية ماستريخت للإدارة بهولندا. بدأ عمله في هيئة الإيرادات في رواندا حيث صعد إلى رتبة نائب مفوض للعمليات الجمركية، والتحق بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي عام 2002 كمدير للخزينة الوطنية. وفي 2005، شغل منصب المحاسب العام الأول في الوزارة، وتم تعيينه أمينًا للخزانة. وأصبح وزيرًا للمالية والتخطيط الاقتصادي عام 2009.

وفي فيتنام، تم تعيين نجوين في هونج لتصبح أول امرأة تتولى منصب محافظ بنك الدولة الفيتنامي. هونج حاصلة على ماجستير في التنمية الاقتصادية، وتدرجت في مناصب عدة بالبنك المركزي حيث عملت في إداراتي الصرف الأجنبي، والسياسة النقدية قبل ترقيتها إلى نائب محافظ عام 2014 و2019، ثم محافظة في نوفمبر 2020.

وأخيرًا، في بيرو أعتلى خوليو فيلاردي مقعد محافظ البنك المركزي. فيلاردي كان أول دفعته بكلية الاقتصاد، ونال الماجستير من جامعة براون عام 1977. وفي 1990 أجرى دراسات متقدمة في الاقتصاد في معهد كيل للاقتصاد العالمي (معهد ألماني ضمن أفضل 15 مركزًا في العالم للسياسة الاقتصادية على وجه التحديد). عمل كباحث ومساعد أستاذ اقتصاد بجامعة ديل باسيفيكو. وشغل منصب مدير البنك الصناعي، والمستشار الاقتصادي لوزير الصناعة والمدير المالي لبنك الرهن العقاري المركزي في بيرو. وتم تعيينه عام 1990 عضوًا في مجلس محافظي بنك الاحتياطي المركزي ومستشارًا لوزير المالية. ومن 1993 إلى 1999 شغل مناصب عليا في المعهد الوطني للدفاع عن المنافسة الحرة وحماية الملكية الفكرية.

هؤلاء الثلاثة لم يهبطوا فجأة على كرسي المحافظ ببلادهم كما يحدث لدينا (نؤكد مرة أخرى أن مهامه ومسؤولياته وواجباته تختلف اختلافًا جذريًا عن مهام ومسؤوليات وواجبات رئيس بنك تجاري أو استثماري). الثلاثة كرسوا حياتهم على العمل العام وشحذ معارفهم الاقتصادية، وأمضوا سنوات طويلة في دراسة مهام ومسؤوليات البنك المركزي، والقيام بأبحاث اقتصادية ومالية تقود إلى اتخاذ القرارات ووضع الاستراتيجيات، وفي اكتساب خبرة عملية في كيفية تنفيذ أفضل الممارسات في مجال البنوك المركزية في العالم.

إن بعض المصريين، للأسف الشديد، يروجون – إما عن غرض في نفوسهم أو عن جهل تام – لمغالطة مفادها أن “مصر حالة خاصة” لا ينطبق عليها ما ينطبق على باقي خلق الله في شتى أنحاء الأرض! أو أننا في لحظة تاريخية استثنائية (المدهش أن اللحظة لا تمر أبدًا) تستدعي ضرب عرض الحائط بكل المعايير والقوانين التي ثبت نجاحها في الدول الأخرى الغنية والفقيرة، المتقدمة والمتخلفة كافة، وكأننا مخلوقات غريبة عجيبة عجنت من طينة العفريت!! إن خرافة “مصر حالة خاصة” سلاح يتم اشهاره لإخراس صوت العقل، ولتبرير أي قرار لا يتفق مع المعمول به بنجاح بشتى بلاد العالم.

يقول كينز الاقتصادي الإنجليزي الكبير، أحد أكثر الاقتصاديين نفوذًا في القرن العشرين: “إن الصعوبة لا تكمن في تطوير أفكار جديدة بقدر ما تكمن في الهروب من الأفكار القديمة”. فالهروب، يقينًا، بأسرع ما يمكن من الأفكار القديمة والممارسات والتطبيقات البالية هو باب النجاة الوحيد من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر.
فلا تنتظروا خلاصًا دون ذلك.

إن الجنون الاقتصادي على حد تعريف لاري كادلو المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض في عهد ترامب، هو القيام بالشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتائج مختلفة، بينما النتائج لا تتغير أبدًا على أرض الواقع (بل تزداد سوءًا في مصرنا الحبيبة يومًا بعد يوم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *