جمال عبدالقادر يكتب: ما تيسر من سيرة مصر في السينما.. كيف سقطت وكيف انتفضت

المسافة بين مقعد المتفرج وشاشة السينما قصيرة جدا، تتلاشى هذه المسافة مع أول ضوء يخرج من الشاشة حيث يدخل المتفرج إلى عالم شخصيات العمل، يعيش معهم ومع تفاصيلهم، يشاركهم مشاعرهم وأحاسيسهم وأوجاعهم، وعلى قدر مصداقية صُناع العمل تختفي هذه المسافة ويُصبح المتفرج جزءا من العمل حتى أنه يتوحد مع أبطال العمل يشاركهم أزماتهم وقضاياهم، ينتصر لهم وينهزم معهم.

ومع التغيرات السياسية والإجتماعية التي طرأت على المجتمع المصري كانت السينما حاضرة بكل قوة، نرصد وتحلل، تتنبأ وتكشف ما حدث وما قد يحدث من أحداث وقضايا، واختلفت طرق و رؤى كل مُبدع في التعامل مع هذه القضايا، حيث لجا البعض لإستخدام الرموز والإسقاطات لتوضيح وجهة نظره ورؤيته فيما يتناول من أحداث سياسية وإجتماعية او هربا من مقص الرقيب الذي كان حادا في أغلب الاحيان ومعاديا للإبداع في احيانا أخرى، وظهرت مصر رمزا في عدد من الأعمال الفنية على شكل سيدة جميلة ضعيفه وديعه مطمع الاوغاد واللصوص، وعلى قدر ضعفها وما يبدو عليها من قلة حيلة تجدها في منتهى الذكاء تنتصر في النهاية على مغتصبها وسارقها.

الزوجة الثانية – أكتوبر 1967

احتل المرتبة الـ 16 في قائمة افضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، تأليف محمد مصطفى سامي واحمد رشدي صالح والإخراج لـ صلاح ابو سيف، تدور الأحداث حول عتمان العمدة الفاسد الذي لا يتورع في أن يأخذ قفص طيور من احدى الفلاحات ويختلس النظر لـ فاطمة وهي تجلس على الترعة، يعيش عتمان وحفيظة حياة الحرمان رغم ثروتهم الكبيرة التي جمعوها من نهب وسرقة البسطاء بسبب عدم إنجابهم للأطفال، يطمع عتمان في فاطمة الجميلة الفقيرة المتزوجة من ابو العلا الفلاح الفقير البسيط، عتمان يريد الإنجاب ولم يجد حلا إلى تطليق فاطمة من ابو العلا و الزواج منها حتى ينجب وعندما رفض ابو العلا لفق له تمهة السرقة لمساومته على الطلاق، يقف عتمان امام ابو العلا مستندا على دعائم حكمه رجل الدين الفاسد الذي يبرر له كل ظلم وكل فساد والقوة العسكرية متمثلة في الغفر بالسلاح، وضع ابو سيف الكاميرا في وضع منخفض ليظهر عتمان ومعه رجاله في وضع قوة وكأنهم عمالقة في نظر ابو العلا الضعيف حتى يخضع ويستسلم للإبتزاز، وبعد أن يشعر عتمان بالانتصار وان فاطمة اصبحت ملكه، يكتشف أن فاطمة هي الأقوى وانه لم يستطع النيل منها بل استخدمت الحيلة والمكر حتى انتصرت عليه في النهاية وسار في القرية مهزوما شاردا وظهر في خلفية الكادر كلمة “الحق احق أن يُتبع” وهي النهاية الطبيعية لكل فاسد وظالم إذا ما أرادت فاطمة وكل فاطمة أن تنتصر، رمز ابوسيف لمصر بفاطمة الجميلة التي يطمع فيها الحاكم الفاسد وتعمد تغييب الزمان والمكان لانها قصة حدثت وتحدث وسوف تحدث، كما وضع في بعض المشاهد أرقام 67، 54 على غطاء رأس الغفر في رمزية للسلطة ورجالها.

شيء من الخوف – فبراير 1969

احتل المركز الـ 19 في قائمة افضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، القصة لـ ثروت أباظه، السيناريو والحوار لـ صبري عزت والإخراج لـ حسين كمال، تدور الأحداث في قرية الدهاشنه، حيث عتريس الذي يمارس السلب والسرقة والقتل في أهل القرية، لكنه يحب فؤادة جميلة القرية منذ الصغر ويقرر الزواج منها، فؤادة ترفض ويخشى الاب ورجال القرية من إبلاغ عتريس بالرفض ويقررا تزويجها املين أن تخضع، لكنها تستمر في الرفض وتخيره بأن الزواج باطل، يقرر عتريس الإنتقام من ابيها والشهود والمأذون، يشيع الخبر في القرية ويبدا الشيخ ابراهيم في إعلان رفضه لهذه الزيجة، يتم إغراق ارضه وقتل ابنه حتى يصمت لكنه يستمر في الرفض ويعلنها “حقوقنا احنا احرار فيها لكن حق ربنا لأ”، يحمل جثمان ابنه ويطوف القرية معلنا بطلان زواج عتريس من فؤادة، حيث يقود ثورة شعبية ضد عتريس يتجمع اهل القرية خلفه بعد أن ضاقوا من السلب والنهب الذي انتهجه عتريس ورجاله، يصلا إلى بيت عتريس الذي سجن فيه فؤادة التي تطل من الشباك على اهل القرية وجثمان محمود والحزن يقتلها، عتريس يطلب من رجاله قتل كل اهل القرية حتى تخمد الثورة في مهدها، لكن رجاله هربوا خوفا من غضب الناس، استخدم حسين كمال حديد الشباك رمزا لتحول البيت إلى سجن كل منهم له سجنه الخاص فؤادة في سجن عتريس، وعتريس في سجن عجزه وغباءه الذي أوصله إلى هذا المصير، يحرق اهل القرية البيت بداخله عتريس وتخرج فؤاد لتنضم لجموع الناس وتقبل جثمان محمود شهيد كلمة الحق، انتصرت فؤادة ومعها اهل القرية لانهم أمنوا بحقهم في الحياة بكرامة وشرف.

فؤادة هي الرمز، اللبس فلاحي والماكياج فرعوني، استخدمها حسين كمال ليرمزلها بمصر التي اغتصبها الديكتاتور وتم تغييب الزمان والمكان لانها ايضا تصلح لكل زمان وكل مكان

تعرض الفيلم للمنع حيث فطنت الرقابة إلا أن عتريس هو السلطة في هذا الوقت وفؤادة هي مصر المخطوفة، وصرح بعرضه جمال عبد الناصر بكل ذكاء لينفي عن نفسه تهمة أنه هو المقصود بعتريس.

ميرامار- اكتوبر 1969

احتل الفيلم المركز الـ 29 في قائمة افضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، القصة لـ نجيب محفوظ، السيناريو والحوار لـ ممدوح الليثي، والإخراج لـ كمال الشيخ، تدور الأحداث حول زهرة الفتاة الفقيرة التي هربت من قريتها بعد ان قررت اسرتها تزويجها من ثري عجوز، تعمل بأحد الفنادق الصغيرة في الاسكندرية وتقابل عددا من النماذج المختلفة، طلبه مرزوق الإقطاعي الذي اصبح فقيرا بعد تأميم ثروته، وعامر وجدي الكاتب والمثقف المتقاعد، منصور الباهي الشاب الثوري المناضل الذي هرب من مطاردة الشرطة له، وحسني علام من الأعيان ولا عمل له سوى مطاردة الساقطات، واخيرا سرحان البحيري عضو الاتحاد الاشتراكي والذي تقع زهرة في حبه يعد أن وعدها بالزواج لتكتشف انه يخدعها وبدأ في مغازلة مُدرسة وطلبها للزواج كما تكتشف انه مخلتس ولص، يحاول الشاب الثوري ان يقف معها يعلمها القراءة والكتابة كما استعد لقتل سرحان البحيري الفاسد لكنه قُتل على يد شركاءه في السرقة.

زهرة هي مصر الفقيرة الجميلة الطبية مطمع كل الرجال وثقت في أحدهم ومنحته الفرصة لكنه خان الامانة واكتشفت خداعه وفساده، تعرض الفيلم لحذف عددا من المشاهد بسبب انتقاد هذا العصر وايضا تهكم وسب للاتحاد الاشتراكي على لسان احدي الشخصيات ” طلبه مرزوق”  لتقرر بعدها زهرة أن تخرج من هذا المكان لتجد محمود ابو العباس بائع الجرائد الذي طلبها للزواج في البداية ورفضته لانها كانت تحب سرحان البحري، تقرر زهرة البدء من جديد مع محمود

غرباء – ابريل 1973

واحد من أهم افلام السينما المصرية والذي لم ينل حقه في التقييم الفني المستحق من النقاد او الجمهور، التأليف لـ رأفت الميهي والإخراج لـ سعد عرفه، تدور الأحداث حول نادية الطالبة الجامعية الطموحه الجميلة، تعمل بأحد الفنادق بجوار دراستها، في حياتها ثلاث رجال مختلفين تماما، أحمد الاخ الأكبر خريج الجامعه العاطل والذي لجأ للتشدد والتطرف هربا من ازمتة النفسية والإجتماعية، رفض عملها بالفنادق وطريقة لبسها وخروجها ليلا للعمل وانطلاقها في الحياة، وفؤاد عبيد الاستاذ الجامعي الملحد الذي لا يعترف بالاديان ولا بمنظومة الاخلاق، يعترف بالعلم فقط وبقيمته واهيمتة في الحياة وامامه لا قيمة لاي شيء، واخيرا حبيبها الوجودي الذي لا يؤمن بأي شيء سوى ان الحياة خُلقت للمتعه فقط الحب والسهر والجنس ولا شيء اخر، يحاول كل منهم اقناع نادية بفكره وجذبها ناحيته، تظل نادية في صراع داخلي بينهم الثلاثة حتى تقرر الابتعاد عنهم وتبحث عن طريق اخر مبرره ذلك بأنهم الثلاثة على خطأ وبالتأكيد هناك طريق رابع فيه الخلاص والحل.

هناك اعمال اخرى كثيرة تم فيها الرمز لمصر لتوضيح ازمة المجتمع المصري في زمن احداث الفيلم، وفي كل الأعمال ظهرت مصر الجميلة البسيطة المرغوبة من كل الرجال، والتي يغتصبها الديكتاتور، وتستطيع بمكرها وذكاءها الانتصار على هذا الظالم والاحتماء بالناس الذين ظنوا أن النصر صعب والخلاص مستحيل، لكن في لحظة ما، لحظة فاصلة انتصر الجميع على الظالم عندما ارادوا وقرروا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *