الحرب الإمبريالية على غزة محاولة للفهم والحوار: عن خطورة طوفان الأقصى وأسطورة الجيش الذي لا يقهر والمشروعات الوهمية للكيان الصهيوني

بقلم / د. محمد نعمان نوفل

ردود الأفعال الغربية المتصلبة إلى جوار الموقف الإسرائيلي البربري والمتوحش تستدعي الكثير من التساؤلات، خاصة وأن رد الفعل الإسرائيلي قد فاق في عنفه وقسوته كل المواجهات العربية السابقة مع الكيان الصهيوني، ربما لا يدانيه غير الأعمال الوحشية التي قامت بها العصابات الصهيونية عام 1948 عام النكبة. إن الهدف المعلن للجريمة الحالية ينطوي علي نكبة جديدة للوجود الفلسطيني والمزيد من القمع الإمبريالي للمنطقة العربية.

موقف النظم العربية المتخاذل من هذه المجزرة لا يختلف عن موقفها عام 48 غير في بعض التفاصيل، فيما يعكس الموافقة الضمنية على قمع وسحق الشعب الفلسطيني والخضوع للابتزاز الإمبريالي. في نفس الوقت نجد صورة التحالف الغربي الداعم لإسرائيل هي نفسها عام النكبة، الاختلاف في كيفية الإعلان عن مواقف التأييد التي ظهرت أكثر وضوحا وإصرارا في مشروع النكبة الحالية عما كان عليه الوضع عام 1948.

مقاربة للفهم:

ــــــــــــــــــ

إن مفتاح فهم ما حدث منذ يوم 7 أكتوبر 2023 نجده قريبا في تداعياته الاستراتيجية مع الموقف الغربي والعربي من غزو صدام حسين للكويت فجر 2 أغسطس عام 1990.

رد الفعل السريع الأمريكي البريطاني كان حاسما في الإدانة والحشد لتصفية العدوان العراقي. لم يتردد متخذي القرار في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الضرب بقوة وحسم وحشد 32 دولة لتحرير الكويت، في نفس الوقت تكاتفت أغلب النظم العربية في دعم التدخل العسكري الغربي من أجل التحرير وكانت المفارقة أن هذا الدعم حدث  في إطار جامعة الدول العربية.

لم يشفع لصدام حسين (كما نعتقد) أنه أدار حربا ضروسا لمدة ثمانية سنوات ضد نظام الثورة الإيرانية الوليد لصالح المعسكر الغربي من أجل كسر شوكة النظام الجديد في إيران وتدجينه أو هزيمته. لم يشفع لصدام أنه نصب نفسه حاميا للبوابة الشرقية للمنطقة العربية. لقد انتهك صدام حسين بتدخله في الكويت منظومة تحالف استراتيجي استعماري عمره مائة عام أو يزيد، تحالف يعد واحدا من أهم مرتكزات التواجد الإمبريالي في العالم، تضمن القوي الإمبريالية من خلاله مصادر الطاقة وعوائد ثروات الطاقة أيضا، وهو تحالف مستقر منذ عقود ضمنت لدويلات صغيرة ثرية مثل الكويت والبحرين وقطر أن تعيش في استقرار ضامن لتدفق ثرواتها نحو الخزائن الغربية بلا منغصات، كما ضمن انسياب مصادر الطاقة الرخيصة (حتى لو اختلفوا أحيانا على الأسعار) إلى الاقتصادات الغربية بلا شروط، فضلا عما يحققه الموقع المتوسط للمنطقة العربية من دعم استراتيجي لمن يتحكم فيها في موازين القوى العالمية.

لقد هدد تدخل الجيش العراقي هذا التحالف الاستراتيجي بما ينذر بفتح المجال نحو تغيرات استراتيجية أكثر عمقا في المنطقة العربية، وهذا بالطبع لا تسمح به المصالح الإمبريالية المسيطرة على المنطقة.

خطورة طوفان الأقصى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023 كان في التحليل الأخير ضربه واضحة وقوية لواحدة من أهم مرتكزات الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية ليس فقط في المنطقة العربية ولكن على الصعيد العالمي. إن إسرائيل ليست مجرد دولة محتلة لأرض فلسطين في الخريطة الاستراتيجية الأمريكية، ولكنها حليف يقوم بكل الأدوار القذرة التي يستدعيها الوجود الإمبريالي الأمريكي والغربي على العموم. إن ما تعجز القوى الإمبريالية عن فعله من أدوار قذرة في العالم، مثل حماية حكام خونة، وتهريب ثروات، وإنتاج أسلحة محرمة، وتهديد استقرار نظم مناوئه، قد لا تستطيع الدول الاستعمارية الكبرى القيام به صراحة بسبب ضغوط دولية أو محلية، أو حفاظا على سمعة دولية زائفة. هذه الأعمال القذرة يقوم بها الكيان الصهيوني في ظل الحماية الدولية الذي تضفيه عليه القوى الإمبريالية الكبرى، كما تحمية الأساطير الدينية والشعبوية للمظلومية اليهودية

الوجه القذر لللإمبريالية:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القراءة الاستراتيجية للامكانيات العسكرية والتكنولوجية والانتشار السياسي والدبلوماسي العالمي لهذا الكيان العنصري توضح خطورة الدور الاستراتيجي الذي تلعبه إسرائيل على خريطة الإمبريالية الأمريكية وحلفاءها. القدرات النووية الإسرائيلية لا تعدو أن تكون مخزن متقدم للسلاح النووي الأمريكي فضلا عن إنجاز التجارب النووية القذرة في مفاعلها النووي في ديمونة (أول تصنيع للقنبلة النووية القذرة تم في إسرائيل). منتجات الحرب البيولوجية تتم على أرض هذا الكيان العنصري، نفس الشيء كان يحدث في أوكرانيا وهو ما يفسر الرابطة العضوية التي ظهرت بين النظام الفاشي في أوكرانيا وبين إسرائيل. زد على ذلك الأدوار المشبوهة للموساد الإسرائيلي في عمليات تهريب المخدرات لتمويل بعض حركات التمرد لصالح الولايات المتحدة ( فضيحة تهريب المخدرات والأسلحة ضد النظام اليساري في نيكارجوا شاهد على ذلك كمثال) فضلا عن رعاية الحروب الأهلية في إفريقيا وتمويلها من خلال شبكات تهريب الذهب والماس (تعد إسرائيل أكبر مركز للماس المهرب في العالم).

مناقشة أي عمل إنقلابي، أومجزرة مروعة أو حرب أهلية أو إشعال الفوضي في بلد ما، تتم لخدمة المصالح الإمبريالية الغربية لابد أن تجد للموساد الإسرائيلي يد فيها. في نفس الوقت تحظى إسرائيل بحماية دولية قوية جدا، فمنشآتها النووية لا تخضع للتفتيش، وجرائمها في أي مكان في العالم لا يسلط عليها ضوء، ولم نسمع يوما أن تم تقديم أحد عملائها لمحاكمة، أو تعرض تدخلها غير القانوني أو الانقلابي لأي نقد على الصعيد العالمي. هذه الحماية المطلقة هي في واقع الحال حماية للوجة غير الأخلاقي للاستغلال الإمبريالي، هو حماية للوجه الحقيقي للإمبريالية العالمية، أدواره تؤديها الأصابع الصهيونية. من هنا تظهر الأهمية الحيوية لإسرائيل في المنظومة الإمبريالية العالمية، ومن هنا يكمننا تفسير التماسك الغربي القوي في دعم وحماية أعمالها البربرية والوحشية في غزة. أمام النتائج البشعة شديدة الدموية للعدوان على السكان الآمنين في غزة لم تلاقي إسرائيل غير نقد لطيف ورقيق، ولم يحاول أي من حلفاءها الضغط الصريح عليها أو إجبارها على وقف عدوانها البربري، لأنهم يشاركون العدوان الصيوني نفس الهدف، وهو هدف تصفية من يجرؤ على مواجهة الطغيان الإسرائيلي، لأنه في نفس الوقت مواجهة لأحد أهم مرتكزات الطغيان الإمبريالي في العالم.

أسطورة الجيش الذي لا يقهر:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدعم الوجود العدواني للدولة الصهيونية أسطورة أخرى لحزمة الأساطير المؤسسة للدولة العبرية خلافا لأسطورة أرض الميعاد التوراتية، ابتدعت إسرائيل “أسطورة الجيش الذي لا يقهر” وعاشت في ظل هذه الأسطورة تعربد في المنطقة العربية. في ظل هذا الوهم ومع التسليم العربي بوهم الجيش الذي لا يقهر استمرت إسرائيل في لعب دورها العدواني المتصاعد، وحكمت بذلك سلفا على نتائج المواجهات العسكرية في المنطقة. كانت الجيوش العربية تدخل المواجهة في ظل هذا الإيمان الغيبي بقدرات الجيش الذي لا يقهر، على الرغم من خبرات المقاتلين في ميادين القتال، لكن هذا الاعتقاد لدى قيادات النظم العربية لم يتزعزع. كان المقاتل المصري على أرض المعركة عام 1973 مدركا لوهم الأسطورة، والقيادة تسارع من خلف ظهر المقاتلين للاتصال بكيسينجر خوفا من غضبة الجيش الذي لا يقهر، حتى انتهى الوضع القتالي بالقبول بوقف إطلاق النار بوجود الجيش الثاني على الضفة الشرقية، ومحاصرة الجيش الثالث، وتمركز قوات إسرائيلية عند الكيلو 101 في طريق القاهرة السويس.

لقد لعبت أسطورة الجيش الذي لا يقهر دورا هاما في تقرير المواجهات المسلحة، كما ظلت وهما مسيطرا على عمليات المقاومة الفلسطينية لعقود منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. يوم 7 أكتوبر 2023 سقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وظهر عجزه الفاضح، وعلى أرض غزة تأكد وهم أسطورة هذا الجيش على أيدي شباب المقاومين يوما بعد آخر. لهذا سارعت حاملات الطائرات الأمريكية، وأرسل الحلفاء الغربيين نخبة مقاتليهم لحماية أسطورة التفوق العسكري، وقمع المقاومة الفلسطينية التي تجرأت على كشف الأسطورة.

إن المواجهة الجذرية لإسرائيل، لابد أن تشمل المصالح الإمبريالية في المنطقة وحلفاءها فهم السند الحقيقي للوجود الإمبريالي والصهيوني. وهؤلاء الحلفاء هم من سوف يضمنون لإسرائيل نصرا معنويا في هذه المواجهة بالصمت عن جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وبالتعاون لتحقيق قدر من النجاح لمشروع التهجير الفلسطيني حتى يحقق النظام الصيوني بعض من أهدافه، ومن خلال الضغط المتواصل على قيادة المقاومة سوف يسعون لتحقيق تنازلات لصالح العدو الصهيوني. إن ما تحرص عليه اليوم إسرائيل وخلفها القوى الإمبريالية والحلفاء من الأنظمة العربية، هو ترميم صورة الجيش الذي لا يقهر.

نفط وغاز وقناة وهمية:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

من حين لآخر تطل علينا مشاريع عملاقة للكيان الصهيوني، في محاولة للإيهام بالقدرات الخارقة لهذا المشروع، وعلى هذه الأسس الدعائية يبني عديد من المحللين فرضياتهم. لذا يتصور بعض المتابعين للصراع الحالي أن مبرره يكمن في توقع وجود غاز ونفط على ساحل غزة، وأن محاولة إسرائيل تهجير سكان غزة بغرض البدء في إنشاء قناة بن جوريون. لكن الواقع الراهن يقول بغير ذلك لأن الغارات الإسرائيلية الوحشية جاءت ردا على هجوم 7 أكتوبر. كان منطقيا أن يظهر مشروع تهجير سكان غزة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن كمبادرة من الحكومة اليمينة العنصرية، وقد سبق لهذا النظام العنصري أن أصدر قانونا لضمان يهودية الدولة العبرية. لذا كانت خطط التهجير متماهية مع الرد الوحشي العنيف لحكومة توراتية أساسها أحزاب الصهيونية الدينية.

أما فرضية ربط ما يحدث من الأعمال الإجرامية الحالية لتصفية السكان في غزة ودفعهم للهجرة نحو رفح وصحراء سيناء، من أجل النفط والغاز أو من أجل قناة بن جوريون، فهذه فرضيات لا تعكس واقع وخطورة المواجهة الحالية. إن إسرائيل تسيطر على ساحل غزة وبإمكانها منع الصيادين الفلسطينيين من أعمال الصيد في بحر غزة، هل يعيقها التنقيب عن النفط والغاز؟ وإذا وجد نفط أو غاز أو كلاهما، سوف تقوم شركات البترول الغربية باستخراجه وتقتسم العوائد مع إسرائيل بموجب اتفاقيات الحكم الذاتي لأن السلطة الفلسطينية ليست مستقلة ماليا عن إسرائيل.

أما الزعم بشأن قناة بن جوريون، فنحن أمام كذبة كبرى شأنها شأن مشاريع أخرى جرى الحديث عنها لمنافسة قناة السويس، منها خط النقل الهندي الإسرائيلي كمثال. الهدف الحقيقي للمشروع الهندي/ الإسرائيلي كان خلق مبرر وهمي للتطبيع بين السعودية وإسرائيل، وقد ابتلعت السعودية الطعم وبدأت خطوات التطبيع. ورغم ما أثير حول المشروع من ضجيج لم يناقش في مجلس الوزراء الإسرائيلي، ولم يناقش في الكنيست. كما لم تنشر إيه دراسات حولة ولا نعرف له تكلفة ولا مدى زمني للتنفيذ.

أما قناة بن جوريون فهي أيضا وهم. التفكير في شق قناة ملاحية لابد أن يبنى على عمق غاطس السفن المسموح به في القناة الملاحية المزمع إنشاؤها. غاطس قناة السويس يتوقف على عمق الغاطس في مضيق باب المندب لأنه المنفذ الطبيعي الحاكم لدخول السفن إلى البحر الأحمر ولخروجها منه أيضا، وبالتالي هو الغاطس المسموح به لقناة السويس. عمق الغاطس عند مضيق تيران وهو الغاطس الطبيعي الحاكم لميناء إيلات (أو مدينة أم الرشراش المصرية) نصف الغاطس عند مضيق باب المندب. عمق الغاطس محدد لحجم السفن، وبالتالي لا يمكن لمثل هذه القناة ( إن وجدت) أن تستقبل سفن من الحجم المتوسط، فهي لا يمكن أن تكون منافسا لقناة السويس بأي حال، وبذلك تفقد جدواها الاقتصادية.

المواجهة الصفرية:

ــــــــــــــــــــــــــ

دفاع الإمبريالية عن إسرائيل، دفاع عن أحد مكونات الاستراتيجية الإمبريالية في العالم، وهذا هو الحجم الحقيقي للمواجهة التي فجرتها المقاومة الفلسطينية.

 لكن خيارات المواجهة الذي تديره إسرائيل حاليا، ومن خلفها الدعم الإمبريالي الأمريكي والأوربي يعكس الجوهر الحقيقي للعدوان الصهيوني في منطقتنا، إنه التصفية العنصرية للوجود الفلسطيني ومحاولة محوه. إن ما تردد منذ أتفاق أسلو حول حل الدولتين انكشف الآن وظهرت الأهداف الحقيقية، ولم تكن وعود حل الدولتين سوى مخدر رخيص حتى الإنتهاء من تصفية القضية الفلسطينية. إن من تمسك بحل الدولتين غض بصره عن التوسع الشرس في بناء المستوطنات على الآراضي الفلسطينية، التي يصر الصهاينة على تسميتها بيهودا والسامرة، في تجاهل واضح للحق التاريخي للشعب الفلسطيني، إذن أي منطق يدعم حل الدولتين؟. إنطلاق الغارات الوحشية الإسرائيلية على غزة، وفي نفس الوقت العدوان اليومي على سكان الضفة الغربية وقتل العشرات منهم، جنبا إلى جنب قتل المئات يوميا على أرض غزة، وتعمد الإغارة على المدارس والمستشفيات ونسف التجمعات السكنية إنما يعكس الهدف الحقيقي وهو التصفية. كيف يكون هناك أساس لحل الدولتين إلى جانب الاستيلاء على الأرض لبناء المزيد من المستوطنات، والإغارات الوحشية على السكان الفلسطينيين لدفعهم إلى الهجرة خارج أراضيهم؟ أي دولة فلسطينية سوف تقوم إذن؟

لقد ظهرت بوضوح الأهداف العنصرية للدولة الصهيونية، وهو بناء الدولة اليهودية النقية على أرض فلسطين، وهو هدف مدعوم من حلفاءها الغربيين. أعتقد أنه لم يعد هناك أي وهم حول حل الدولتين.انكشاف الهدف الصهيوني بهذا الوضوح ينبغي أن يرتب أساس جديد للنضال ضد الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، أساس تحتمه خطط التصفية إلى مواجهة صفرية مع العدو الصهيوني والمصالح الإمبريالية في المنطقة وحلفاؤهم من النظم العربية المتواطئة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *