افتكروهم واكتبوا عنهم.. كارم يحيى يكتب: رسالة إلى هشام فؤاد.. وحشتني

عزيزي هشام
“وحشتني”..
اتوقف عن الكتابة كلما بدأت. واستأنف بصعوبة بعدما جاشت مشاعري، واختلطت بمرارة غيبة جاوزت 16 شهرا في زنازين ظالمة. وقد احتشدت مع مرارة العلقم هذه أسماء اصدقاء وزملاء ومعارف وأغراب بلاحصر من معتقلي وسجناء الرأي ضحايا الحبس الاحتياطي أو أحكام بلامحاكمات عادلة.و يحمل كل اسم منها علامات تعجب وقهر لاتليق بالقرن الحادي والعشرين و بتاريخ بلدنا ومعاناة أهله من أجل الحرية والكرامة والعدل في قلب العالم القديم.
بيننا عشر سنوات بالميلاد، لكنها لم تحل دون صداقة العقل والقلب والضمير، و منذ تعارفنا في سياق مهنتنا ( الصحافة ) مطلع عقد التسعينيات. صحيح أنني جئت أولا إلى هذا العالم، وقد تجاوزت اليوم الستين. لكن متى كان للصداقات فروق أعمار وأجيال. وها أنا اعترف لك مجددا ـ رفيق عمر من التفكير والعمل سويا من أجل صحافة حرة ونقابة بحق و مستقلة ـ بأنك كنت نافذتي على نضالات من لحم ودم وألم وأمل ومن واقع الميدان للعمال في بلدنا. وبتغييبك خلف أسوار السجن الظالمة التي تأكل الأعمار ثم باعتقال العامل النقابي صديقنا خليل رزق انغلقت النافذتان الأهم والأرحب بالنسبة لي، واصبحت بمثابة الأعمى.
أتذكر وأذكرك صديقي ويلح على خاطري تلك اللحظات التي أسست للصداقة والمحبة بيننا. كل هذه الذكريات تلح وتتأكد منذ تلقيت مكالمة هلعة في الثالثة فجر 25 يونيو 2019 من زوجتك ورفيقة حياتك زميلتنا الأستاذة مديحة حسين باعتقالك من البيت. كنت تأتي بتحقيقاتك الصحفية وقد كتبت عليها اسما نجهله في جريدة “مصر الفتاة” وقبل اسمك أنت. وعندما استفهمت، أسر فيض خلقك وكرمك وإيثارك لي حينها بأنه صديق يعشق الصحافة ويتمنى العمل بها، لكنه يشتغل في محطة بنزين طوال الليل ولا يجد وقتا لممارسة العمل الصحفي. وقد أردت هكذا أنت أن تساعده في أن يحجز لحلمه مكانا في مستقبل قريب. وما يثلج الصدر أن صديقك الحالم على هذا النحو أصبح اليوم من الصحفيين المحترفين المحترمين محافظا على الوفاء للصداقة.
ولأن الذكريات الحلوة قد تجر أحيانا من طرف بعيد بما يناقضها، فطالما ألح علي بعد اعتقالك في الحبس الاحتياطي المتجدد المديد وحملة التشهير التي نالتك ورفاق أعزاء فيما اطلقوا عليه قضية “خلية الأمل” هذا الذي كان يصغرنا أو ربما أصغرنا في قسم التحقيقات بالجريدة، وكنا نشجعه وهو مازال يدرس في الجامعة، وكيف اتخذ لاحقا طريق “محامي الشيطان”. وأصبح بصحيفته من أدوات أجهزة الأمن السرية في تشويه سمعتكم زورا عند اعتقالكم. ولم يرع وهو ينشر اسمك على هذا النحو بعد ساعات من اعتقالك لا زمالة ولا تاريخ رفقة عمل ولا ” عيش وملح”. وأنا على يقين بأنه يعرف كغيره بأنك لم تكن يوما ولن تكون ممن يطمحون إلى مقعد إلى جانب السلطة ـ وبخاصة سلطة على ماهي عليه الآن ـ كي يجرى اتهامك كذبا بأنك شاركت في التخطيط لتحالف يعتزم خوض انتخابات مجلس النواب !. وهذا لو افترضنا جدلا أنه قد مسنا جنونهم بالتنكر للحقوق السياسية وتجريمها .
.. هشام
يلح على الخاطر أيضا وإلى عقد التسعينيات كيف خضنا معا ـ وبامكاناتنا المادية والمالية المتواضعه واحلامنا الكبيرة ـ انتخابات مجلس نقابة الصحفيين من أجل مفهوم للعمل النقابي منحاز لملح الصحفيين ولاستقلالية المهنة ونقابتها ؟. وقبلها كيف ترأست وأدرت أنت ـ هشام الشاب ـ على نحو ديمقراطي ومبدع مجلة “صحفيو الغد” غير الدورية إنطلاقا من معركة التصدي لقانون اغتيال الصحافة 93 لسنة 1995 .وأظن وغيري أن “صحفيو الغد” ستظل علامة مهمة على نضال نقابي بين الصحفيين نأمل أن يستمر. وقد سعت الى كسر الحاجز بين مقر النقابة وبين الصحفيين داخل جدران المؤسسات الصحفية، حاملة افكارا جديدة جريئة من أجل ديمقراطية العمل النقابي واحترام المهنية . وأتذكر وغيري من الزملاء المنصفين كيف كنت حاضرا ومبادرا دوما وفي مقدمة الصفوف بين الصحفيين دفاعا عن حرية الزملاء وحقوقهم ومن كل الاتجاهات والانتماءات.
..هشام
ليس كل ما يسعي اليه المرء يدركه. ولن احدثك عما وصل اليه حال النقابة والصحافة والصحفيين اليوم وفي هذا العهد الذي وجد فيه من يسمح ويبرر ويتغاضي ويخفى ويصمت إزاء اعتقال وتغييب أفضل من فينا وملاحقتهم باتهامات عبثية تخريفية. وهي كلها اتهامات ليست إلا لتبرير اعتقال مجنون تحت مسمى “الحبس الاحتياطي “. ولعل أحلامنا كانت وظلت أكبر كثيرا من امكاناتنا وجهدنا..وواقعنا. لكننا حاولنا ..وحاولنا معا ومع اصدقاء وزملاء أعزاء آخرين.
هشام ..
بالغ القسوة أن يبحث الإنسان عن صديق مثلك ” ليفضفض”معه أو يستشيره فيتنبه كل مرة أنه مازال بعيدا نائيا مغيبا هناك محبوسا مظلوما خلف الأسوار. وكأن لا شئ يعين على تحمل قسوة السلاطين المستبدين المجانين واتباعهم ومايلحقونه من ضرر وبؤس وشقاء بحياة الملايين في هذه المنطقة المنكوبة من العالم بالتخلف والاستبداد والقهروالفساد والجهل.. وأيضا بالتواطؤ والصمت. ولذا يدرك المرء اليوم أكثر مما مضى معنى أن يكون إلى جانبك صديق كهشام يعين على تجاوز المحنة أو العثرة واستئناف الحياة. وكم مرت بنا معا محن وعثرات وعادت الحياة. ألست أنت الذي اسميت إبنتك على اسم والدتك رحمها الله ” فاطمة”، و التي مازالت ملامح وجهها الطيب وهي على فراش مرض السرطان قبل أن ترحل محفورة في ذاكرتي.
عزيزي هشام ..
أعرف أن هذه الرسالة ليس بامكانها أن تصلك الآن خلف الأسوار. فحراس النظام والسجون التي تكاثرت بطول بلادنا وعرضها ليسوا أكثر تسامحا مع الكلمات من قطع ” القلقاس ” وحبات ” العنب” وغيرها مما يمنعون عبورها في زيارات الأهل النادرة. لكني اتمسك بأن أقول لك هنا واليوم:
إحلم صديقي ..
فالأسوار لا تمنع الأحلام ولا تسجنها ..
هي لاتمنع ولاتسجن مهما ارتفعت، وطالت معها الأيام .
ولنأمل أن نظل نحلم اينما كنا .
“وحشتني”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القاهرة الإثنين 2 نوفمبر 2020
وهو بالمناسبة أو بدون مناسبة اليوم العالمي
لانهاء الافلات من العقاب من الجرائم ضد الصحفيين،
وهشام فؤاد صحفي مصري عمل بجريدة ” العربي” وبوكالة الأنباء الروسية.
ومازال محبوسا حبسا احتياطيا بسجن “طرة” جنوبي القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *