إلهامي الميرغني يكتب: مشروع موازنة 2023/2024.. التمويل بالديون وغياب التنمية (1)


المفترض أن الموازنة العامة لأي دولة هي تقديرات مالية عن سنة مقبلة من حيث إجمالي الإيرادات المتوقعة وإجمالي المصروفات المتوقعة، والمفترض أنها تعد من أسفل إلى أعلى أي من مستوى القرى والأحياء والإدارات وتصعد إلى مستوى الوزارات والمحافظات.

لكن في مصر تتعدد الموازنات حيث أن الهيئات العامة الاقتصادية وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام خارج الموازنة، كما أصبحت القوات المسلحة بكل إيراداتها ومصروفاتها خارج الموازنة بخلاف الصناديق الخاصة وشركة العاصمة الإدارية وعشرات الصناديق الخاصة التي حولت الموازنة إلى مسخ لا يعبر عن حقيقة الإيرادات والمصروفات.

ولكي نفهم ما يحدث فإن صندوق التأمين الصحي الاجتماعي الشامل الذي يطبق في بورسعيد وتخصم رسومه من كل الجمهورية حقق فائض يزيد علي 58.5 مليار جنيه حتى 2022 خارج الموازنة، وشركة العاصمة الإدارية التي حققت فائض يزيد علي 40 مليار جنيه ولكنه خارج الموازنة وبالتالي يطالب الاقتصاديين من اليمين واليسار بضرورة الالتزام بمعايير إعداد الموازنة المتبع في كل دول العالم وفي القلب منه وحدة الموازنة لكي تعبر عن الإيرادات والمصروفات الحقيقية للدولة المصرية. لأنه في الدول الديمقراطية لا يوجد شئ اسمه “فلوس على جنب” بل كل الأموال تصب في موازنة واحدة تخص الشعب كله “مش عِزب وأبعديات بعيدة عن الرقابة”. لذلك تصبح الموارد المحصلة أقل من الاستخدمات المتوقعة ويتزايد العجز.

معروف أن الضرائب التصاعدية أكثر عدالة من الأنظمة المغلقة، وأن النظام الضريبي المصري يضع حدًا أعلى للضرائب على دخول الأفراد 25% وحدًا أعلى لضرائب الشركات 22.5%. لذلك نجد في ضرائب الدخل أن كل من يزيد دخله السنوي على 400 ألف جنيه أي حوالي 33 ألف شهرياً يخضع لنفس سعر الضريبة فيتساوي من يبلغ دخله 400 ألف ومن يبلغ دخله 4 مليون أو 40 مليون أو 400 مليون كلهم يدفعون نفس سعر الضريبة. وفي أعقاب ثورة يناير كانت قضية الضرائب التصاعدية على رأس قضايا العدالة الاجتماعية التي طرحت ولكن مقاومة الرأسمالية المصرية وأدت هذه الفكرة في مهدها.

توجد دراسة منشورة على مدونة صندوق النقد الدولي في يوليو 2022 بعنوان “الشرق الأوسط في حاجة إلى ضرائب أكثر عدالة للمساعدة على تحقيق النمو والحد من عدم المساواة”، زيادة تصاعدية الضرائب وتقليل الإعفاءات سيساعدان الحكومات على تلبية أولويات الإنفاق العاجلة وجعل المجتمعات أكثر عدالة. إن لبلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تاريخا طويلا من استخدام الضرائب لتنمية اقتصاداتها وتعزيز الإدماج الاجتماعي. تتحدث دراسة صندوق النقد الدولي حول النظام الضريبي المصري فهو أقدم نظام ضريبي في العالم وأنه توجد أهمية للضرائب التصاعدية وهو نفس الهدف الذي يدعو له صندوق النقد منذ عام 2015 في دراسته عن العدالة الضريبية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد. مجلة “آفاق اقتصادية معاصرة” الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء في عدد مايو 2021 المخصص للسياسات الضريبية نشر دراسة للدكتورة إسراء عادل الحسيني الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جاء فيها: “ومما لا شك فيه، أن الضرائب التصاعدية هي الأكثر ملاءمة لأغراض تحقيق العدالة في توزيع العبء الضريبي بين الأفراد في المجتمع؛ نظرًا لأنها تضمن أن الأفراد الأعلى دخلاً وبالتالي الأكثر قدرة على دفع الضريبة، يخضعون لمعدل أعلى للضريبة مقارنة بنظرائهم الأقل دخلاً. أما الضرائب ذات المعدل الثابت، فعلى الرغم من أنه يبدو في ظاهرها أنها تحقق مبدأ العدالة بإخضاع الجميع لذات المعدل، وبالتالي تضمن أن تكون قيمة الفاتورة الضريبية للفئات الأعلى دخلاً (أو الأكثر قدرة على دفع الضريبة) أعلى من تلك الخاصة بالفئات ذات الدخل الأقل، فإن تلك الضرائب في جوهرها تتعارض مع فكرة العدالة الرأسية في توزيع العبء الضريبي، والتي تقتضي تحقيق قدر من التفاوت في معدل الضريبة ذاته وفقًا للتفاوت في القدرة على الدفع”.

لكن في ظل غياب التنمية وضعف الإنتاجية وتدهور الزراعة والصناعة وبيع الشركات والموارد ذات الربحية يتفاقم العجز ولا تتوافر الموارد اللازمة لتغطية الإنفاق الحكومي ويتم تغطية الفرق بالإستدانة التي أصبحت كارثة متفاقمة في المالية العامة المصرية خاصة منذ 2014 حيث أصبح الاعتماد الرئيسي في تمويل الانفاق على الديون والمنح. وإذا نظرنا إلى الأقساط والفوائد المستحقة والتي توقعتها الحكومة في موازنة 2023/2024 نجد الآتي:

1- فوائد الديون

لو تأملنا رقم الفوائد واهميته مقارنة بباقي البنود نجدها بلغت في موازنة 2010/2011 ما يقرب من 85.1 مليار جنيه وارتفعت إلى 193 مليار في 2014/2015 وإلى 568.4 مليار جنيه في 2019/2020 ولكن مع استمرار نفس السياسات التي تسمى “المنجزات” وتسمى “نتائج الإصلاح الاقتصادي” و”تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي” قفزت الفوائد في موازنة 2023/2024 للتجاوز التريليون جنيه وبقيمة تصل إلى 1,120 مليار جنيه أو 1.1 تريليون جنيه.

ارتفعت أهمية الفوائد إلى مصروفات الموازنة التي تشمل الأجور والمشتريات والدعم والاستثمارات من 26.3% في موازنة 2014/2015 إلى 37.4 % من المصروفات في مشروع موازنة 2023/2024 وبسبب انفلات الديون وعدم عرض غالبيتها على مجلس النواب وغياب الشفافية في أغلبها.

2- أقساط الديون

تشكل الأقساط عبئا آخر على الموازنة ولكنها الحل الأسهل للحكومة لتوفير واستكمال العجز في الإنفاق وتغطية مختلف بنود المصروفات وقد ارتفعت قيمتها من 236.5 مليار جنيه في موازنة 2014/2015 إلى 455.5 مليار جنيه في موازنة 2019/2020 ونتيجة الإنفاق السفيه على أكبر مسجد و أكبر كنيسة وأعلى برج وأطول كوبري معلق وصلت الأقساط إلى 1,315.9 مليار جنيه في 2023/2024. نتيجة عدم توجيه القروض لمشروعات إنتاجية في الزراعة والصناعة توفر فرص عمل وقيمة مضافة وسلع نحتاجها وتخفض الواردات وتزيد الصادرات ونتيجة الاعتماد على التنمية بالمول والكمبوند تجاوزت الأقساط 1.3 تريليون جنيه ولازلنا مستمرين في نفس السياسات.

3- إجمالي الفوائد والأقساط

قفزت جملة الأقساط والفوائد من 480.1 مليار جنيه في موازنة 2014/2015 تشكل 48.8% من إجمالي استخدامات الموازنة إلى 2,436 مليار جنيه أي 2.4 تريليون جنيه في 2023/2024 تمثل 56% من استخدمات الموازنة بينما لا يتبقى لباقي بنود الاستخدام سوى 44% فقط.

الفوائد + الأقساط = 81.4% من إجمالي المصروفات، 20.6% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، 113.7% من إجمالي ايرادات الموازنة (الضرائب + المنح+الإيرادات الأخري ). أي أن السياسة المالية تعتمد على التمويل بالديون التي يتحمل أعبائها الجيل الحالي من خلال شروط القروض والأجيال القادمة التي سيطلب منها سداد الأقساط.  

لذلك تضاعف العجز الكلي في الموازنة عدة مرات بفعل هذه الديون من 279.4 مليار في 2014 إلي 824.4 مليار جنيه في الموازنة الجديدة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نستمر في الحصول على قروض جديدة لتغطية فجوة الموارد قدرت في مشروع الموازنة الجديدة بحوالي 2,140 مليار جنيه أي 2.1 تريليون جنيه ديون جديدة متوقعة في العام الجديد.

4- أسباب الأزمة

غياب رؤية للتنمية وإهمال القطاع الزراعي والقطاع الصناعي وبيع الأصول والاعتماد على قطاع التشييد والبناء لترتفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 15% عام 2014 إلى 19% في 2021/2022 وقطاع تجارة الجملة والتجزئة من 13% الي 14% بينما لم ينمو قطاع الزراعة والصيد والغابات إلا من 11% إلى 12% بينما ظلت مساهمة قطاع الصناعة التحويلة بدون تكرير البترول ثابت عند 17% من 2014/2015 وحتى 2021/2022.

قادت هذه السياسات إلى تفاقم عجزي الميزان التجاري وميزان المدفوعات حيث ارتفع عجز الميزان التجاري من 39 مليار دولار في 2014/2015 إلى 43.4 مليار دولار في 2021/2022، رغم زيادة الصادرات من 22.2 مليار دولار إلى 43.9 مليار دولار وربما ترجع غالبية الزيادة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار خلال هذه الفترة من 7 جنيه في 2014 إلى ما بين 15-20 جنيه في 2021 ، 2022 أكثر من زيادة كمية الصادرات ونفس الأمر ينطبق على الورادات. كما ارتفعت قيمة الواردات من 61.3 مليار دولار إلى 87.3 مليار دولار مما أدى إلى استمرار العجز.

كذلك لا يوجد نمو مناسب في الإيرادات الضريبية والتي كانت تمثل 31.1% من الموارد في 2014/2015 ووصلت إلى 35% في مشروع الموازنة الجديدة وهو ما يعني الاعتماد على 65% من تمويل الموازنة على موارد غير ضريبية.

لذلك يشكل فخ الاستدانة أحد أهم التحديات التي تواجه مصر حاليًا ولابد من وضع خطة للخروج من فخ الاستدانة يتمثل في :

أ- التأكيد على مبدأ وحدة الموازنة وضم كل الصناديق والحسابات الخاصة إلى الموازنة لتكون موازنة مصرية موحدة تعبر عن كل الإيرادات والمصروفات وليست دويلات مستقلة وحسابات عامة مخفية ولا يعلم عنها الشعب شئ.

ب- إعادة الاهتمام للقطاعات السلعية في الزراعة والصناعة وجذب الاستثمار الخاص والأجنبي بما يساهم في توفير فرص عمل وقيمة مضافة وزيادة الصادرات وتخفيف العبء عن الجنيه المصري. ويتطلب ذلك أهمية تذليل المشاكل والعقبات التي تواجه الزراعة المصرية وإعادة تشغيل المصانع المتوقفة والطاقات العاطلة.

ج- وقف بيع الأصول والشركات المصرية فهي مورد للموازنة المصرية لا يجب التفريط فيه.

د- زيادة الاعتماد على التمويل الضريبي وتحقيق عدالة ضريبية من خلال فرض ضرائب تصاعدية ورفع أسعار الضريبة على الدخل وتغيير هيكل النظام الضريبي من الاعتماد على الضرائب غير المباشرة إلى الاعتماد على الضرائب المباشرة.

هـ- الحرص على زيادة الصادرات زيادة حقيقية في الكميات المصدرة وبالجودة المناسبة للأسواق الدولية وليست الزيادة العائدة لسعر صرف الجنيه بنفس الكميات أو بكميات أقل.

و- وضع قيود وضوابط على الواردات غير الضرورية.

ز- زيادة الإنتاج والإيرادات يساهم في رفع معدلات الإدخار المحلي.

بذلك يمكننا الخروج من فخ المديونية إلى رحابة التنمية المستدامة التي تراعي احتياجات المواطنين وتدعم الصادرات وتخفض الواردات وتزيد الموارد الحقيقية للدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *