د. حنان طنطاوي تكتب: حوار علاء عبد الفتاح مع جارتي التي لا تحبه (ردود على أسئلة صعبة)

تزورني جارتي في وقت مستقطع من الزمن، فيؤرقها شحوب وجهي وغيم البكاء في مقلتيّ. تسألني عن السبب، أجبتها: قلقة على حال علاء عبد الفتاح الذي يحارب بجسده وحده  من أجل استرداد حريته وحرية كل معتقلي الرأي وتحسين ظروف اعتقالهم.
قالت لي مستنكرة: مش علاء عبد الفتاح ده اللي خد الجنسية البريطانية وبيستقوي بالخارج علينا؟! نتعاطف ليه بقى معاه ما هو اللي جابه لنفسه؟ هو وعيلته اللي عاملين قلق في كل حتة!
غضبت منها لدرجة التفكير في إخراجها من بيتي؛ لم استطع التسامح مع حجم التبلد والتجاهل فيما تفوهت به، متعامية/ مُعمَّاة عن كل الحقائق والوقائع التي مرت بعلاء عبد الفتاح ووالدته دكتورة ليلي سويف وأختَيه سناء سيف ومنى سيف.  
منعني من ذلك حضور علاء بيننا، لا أدري كيف أصف حضوره، هل كان رمزيًا أو ماديًا؟ هل كانت صورة من الخيال؟ أو تراها من الذاكرة؟ أم أنها نبوءة من المستقبل؟! لا أعلم. ما أعرفه أنه حاضر هنا والآن. أشار لي أن أتركه هو ليرد عليها. أراحتني ابتسامته الراضية برغم نحول جسده، وبريق نور لم ينطفئ في عينيه برغم ذبولهما!
فزعت جارتي من ظهور علاء المباغت؛ قالت بهلع: إيه ده شبح ولا إيه؟! إنت مين؟!
فأجاب علاء بابتسامة تلوُّح بشيء من اليأس المُحفِز؛ بتلك اللامبالاة التي تجدد الاكتراث وتشحن الطاقات بعد تثبيطها وهدنتها:

(أنا السم أنا الترياق
أنا الدواء أنا أصل الداء
أنا… أنا… أنا
أنا شبح الربيع اللي فات
أنا اللي بالدم عينه اتغسلت
أنا اللي بالدموع ايده اتلطخت
أنا… أنا… أنا
أنا شبح الربيع اللي فات
متلومش اللي انتهى و مات
اللوم على ضحك البنات
لظهوري
ولو في اضغاث احلام
أنا… أنا… أنا
مجرد شبح
ربيعه فات)1

لم ترحني إجابة علاء وما بدا فيها من انسحاب -حتى وإن كان مرحليًا- فاستعرتُ ما قالته له سابقًا أديبتي الحبيبة منجبة تميم وملهمة مريد؛ الأستاذة رضوى عاشور:
(يا علاء.. خد بالك من نفسك.. إنت مهم جدًا بالنسبة لنا.. لما تكون بخير بتدينا قوة.. ودي يمكن مفارقة.. كأننا حتى وإحنا مش محبوسين وإنت المحبوس بنعتمد عليك.. آسفة.. بس ده الحقيقي)2
ثم ذكّرته بما يقوله عنه –عن علاء عبد الفتاح- صديقه الصحفي والكاتب الاستثنائي محمد أبو الغيط:
(سبق أن وصف نفسه مراراً أنه “جندي مشاة بالثورة”، لم يكن في أي لحظة عضوًا قيادياً في حزب أو حملة سياسية، ولطالما التقيته في مظاهرات يمشي بها كواحد منها، لا يقود الهتاف ولا يصعد على الأكتاف. حافظ على التعامل مع حسابه على “تويتر” باعتباره حساباً شخصيًا اعتيادياً يكتب فيه ما يخطر بباله لحظيا من جد ومزاح.
لكن جندي المشاة الذي تتوه ملامحه المشابهة لمليون جندي آخر، قد يتحول في لحظة واحدة بطلًا فريداً، يتقدم في الطليعة، ويلقي بنفسه على الألغام ليفتح الطريق لمن خلفه. هكذا فعل علاء عدة مرات، كما حدث حين قرر العودة من خارج مصر وتسليم نفسه للقضاء العسكري بعد أحداث ماسبيرو، ثم رفض التحقيق معه رغم علمه بأنه على الأرجح كان سيُفرج عنه لو تجاوب مع المحققين، لكنه قرر أن يقدم نفسه فداءً لعله يعطّل ماكينة المحاكمات العسكرية للمدنيين، وكان ثمن ذلك حرمانه من حضور مولد طفله، لتتكرر نفس المأساة الأسرية التي مر بها والده، حين حجبه السجن عن حضور ولادة شقيقته منى.
هنا هو علاء الفراشة، لا التنين أو الشبح، يطير نحو ضوء الحق حتى لو كان سيحرقه. “وللفراشات اجتهادي” كما يقول درويش على لسان أحمد العربي.)2

بدا على جارتي بعض التأثر المشوب بالتوتر، لكنها– وكأنها تُغَشِّي إحساسًا بالذنب يتسربُ إليها- سُرعان ما قالت بنبرة حادة:
-طيب وهو ماله ومال أحداث ماسبيرو ويحرض ليه الناس على بلدهم وعلى جيشها؟!
يجيبها علاء بصوت قوي لم يتخلَّ عن الشجن والرحمة:
(يومان قضيناهما في المشرحة، يومان مع جثامين تناضل للاحتفاظ بلقب شهيد، تناضل ضد نظام مبارك كله؛ ليس فقط عسكر مبارك الذين دهسهم، ولا إعلام مبارك الذي سحب منهم لقب شهيد ونعتهم بالقتلة، ولا نيابة مبارك التي تملصت من البحث عن حقهم، بل ناضلت الجثامين لتحتفظ ببهاء يليق بالشهادة في مشرحة مستشفى حكومي فقير منعدم الإمكانيات.

ناضلت ضد خرافات عصر مبارك القائلة إن التشريح تمثيل بحرمة الميت لا انتصارا لحقه، ناضلت ضد سطوة فقهاء وقساوسة السلطان القائلين إن الباحث عن العدالة في الحياة الدنيا.
وكأنما تخلى عنها فى الآخرة، ناضلت ضد طائفية مبارك التى تجعل فقير يرى فى فقير مثله عداوة ليلتهى عمن سرق لقمة عيشهما.
يومان برفقة موت رحيم وخجل لا يرحم، لماذا يا ربي أغلب شهدائنا فقراء؟ كيف ميزت المدرعة والبندقية؟ الدم واحد والقبر واحد ومع ذلك خذلنا الشهادة مرة تلو الأخرى.
مصر معجبانية وبتختار أحلانا، ومينا دانيال زين ما اختارت. لولاه ما انتصرنا فى المشرحة.
طوبى للضعفاء.
جاءوا للمستشفى بالمئات بحثًا عن أجساد جريحة لعلاجها وأجساد مقتولة لدفنها، جاءوا للمستشفى بحثًا عن مأوى فى ليلة تجسدت فيها كل مخاوفهم، جاءوا للمستشفى بحثًا عمّن يشاركهم الغضب، بحثًا عن قوة في العدد.)3
-وهو يعني تعاطفك مع الضحايا مبرر لتصريحاتك اللي بتثير قلق في الشارع وبتهيّج بيها الناس على أجهزة الأمن! لو بتحب بلدك كنت تتفاخر بيها وبإنجازاتها –حتى لو بسيطة- مش تقول كلام يعمل فوضى!

-(مدرس دخل على فصل قال للطلبة لازم كل واحد يجيب بُكره خمسة جنيه عشان تطوير الفصل. لما الطلبة اعترضت قالهم اللي مش هيدفع هيسقط و بعدين انا هصرف الفلوس دي على الفصل مش هحطها في جيبي.
لمّ الفلوس ومن ضمن الحاجات اللي صرفها فيها كان خرزانة جديدة يضرب بيها العيال. الخرزانة بقيت حب حياته، سماها باسم بنت، و كل ما يحصل أي حاجة تضايقه في الفصل يضرب بيها ضرب مبرح، إمعانا في الذل كان بيخلي الطالب اللي هيتعاقب هو اللي يروح يجيب الخرزانة من مكتبه.  في مرة طالب اتهور، من قهرته و غيظه قرر يكسر الخرزانة، زمايله اتلموا حواليه يحوشوه ويقولوله إنت مجنون الخرزانة دي إحنا اللي دافعين ثمنها يعني ملكنا عايز تكسر أملاكنا؟ وبعدين نضطر ندفع ثاني ونشتري خرزانة جديدة؟)4

كان علاء عبد الفتاح يتكلم بصوت خفيض مُطرقًا نظره وكأنه يُكلّم نفسه؛ غير واثق من استيعاب جارتي لقصة المدرس، ثم رفع صوته قليلًا ينظر في عينيها وأردف:

(كان ممكن أفخر بمنتج مصري لو حكومات ما بعد الثورة عالجت جنون الدولة وعاملت العمال والمنتجين أفضل من أيام ما قبل الثورة.
لكن في الثورة قابلت مؤخرًا صنايعية الموبيليا بتوع دمياط عاملين اعتصامات وبيتضربوا ويضربوا زيهم زي البلاك بلوك بالضبط عشان الخامات بتغلى عليهم بسبب تحالف الدولة والمحتكرين وأزمة عالمية خلقتها الرأسمالية، ملحقش أشوف الفخر في عيونهم مع إنهم علمونا في المدارس نفخر بموبيليا دمياط. دلوقتي مطلوب مننا نفخر بتوكيل الموبيليا التركي اللي جايبينه الباشوات الجدد.
لما بافخر بشغل ناس معرفهاش بيبقى غالبًا شغل صنايعية وحرفيين، مش من باب النوستالجيا لزمن ما قبل الثورة الصناعية ولا حاجة لكن عشان علاقتهم بشغلهم أكثر إنسانية.
عربيتي مثلا صحيح مش صناعة مصري لكن اتفرمت في حادثة وفي أي بلد في العالم كانت هتعتبر هالك لا أمل فيه، الاسطى بكر صلحها بحرفية مذهلة و شغل معاه أربع خمس ورش. هو فخور جدا بشغله و بيتخانق معايا عشان ببهدل العربية اللي تعب فيها، فخره معدي.)5

قلتُ متطوعة؛ أحاول شرح مافهمته من كلمات علاء:
يعني أن حبه لبلده وأهلها لا ينفيه أو يقلل منه انتقاده لأي نظام، فالخلاف هنا أساسه الاختلاف مع الممارسات السياسية والاقتصادية -التي تنتهك حقوق الشعب في الحرية والعدالة والكرامة- وليست خلافًا مع أشخاص.

-عايزة تقولي إن الحكومة هي اللي مشخصنة الخلاف؟ طيب ما هو طبيعي بالعقل كده! لما ألاقي واحد تصريحاته كلها بتهاجم الحلول الوسطية وبتدورعلى الحلول الجذرية اللي تنفيذها معناه: يا روح ما بعدك روح، لازم الخلاف يتشخصن، وأي حد مكانهم كان هيخاف منه ومن قلقه! وبعدين هو أصلًا مُحيّر كده ساعات يبان إخوان، وساعات يبان علماني، أهو أي حاجة المهم يعمل قلق وخلاص!

لم أمتلك من الحكمة ما يمكّنُني من الرد الهادئ عليها، لكني تذكرت -ولله الحمد- ما كتبه محمد أبو الغيط في تقديمه لكتاب “شبح الربيع” لعلاء عبد الفتاح:
(وهو علاء غير العادي أيضا في قدرته على المراجعة الذاتية، كما يظهر بالعديد من مواضع هذا الكتاب….
وهو غير عادي كذلك في تبنيه دائماً لرؤى مُركبة، تخرق أي تقسيم بسيط للمعسكرات السياسية.
يكتب علنا موقفه المتضامن مع ضحايا رابعة، ويتأثر بشكل عميق بما حدث لأسماء البلتاجي، لكنه بذات التوقيت يكتب رافضاً خطاب “تنزيه الإخوان”، فيشدد علاء على أن مظلوميتهم الحقيقية لا تنفي واقع أنهم استخدموا العنف لتثبيت حكمهم عبر الداخلية في البداية ثم عبر كوادرهم بعدها، وأنهم تبنوا خطابًا طائفيًا، ودمروا الإمكانية السياسية بالبلد.
يهاجم في كل موضع سياسات النظام الحاكم ورأسه، لكنه يخاطب رفاقه مطالبا بعدم الاستهتار بحقيقة “الكابوس السوري والليبي واليمني”، أو بمحاربة الإرهاب كقضية وطنية.
يؤكد تمسكه بالديمقراطية، لكنه يطرح فكرة أن لها حقاً خصوصية في بلاد الجنوب النامية، ليست خصوصية عدم تأهل الشعب كما تروج أصوات سلطوية، لكنها خصوصية بدء الديمقراطية، بخلاف بلاد ترسخت فيها، ومن أهم شروطها الاتفاق على “أجندة وطنية” موحدة تجمع عليها كل الأطراف، ولا تتغير بالانتخابات.
يقول إننا أخطأنا حين “أهملنا تثبيت الديمقراطية وترسيخ دولة القانون في المؤسسات والمجتمع الحر”، فتسرّعنا في الصدام.
وهو علاء المذهل في قدرته، بعد كل ما تعرض له، على الحديث بهدوء وبأفكار مرتبة حتى عن أعداءه. في تلك الكتابات التي أنجزها علاء عام ٢٠٢٠، والتي أعدها من أهم أجزاء الكتاب، ظل بإمكانه أن يفصل بين الذاتي والموضوعي، في تشريحه بالغ العمق عن المحاور الخمسة للاستقطاب في مصر، وعن الأركان الأربعة للبوصلة السياسية المصرية، مكررا أنه يستحيل إقصاء أي مكون، بل علينا الوصول لحلول وسط ما.
وبخلاف الصورة النمطية عن علاء الراديكالي، وما يُمكن أن تسببه السجون من تطرف، فإن علاء يقول إن التحديات الحالية جعلت طبيعة ما يدعو إليه تختلف تماما. صار يطرح خيارات أكثر إصلاحية، جوهرها أن على الجميع “التخلي عن مشروع الحسم”، فكافة القضايا الوطنية من أكبرها إلى أبسطها كأزمة المرور هي في الواقع أزمات مزمنة سيفشل فيها الحاكم أيا كان، فهي “أكبر من أن يكون لها حل”، لذلك “لازم نقعد نتكلم مع بعض”.
حتى الملفات الشائكة الخاصة بالعدالة والمصالحة، توصل علاء إلى ضرورة “تأجيل كل ما يثقل على المؤسسات الحالية” والتركيز على المستقبل، داعياً أولياء الدم من كل الأطراف أن يؤجلوا القصاص ” نعم، سأدعو أن نضحي بأحلامنا حتى يتمكن أبناؤنا من الحلم.”
وهو علاء الشاعري، الذي زاده السجن حساسية لا غلظة. يناشد رفاقه ألا يقسو في حكمهم على أنصار “الميادين الأخرى” من مؤيدي السلطة والإسلاميين، ويساءل نفسه باحثاً: كيف أخرج وأسامح من ظلمني ومن خذلني؟. يقول إنه صار يكره السجون ولا يتمناها حتى لمن سجنه.
ومن قبل ومن بعد هو علاء “الأمميّ”. منذ اللحظة الأولى يضع القضية المصرية في سياقها العربي والعالمي.
اعتبر أن الربيع العربي جعلنا “نعيد اكتشاف العروبة”، بل نعيد بناءها من الأسفل، بعد عقود قُدمت فيها القومية العربية لنا كمشروع سلطوي وفوقي. يركز على القضية الفلسطينية، وعلى أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية كجامع بين الشعوب العربية.
ومن منظور أوسع، يرى نفسه جزءا من نضال عالمي ضد الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية الحالية، وضد قوى اليمين العالمي. لا يخاطب الحكومات الغربية، لكنه يخاطب رفاقه الذين تظاهروا مثله في بلادهم ضد غزو العراق، حيث نواجه جميعاً ذات المشاكل العالمية ونتشارك ذات القيم.)6

-طيب لو كان هو بيحب البلد وأهل البلد والعرب والعالم، ومستعد زي ما بتقولوا لحلول وسط، كان إيه لزمته بقى الدوخة والغلبة اللي عاملينها اخواته؟! ورايحين يستقووا ببريطانيا، يبقوا هم كده اللي مش بيحبوا البلد دي!

شعرتُ بغصة كبيرة لأن جارتي تتابع ما يُقال عن هذه العائلة، ولم تفكر يومًا بقراءة ما يكتبونه هم، ربما لو قرأت كلماتهم وسمعتهم، لتبنت الكثير من آرائهم، أو على الأقل حافظت على اختلافها معهم، وهي متمسكة بحقهم وحق كل إنسان في التعبير عن رأيه سلميًا دون حبسه أو التحريض عليه. ربما لو قرَأتْ ماكتبوه عن تفاصيل حصولهم على الجنسية البريطانية وأسبابها وتداعياتها، لاعتذرت عن كلماتها في حقهم وقبّلت رؤوسهم. يحضرني الآن ماكتبته منى سيف:
(بلدي مصر لأني اتولدت هنا وكل تفاصيل حياتي وذاكرتي ووعلاقاتي الانسانية مرتبطة بهنا. وكل خيالاتي وتصوراتي عن مستقبلي كانت مبنية على هنا، هادرس ايه وهاشتغل ايه، هاساعد ازاي، هاعلم أطفال علوم بطرق تفاعلية مسلية، هاشتغل في معمل في جامعة القاهرة واسرح في الشغل لبليل، هاعدي على أبويا وأمي بالليل اشرب معاهم شاي. هجر شكل أخويا على تويتر ولو بالليل متضايقة اكلمه يعدي عليا يدلعني، ولو كان مسافر وعايش برة -زي ماكان في جنوب أفريقيا- هاقعد اعمل معاه خطط كتير على اني اسافر ازوره عمرها ما هتحصل عشان كم الأنشطة اللي باحاول اعملها هنا في القاهرة، وأنا وعلاء هنتريق على ازاي سناء تايهة مننا في العالم وصعب نتلم عليها..

كل حاجة، كل تفصيلة في خيالي، كل تصور عن حب وصداقات وعائلة، كان مبني على هنا .. وبالأساس على مدينتي: القاهرة. وطبعا 2010 كانت نقطة تحول -جيل خالد سعيد رحمة ونور على روحه- وبداية رحلة تصورنا فيها إن فيه براح وعالم تشاركي ممكن نخلقه هنا مع بعض.
لكن كل ده انتهى، نهاية قاسية ومؤلمة ومستمرة في جرنا وراها من غير ما تطلق سراحنا.
ومصر تحولت من مكان باغزل حواليه كل أحلامي، لمصدر متجدد لكل كوابيسي.
أنا بقالي 8 سنين علاقتي الأساسية بمصر بتمر بطرة ومحاكمها. وبقالنا سنين كل لحظات حياتنا المهمة، سعيدة او حزينة، بتحصل وعلاء -على الأقل اذا ماكانش علاء وسناء- مش معانا. وبقالنا سنين بنكتشف ان لسة فيه مساحات عنف ووجع ما اختبرناهاش .. وبنختبرها

ومضة النور الوحيدة هي إني ولمصادفة قدرية بقى عندي ورقة بتقول إن فيه بلد تانية ممكن تبقى بيتي، أو على الأقل بداية رحلة جديدة. ولما شوفت باسبور علاء بعينيا، لأول مرة من أكتوبر 2019 لقيت نفسي باسرح وافكر “عايزة تعملي ايه في المستقبل يا بت يا منى)7”

  أحسستُ بجارتي تواري نظرة حزينة وخَجِلةً، لكنها ظلت تكابر وهي تقول بحروف ملعثمة:
-طيب بالذمة ينفع يعني يحرق قلب أمه وأخواته كده ويمتنع عن المايه والأكل ما هو كده يبقى أستغفر الله بينتحر!

وهنا يحضر علاء ويقول:

(تشتّتت جهود العائلة بين سجينين، وأُنهِك قلب والدي بين محكمتين؛ والدي الذي أجّل الجراحة الضرورية أكثر من مرة بسبب قضية مجلس الشورى المشؤومة! خطفوني من حضن ابني خالد وهو لا يزال يناضل للتغلب على الأثر النفسي للحبسة الأولى..

في كل مرة واجهتُ فيها المحاكم والسجون كنت أرحّبُ بها، ليس فقط كثمن ضروري ومتوقع لمواقف معارضة، وإنما كفرصة للنضال من أجل مبادئ وضمانات المحاكمة العادلة؛ كل جلسة تحقيق أو تجديد أو محاكمة فرصة للضغط ضد القضاء الاستثنائي، وفرصة لدعم قضاة منحازين للعدالة تصورنا أنهم كثر.. وكان كل يوم في السجن فرصة لتذكير المجتمع بالمظاليم في السجون، وفرصة للضغط على الجماعات السياسية والإعلام للسعي لوقف الهدر اليومي للعدالة..
لكني حينما وقفت أخيرًا أمام قاض طبيعي وجدت عدالة أقل من أعتى المحاكم الاستثنائية، أُهدِرَت الإجراءات والقوانين والمعايير، ورغم فضْحِنا لكل التفاصيل في عشرات القضايا لم نسمع صوتاً لقاضي واحد يعترض على ما يحدث في معهد أمناء طرة.. واكتفى السياسيون باستجداء الرأفة لنا بناءً على تاريخنا الثوري دون أي إشارة للإهدار الفج للعدالة..
أيامي في السجن لا تقربنا من دولة ملتزمة بقوانينها ولا محاكم معنية بالعدالة، فلا يزيدني السجن الآن إلا كراهية..)8

يكمل علاء عبد الفتاح كلماته بصوت واثق ومطمئن:
(لا المعاناة تضحية ولا الجسد آلة، بل أن ألمك لا يخص شخصك؛ فالفرد ينتمي لمجتمع والمجتمع نتاج حركة التاريخ. لكنك فاعل في هذا التاريخ، لا تكن ضحية له. اجعل من ألمك ثورة ومن معاناتك نضال، اهدم مصادر الألم، وبحطام القديم سنبني الجديد معًا كجماعة فاعلة في التاريخ. هي سنة الحياة وقوانين الكون. إنها حتميات. فقط عليك أن تدرك اللحظة المناسبة وتنضم للفرقة الواعية.)9

يردف بنبرة حنونة تمتزج مع صوته:
(أنتم عارفين الحدوتة بس مهم أقولها ثاني: الرحلة دي مشيت أغلبها وأنا باصص لورا لأني مش شايف قدام غير الفناء… الهوة… تدريجياً مع كل خطوة وكل تأخيرة حاجة بتوصل… من زيارة، من جواب، من كتاب، من صورة، من رسمة، من الكتاب، من أخبار الحملة، من أخبار خالد … اتغير الوضع، بقيت باصص لقدام، لمستقبل يخصنا كعائلة.
لو الواحد بيتمنى الموت يبقى الإضراب مش نضال، لو الواحد متمسك بالحياة بس كغريزة يبقى ملوش لازمة النضال، لو الواحد بيأجل الموت خجلاً من دمع أمه فقط يبقى بيقلل احتمالات النصر….
.
والقرار اتاخد وأنا مغمور بمحبتكم ومشتاق لصحبتكم).
*****************************
وللحوار بقية
#الحرية_لعلاء_عبدالفتاح
#الحرية_لكل_معتقلي_الرأي
#الحرية_لمصر

مصادر:
1 منشور على حساب علاء عبد الفتاح “فيسبوك” بتاريخ 2 إبريل 2019
2 من رسالة مصورة وجهتها الأديبة دكتورة رضوى عاشور لعلاء عبد الفتاحفي مارس 2014
3 من مقدمة كتاب شبح الربيع لعلاء عبد الفتاح؛ كتبها محمد أبو الغيط ضمن تقديمات الكتاب الثلاث.
4 من مقال:مع الشهداء أفضل جدًا لعلاء عبد الفتاح، نشر في الشروق 20 أكتوبر 2011
5 منشور على حساب علاء عبد الفتاح “فيسبوك” بتاريخ 10 فبراير 2013
  6 منشور على حساب علاء عبد الفتاح “فيسبوك” بتاريخ 5 مايو 2013
7 من مقدمة كتاب شبح الربيع لعلاء عبد الفتاح؛ كتبها محمد أبو الغيط ضمن تقديمات الكتاب الثلاث.
8 منشور على حساب منى سيف “فيسبوك” بتاريخ 29 إبريل 2022
9 من مقال: “جبت آخري” منشور على موقع “الشروق”  بتاريخ 27 أغسطس 2014
10 فقرات من مقال: “خمس استعارات عن التعافي” منشور على موقع “مدى مصر”  بتاريخ 26 سبتمبر 2019
11 فقرات من جواب علاء عبد الفتاح لعائلته كتبه بتاريخ 31 أكتوبر 2022 ونُشر على حساب من سيف “فيسبوك” بتاريخ 6 نوفمبر 2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *