نجيب محفوظ في حوار قديم لـ باريس ريفيو: أيقظتني زوجتي لتخبرني بفوزي بجائزة نوبل فقررت أن أكمل نومي.. وهذا سر عدم ذهابي لمكة   

كتبت: ليلى فريد 

تحل اليوم الذكرى 112 لميلاد الأديب الأشهر في الوطن العربي، نجيب محفوظ، العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب.  

وبهذه المناسبة نعيد نشر حوار أجراه نجيب محفوظ مع مجلة باريس ريفيو في صيف عام 1992 نقله إلى العربية المترجم أحمد شافعي، في كتاب صادر عن الهيئة العامة للكتاب مطلع العام 2016 تحت عنوان “بيت حافل بالمجانين”، يضم عدة حوارات أجرتها المجلة مع عدد من الكتاب العالميين، وأرشفت المجلة هذه الحوارات لدى موقعها الإلكتروني الصادر بالإنجليزية، ومن بينها حوار نجيب محفوظ الذي أجرته معه الصحفية شارلوت الشبراوي، وتحدت محفوظ في الحوار عن العديد من القضايا المثارة وقتها، وعن علاقته بالكتابة الأدب. 

متى بدأت الكتابة؟ 

سنة 1929، ورفضت حينها جميع قصصي، فكان سلامة موسى رئيس تحرير المجلة الجديدة يقول لي: أنت موهوب ولكنك لم تصل بعد وأذكر جيدًا سبتمبر من عام 1939فقد كانت بداية الحرب العالمية الثانية بهجوم هتلر على بولندا، نشرت قصتي عبث الأقدار فكانت تلك هدية ومفاجأة من ناشري المجلة الجديدة، كان ذلك حدثًا ذا أهمية هائلة في حياتي. 

هل بعد ذلك أصبحت الكتابة والنشر أمورًا سهلة؟ 

لا، وإن جاءني بعد هذا النشر الأول صديق لي، كاتب، وأخبرني أن شقيقه يمتلك مطبعة قام بتشكيل لجنة نشر مكونة من بعض الزملاء الذين كانوا قد حققوا أقدارًا ضئيلة من النجاح بدأنا النشر سنة 1943 بقدر من الانتظام وكنا ننشر قصة لي كل سنة. 

ولكنك لم تعتمد قط على الكتابة كمصدر للدخل؟ 

لا، كنت دائمًا موظفًا حكوميًا، بل إنني على العكس كنت أنفق على الأدب، على الكتب والورق، لم أحقق مالًا من الكتابة إلا بعد وقت كبير، نشرت حوالي ثمانين قصة بلا مقابل، حتى رواياتي الأولى نشرتها بلا أي مقابل. 

متى بدأت تجني مالًا من كتاباتك؟ 

حينما ترجمت قصصي إلى الفرنسية والإنجليزية، والألمانية، “زعبلاوي” بالذات نجحت نجاحًا هائلا وجنيت بسببها مالا أكثر من أي قصة أخرى، أول رواية ترجمت لي هي “زقاق المدق” ، نشرت الترجمة أول مرة من خلال ناشر لبناني اسمه خياط، ولم أحصل أنا والمترجم على أي أجر لأن خياط خدعنا، ثم أعادت هيننمان نشرها نحو عام 1970 وبعدها ترجمت إلى الفرنسية وسرعان ما بدأت ترجمات أخرى لأعمالي. 

هل يمكن أن تكلمنا عن شلة الحرافيش الشهيرة، من أعضاؤها؟ وكيف تكونت؟ 

تعرفنا لأول مرة سنة 1943، وكانت تتكون من كل من مصطفى محمود، أحمد بهاء الدين، صلاح جاهين، ومحمد عفيفي، “الحرافيش” تعني النهابين الذين يجدهم المرء على أطراف المظاهرات مستعدين للنهب عندما تسنح أول فرصة، هؤلاء هم الحرافيش والممثل السينمائي أحمد مظهر هو من أطلق علينا هذا اللقب، في البداية كنا نتقابل في بيت محمد عفيفي أحيانا كنا نذهب إلى مكان اسمه صحاري سيتي قرب الأهرام، والآن نذهب إلى بيت المخرج السينمائي توفيق صالح لأن لديه شرفة في الطابق العاشر مطلة على النيل، الباقون منا أربعة أو خمسة. 

هل أنت على صلة بالكتاب المصريين الأصغر سنًا؟ 

أذهب كل جمعة في جلسة في كازينو قصر النيل يدعى إليها الكتاب الجدد، يأتي الكثيرون شعراء وكتاب وشخصيات أدبية، منذ أن تقاعدت عن العمل الحكومي في عام 1971 أصبح لدي وقت أكبر للأصدقاء 

ما الدور الذي لعبه في حياتك الوضع السياسي فيما قبل عام 1952؟ 

كنت في حوالي السابعة عندما قامت ثورة 1919 تأثرت بها، وازددت تأثرا بها وتحمسًا لقضيتها، كل الذين كنت أعرفهم كانوا يناصرون حزب الوفد والتحرر من الاستعمار ثم أصبحت في وقت لاحق أكثر انخراطًا في الحياة السياسية وتابعًا صريحًا لسعد باشا زغلول، زغلول باشا سعد في الأصل، ولا أزال أعد ذلك الانخراط من أهم الأشياء التي فعلتها في حياتي، ولكنني لم أعمل مطلقًا في السياسة، ولم أنضم بصفة رسمية لأية لجنة أو حزب سياسي، وبرغم أنني كنت وفديا، لم أشأ قط أن أكون عضوا حزبيًا، فقد كنت أريد لنفسي ككاتب حرية مطلقة لا يمكن لعضو في حزب أن يتمتع بها. 

وماذا عن يوليو 1952؟ 

فرحت بها، ولكنها لسوء الحظ لم تأت بالديمقراطية. 

هل ترى أن تقدمًا نحو الديمقراطية والحرية قد تحقق منذ زمن ناصر والسادات؟ 

طبعا، ما من شك في ذلك، في زمن ناصر كان المرء يخاف من الحوائط، كان الكل خائفين، كنا نجلس في المقاهي، والخوف يمنعنا من الكلام، كنا نخشى الكلام حتى في بيوتنا، كنت أخاف أن أكلم ابنتي عن شئ حدث قبل الثورة فتذهب بعد ذلك إلى المدرسة فتقول ما يساء تفسيره، السادات جعلنا نشعر بمزيد من الأمن، وحسني مبارك دستوره غير ديمقراطي، ولكنه شخص ديمقراطي، نستطيع الآن أن نقول رأينا، الصحافة حرة، نستطيع أن نجلس في بيوتنا ونرفع أصواتنا كما لو كنا في إنجلترا، ولكن الدستور في حاجة ماسة إلى تعديل. 

هل تعتقد أن الشعب المصري جاهز الآن إلى ديمقراطية كاملة؟ هل يفهم فعلًا كيف تعمل الديمقراطية؟ 

أغلب الناس في مصر اليوم مشغولون بلقمة العيش، بعض المتعلمين فحسب هم الذين يفهمون كيف تعمل الديمقراطية، ما من شخص يعول أسرة لديه وقت ليتناقش في الديمقراطية. 

هل عانيت كثيرًا من الرقابة؟ هل اضطررت لإعادة كتابة أي من مخطوطات أعمالك؟ 

ليس مؤخرا، لكن أثناء الحرب العالمية الثانية تعرضت روايتا “القاهرة الجديدة” و”رادوبيس” للرقابة، اعتبروني يساريًا، الرقباء اعتبروا رادوبيس عملا مهيجًا لأن الشعب فيها يقتل ملكا، وكان ملكنا لا يزال حيا، وأوضحت لهم أنها مجرد حكاية تاريخية، ولكنهم زعموا أنها تاريخ مزور، وأن الملك المقصود لم يتعرض للقتل على يد شعبه، وإنما مات في ظروف غامضة. 

ألم يعترض الرقباء أيضًا على “أولاد حارتنا”؟ 

اعترضوا، وبرغم أني كنت في ذلك الوقت مسئولا عن جميع أنواع الرقابة، فنصحني رئيس الرقابة الأدبية ألا أنشر الكتاب في مصر تجنبا للصراع مع الأزهر، معقل الإسلام الرئيسي في القاهرة، فصدرت في بيروت ولم يسمح لها بدخول مصر، كان ذلك سنة 1959، في عهد ناصر، وحتى الآن لا يمكن شراء الكتاب هنا لكن الناس يهربونه. 

ماذا كنت تقصد من أولاد حارتنا؟ هل كنت تريد أن تكون مثيرة للجدل؟ 

أردت من الكتاب أن يبين أن للعلم مكانة في المجتمع، تماما مثل الدين الجديد، وأن العلم بالضرورة ليس في صراع مع القيم الدينية، أردت أن أقنع القراء أننا لو نبذنا العلم لنبذنا مع الإنسان العادي، غير أنه أسئ فهمها لسوء الحظ، أساء فهما أولئك الذين لا يعرفون كيف يقرأون قصة، وبرغم أن الكتاب عن الحارات ومن يريدون الحارات، أسئ تأويله وأعتبر كتابًا عن الأنبياء أنفسهم، وبسبب هذا التأويل لا تزال القصة تعد صادمة، وهذا طبيعي، إذ هي وفقا لهذه القراءة تصور الأنبياء حفاة قساة، ولكنها بالفعل تأويل، مجرد تأول، وليس التأويل مجهول في تراثنا ففي قصة كليلة ودمنة على سبيل المثال هناك أسد يمثل السلطان ومع ذلك لم يقل أحد أن المؤلف جعل من السلطان حيوانا هناك ما ترمى إليه القصة، ومصطلح الأليجوريا لا ينبغي أن تقرأ حرفيا ولكن هناك جانبا من القراء لا يملكون هذا الفهم.  

ما رأيك في قضية سلمان رشدي؟ هل ترى أن الكاتب ينبغي أن يحظى بحرية مطلقة؟ 

سأقول لك بالضبط ما أعتقد به، لكل مجتمع تقاليده، وقوانينه ومعتقاداته الدينية، وهذه جميعا تحاول وضع الحدود، وبين الحين والحين يأتي أشخاص يطالبون بالتغيير، أعتقد أن من حق المجتمع أن يحمي نفسه، كما أن للفرد الحق في مهاجمة ما يختلف معه، فإن رأى كاتب أن قوانين وتقاليد مجتمعه لم تعد صالحه أو حتى ضارة، فمن واجبه أن يتكلم، ولكن عليه أن يكون مستعدا لدفع ثمن الجهر برأيه وإن لم يكن جاهزا لدفع ذلك الثمن فبوسعه أن يؤثر الصمت، والتاريخ زاخر بمن سجنوا او أحرقوا لجهرهم بأفكارهم، ذلك أن المجتمع دائما يدافع عن نفسه. وهو اليوم يفعل هذا من خلال الشرطة والقانون، وأنا ادافع عن حرية التعبير وعن حق المجتمع في مناهضتها، علي ان أدفع ثمن الاختلاف، فتلك طبائع الأمور. 

هل قرأت الآيات الشيطانية لسلمان رشدي؟ 

لم أقرأها ففي الوقت الذي ظهرت فيه لم أعد قادرا على القراءة بصورة جيدة، نظري تدهور كثيرا في الفترة الأخيرة، لكن الملحق الثقافي الامريكي بالإسكندرية شرح لي الكتاب فصلا فصلا، ووجدت الإهانات فيه غير مقبولة، رشدي يهين فيه حتى زوجات النبي، طيب، بوسعى أن أناقش الأفكار، ولكن ماذا أفعل في الإهانات؟ آمر يخص القضاء، فالوقت نفسه أعتبر موقف الخميني خطر بنفس الدرجة، فليس له الحق في أن يصدر حكما، هذا ليس من الإسلام في شئ، فحينما يتم اتهام شخص بالردة فإنه في نفس الوقت على حسب مبادئ الإسلام يجب أن يخير بين التوبة والعقاب، ورشدي لم يحصل على هذا الخيار، لقد دافعت ولازلت أدافع عن حق رشدي في كتابة ما يشاء في حدود الأفكار، ولكن ليس له الحق في أن يهين شيئًا لاسيما أن كان نبيا أو شيئا مقدسا. 

هل القرآن يناقش مسألة الإهانات أو التجديف؟ 

بالطبع القرآن وقوانين الدولة المتقدمة يجرم تشويه الاديان. 

هل كنت متدينًا في طفولتك؟ هل كنت تذهب مع أبيك إلى المسجد كل جمعة؟ 

كنت متدينًا بصورة خاصة وأنا صغير، لكن أبي لم يضغط علي للذهاب إلى صلاة الجمعة، برغم أنه كان يذهب كل أسبوع، فيما بعد بدأت أن أشعر بشدة بأن الدين ينبغي أن يكون منفتحا، وأن الدين منغلق العقل اللعنة عليه، يبدو لي الانشغال المفرط بالدين ملاذا أخيرا يلوذ به الناس حينما تنهكهم الحياة، إنني أعتبر الدين بالغ الأهمية ولكنه قد يكون خطرا أيضا، فلو أردت التأثير في الناس وتحريكهم فأنت تبحث عن نقطة حساسة، لا يقوم بها سوى الدين، ولهذا السبب ينبغي تفسير الدين بصورة منفتحة ينبغي أن يتكلم في الحب والإنسانية الدين مرتبط بالتقدم والحضارة لا بالعواطف فحسب، ولكت تفسيرات الدين الآن غالبا ما تكون متخلفة. 

ما رأيك في تغطية النساء لرءوسهن وأحيانا وجههن وأيديهن أيضًا؟ هل هذا مثال على الدين إذ يناقض احتياجات الحضارة؟ 

تغطية الرأس أصبحت موضة، وهي لا تعني أكثر من هذا في الغالب، ولكن ما أخشاه بحق هو التعصب الديني ذلك تطور هدام معارض تماما للإنسانية. 

هل تصلي حاليًا؟ 

أحيانًا، ولكن السن تمنعني في الوقت الراهن، أنا أعتبر الدين سلوكا إنسانيا جوهريا ولكن معاملة الناس بطريقة جيدة أهم من قضاء المرء كل وقت في صلاة وصيام وسجود، فالله لم يرد من الدين أن يكون ناديا للتدريبات الرياضية. 

هل ذهبت إلى مكة؟ 

لا. 

هل تريد الذهاب؟ 

لا، فأنا أكره الزحام. 

كم كان عمرك حينما تزوجت؟ 

37  أو 38. 

ولمَ كل هذا التأخر؟ 

كنت مشغولا بوظيفتي وكتابتي كنت موظفا حكوميا في الصباح وكاتبا في المساء، كان وقتي ممتلئًا تماما كنت خائفا من الزواج خاصة حينما رأيت قدر انشغال أشقائي بارتباطات اجتماعية سببها الزواج، كان لدي انطباع بأن الحياة الزوجية سوف تستهلك وقتي، كنت أراني غارقا في الزيارات والحفلات بلا حرية. 

حتى الآن ألست ترفض حضور حفلات العشاء؟ 

لا أحضر أبدا مثل هذه الفعاليات، بل إنني لا أزور أصدقائي ألتقي بهم إما في كازينو قصر النيل أو إحدى المقاهي. 

ألهذا السبب لم تذهب إلى السويد لاستلام جائزة نوبل خزفا من دعوات العشاء؟ 

لا ليس بالضبط، كنت أود أن أسافر عندما كنت شابا أما الآن مجرد رحلة لمدة أسبوعين ممكن أن تهدد نمط حياتي. 

ما رد فعلك بفوزك بنوبل؟ وهل وصلتك تلميحات مسبقة بأنك قد تفوز؟ 

إطلاقا، كانت زوجتي ترى أنني أستحقها، ولكنني كنت دائما أشك أن نوبل جائزة غريبة، وكنت أظن أنهم لن يختاروا أبدا كاتبا شرقيا، ومع ذلك كان هناك شائعات، وكان الكاتبان العربيان المرشحان هما يوسف إدريس وأدونيس. 

هل كنت تعلم أن هناك تفكيرًا فيك؟ 

لا كنت في جريدة الأهرام في ذلك الصباح، ولو كنت بقيت هناك نصف ساعة إضافية لا أكثر لكنت عرفت على الفور، ولكنني ذهبت إلى البيت وتناولت الغداء، وجاء الخبر إلى الأهرام من خلال وكالات الأنباء، واتصلوا بي في البيت، كنت نائما أيقظتني زوجتي لتخبرني، ولكنني ظننت أنها تمزح وقررت أن أكمل نومي، وقالت لي إن الأهرام على التليفون، تناولت السماعة لأجد شخصا يقول لي مبروك، كان الأستاذ محمد باشا مدير تحرير الأهرام، وكان باشا يمازحني أحيانا، فلم أتعامل مع كلامه بجدية، خرجت إلى الصالة بالبيجامة ولم أكد أجلس حتى رن جرس الباب ودخل شخص تصورت أنه صحفي، ثم تبين أنه السفير السويدي، فاستأذنت منه لكي أبدل ملابسي وهذا ما حصل. 

نرجع مرة أخرى إلى كتابتك هل تعمل وفق جدول محدد؟ 

طالما اضطررت إلى هذا، فمنذ الثامنة إلى الثانية كنت أعمل في الوظيفة، ومنذ الرابعة إلى السابعة أكتب، ثم أقرأ من السابعة إلى العاشرة، كان ذلك جدولي كل يوم باستثناء يوم الجمعة، لم عندي قط الوقت لأفعل ما أشاء ولكنني توقفت عن الكتابة منذ ثلاث سنوات. 

كيف تأتيك شخصيات قصصك وأفكارها؟ 

حينما تقضي وقتا مع أصحابك تتكلمون عن الأشياء التي تترك لديك انطباعًا في يوم ما، أنا أكتب القصص بهذه الطريقة بالضبط، ما يحدث في البي، في المدرسة في العمل، في الشاعر ذلك أساس لقصة، فمن التجارب ما يترك انطباعا عميقا يجعلني بدلا من أتكلم عنه في النادي، أكتب عنه رواية، فعلى سبيل المثال قضية المجرم الذي قتل مؤخرا ثلاثة أشخاص منطلقا من تلك القصة كقاعدة، اتخذ مجموعة القرارات الخاصة بكيفية كتابتي لها، فأختار مثلا إن كنت أكتب القصة من وجهة نظر الزوج، أم الزوجة، أم الخادم، أم المجرم، ربما أتعاطف مع المجرم، تلك نوعية الخيارات التي تجعل القصص تختلف إحداها عن الأخريات. 

حينما تبدأ الكتابة هل تدع الكلمات تتدفق أم تكون ملاحظات مسبقة؟ هل تبدأ وفي ذهنك قيمة محددة؟ 

قصصي القصيرة تأتي من قلبي مباشرة، أما الأعمال الأخرى فأقوم ببحث مسبق، فقبل أن أبدأ الثلاثية مثلا قمت ببحث موسع أعددت ملفا لكل شخصية، ولو لم أفعل ذلك لتهت ونسيت أشياء، أحيانا تنبثق قيمة من الأحداث في القصة، وأحيانا تكون في ذهني قيمة قبل أن أبدأ، لو كنت أعرف مسبقًا أنني أريد أن أصور مقدرة الإنسان على قهر كل ما يقع له من شرور، فإنني ابتكر بطلا قادرا على إظهار هذه الفكرة، ولكنني أيضا أبدأ القصص بالكتابة بحرية عن سلوك شخصية، متيحا للقيمة أن تتخلق لاحقًا. 

ما حجم المراجعة التي تقوم بها قبل أن تعتبر قصة ما مكتملة؟ 

أراجع كثيرًا وأحذف كثيرًا، أكتب على الصفحة كلها، بل وعلى الوجهين، غالبًا ما تكون مراجعاتي أساسية، وبعد أن أراجع، أعيد كتابة القصة وأرسلها إلى الناشر، ثم أمزق كل المسودات وأرميها. 

لا تحتفظ مطلقًا بأي من ملاحظاتك؟ كثير من الكتاب يحتفظون بكل كلمة كتبوها، ألا ترى أن دراسة عملية الكتابة عند كاتب ما من خلال مسوداته قد تكون أمرًا مشوقًا؟ 

قد تكون كذلك فعلا، ولكن المسألة ببساطة أن الاحتفاظ بالمسودات والملاحظات ليس جزءا من ثقافتي، بل أني لم أسمع بكاتب يحتفظ بمسوداته الاولى ثم أنني مرغم على التخلص من مسوداتي وإلا امتلأ بيتي بورق لا نفع له علاوة على إني خطي ردئ بصورة لا تحتمل. 

القصة القصيرة والرواية ليستا جزءا من التراث العربي كيف نفسر نجاحك في هذين الشكلين الجديدين؟ 

الكتاب العرب استعاروا مفهومي القصة القصيرة والرواية الحديثين من الغرب ولكنهما الآن مندمجان في ادبنا، وكثير من المترجمين عملوا في الأربعينيات والخمسينيات، فاعتبرنا أن أسلوبهم ببساطة أسلوب كتابة القصة، استخدمنا الأسلوب الغربي للتعبير عن قيمتنا وقصصنا ولكن في تراثنا أعمالا مثل “أيام العرب” التي تضم قصصا كثيرة مثل “عنترة” و”قيس وليلى” و”ألف ليلة وليلة” بالطبع. 

هل بين شخصياتك شخصية تتطابق مع شخصيتك؟ 

“كمال” في “الثلاثية” يمثل جيلي، أفكارنا واختياراتنا ومشكلاتنا وأزماتنا النفسية، فشخصيته من ثم شخصية سيرية، ولكنها في الوقت نفسه شخصية إنسانية عامة، أشعر أيضًا أنني قريب من عبد الجواد الأب، المنفتح على الحياة بجميع جوانبها، المحب لأصدقائه، الذي لم يؤذ أحدا قط عامدا متعمدا، كلتا الشخصيتين تمثلان نصفي شخصيتي أنا، عبد الجواد الاجتماعي للغاية، المحب للفن وللموسيقى وكمال خجول الجاد المثالي المنطوي. 

لنتناول نموذجًا من من كتاباتك اللص والكلاب كيف بدأت؟ 

استوحيت القصة من لص روع القاهرة لفترة، كان اسمه محمود سليمان، حينما خرج من السجن حاول أن يقتل زوجته ومحاميه اللذين هربا من القتل، لكنه هو من تعرض للقتل في ثنايا ذلك. 

هل خانته زوجته كما في الرواية؟ 

لا أنا ابتكرت القصة من شخصيته، كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد وكنت على قناعة بأن حياتنا في ظل النظام البوليسي في تلك المرحلة كانت بلا معنى وهكذا حينما كتبت القصة كتبت معها قصتي أنا، وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملا فلسفيا، فقد حملت شخصية الرواية الرئيسية “سعيد مهران” كل حيرتي، وهواجسي وجعلته يمر برحلة البحث عن إجابات لدى الشيخ ولدى الساقطة ولدى المثالي الذي خان أفكاره من أجل المال والشهرة، والكاتب ليس مجرد صحفي فهو يضفر مع القصة شكوكه وأسئلته وقيمه هذا هو الفن. 

ماذا عن دور الدين في هذه القصة؟ هل الإيمان بالله طريق السعادة الحقة كما يقول الشيخ؟ هل الصوفية هي الجواب الذي يبحث عنه المجرم؟ 

الشيخ يرفض الحياة التي نعرفها، في المقابل يحاول المجرم أن يحل مشكلاته المباشرة، إنهما في عالمين مختلفين، أنا أحب الصوفية مثلما أحب الشعر الجميل، ولكنها ليست الإجابة، الصوفية مثل السراب في الصحراء يناديك أن تعال فاجلس واسترح قليلا، إنني أرفض أي طريق يرفض الحياة ولكنني لا أملك إلا أن أحب الصوفية لجمالها الشديد، إنها لحظة راحة في خضم معركة لي أصدقاء مصريون كثيرون يستشيرون شيوخ الصوفية باحثين عن حلول، ربنا يوفقهم، الحل الحقيقي لمشكلاتهم في البنك الأهلي. 

ماذا عن “نور” المرأة في هذه الرواية؟ ونساء مثل “نفيسة” في “بداية ونهاية”؟ و”زهرة” في “ميرامار”؟ إنهن وإن كن ساقطات ذوات قلوب طيبة، ويجسدون فيما يبدو الأمل في المستقبل؟ 

هذا صحيح، وإن كنت أردت من نفيسة أن تبين أيضًا عواقب السلوك المشين في أسرة مصرية نمطية. 

هل ترضى بعقابها؟ 

أنا كأغلب المصريين أشعر أن العقاب على هذا المستوى كان بالغ القسوة، من ناحية أخرى فأن الرجل المصري لا يتخذ رد فعل كالذي اتخذه شقيق نفيسة لا يستطيع أن يواصل الحياة في المجتمع، لقد كان مرغمًا شاء أم أبى على قتل الفتاة المكللة بالعار لا يملك الفرار من ذلك وسيمر وقت طويل للغاية قبل أن يتغير هذا التقليد وإن تكن قوته قد وهنت قليلا في الآونة الأخيرة لاسيما في المدن. 

عبدالجواد في الثلاثية يجسد شخصية الرجل المصري النمطية في زمنه، هل لا يزال هذا النمط شائعا اليوم؟ 

نعم، لاسيما في صعيد مصر في الريف، برغم أن عبد الجواد اليوم قد يكون أقل تطرفا، ففي كل رجلا أصلا ظل منه. 

كل رجل في مصر؟ أم كل رجل بشكل عام؟ 

لا أستطيع أن أتكلم عن بلاد أخرى، لكن يقينا هذا حال الرجل المصري. 

ومع ذلك يبدو أن ثمة تغيرات، ما رأيك؟ 

الأمور بدأت في التغير، وضع المرأة في البيت بات أقوى كثيرًا، وذلك بسبب التعليم في المقام الأول وإن تكن هناك عوامل أخرى. 

في رأيك؟ لمن ينبغي أن تكون اليد العليا في البيت؟ من الذي ينبغي أن يتخذ القرار؟ 

الزواج أشبه بشركة يتساوى فيها الشريكان، لا أحد منهما يحكم، وإن حدث خلاف تكون الغلبة للأكثر ذكاء بين الاثنين، ولكن كل أسرة حالة مختلفة، أحيانا تعتمد السلطة على المال، فمن له نصيب أكبر منه تكن له القوة الكبرى لا توجد قواعد ثابتة. 

في جميع المجتمعات التقليدية المحافظة كالمجتمع المصري، ألا تكون للنساء غالبًا سلطة على الرجال؟ 

يقينا، والتاريخ الحديث يثبت هذا، فهناك رجا يعدون ذوي سلطان وعسكري وقعوا في أيدي نساء قويات أثرن على قراراتهم، أولئك النسوة تحكمن من خلف الستار. 

لماذا تأتي أغلبية بطلاتك من الطبقة الدنيا من المجتمع؟ هل تريد منهن أن يرمزن لشيء أكبر؟ مصر على سبيل المثال؟ 

أردت أن أبين أن النساء في الفترات التي تجري فيها أحداث تلك الروايات كن بغير حقوق على الإطلاق فلو لم تجد امرأة زوجا صالحا أو إذا لم تحصل على الطلاق من شخص سيئ، لا يكون لها أي أمل وقد لا يكون أمامها لسوء الحظ من ملاذ سوى الوقوع في المحظور، وحتى وقت قريب كانت النساء محرومات من الحقوق الأساسية، حتى حق اختيار الزوج والطلاق والتعليم، الآن مع تعليم المرأة، فإن هذا الوضع يتغير، إذ إن المرأة المتعلمة يكون لديها سلاح ولكن من النقاد من رأى أن حميدة في زقاق المدق ترمز لمصر ولكنني لم أقصد مطلقا شيئا من ذلك النوع. 

كيف ترى هؤلاء النقاد الذين يفسرون أعمالك في ضوء الرموز؟ 

حينما سمعت للمرة الأولى أن حميدة ترمز لمصر، أخذتني المفاجأة بل وشئ من الصدمة، شككت أن النقاد قرروا ببساطة أن يحولوا كل شيء وكل شخص إلى رموز، ولكنني بدأت أرى أن هناك تماثلات بين جوانب من شخصية حميدة وجوانب من الوضع السياسي، ولم أكد أنتهي من قراءة المقالة حتى أدركت أن الناقد محق، وأنني فيما كنت أكتب عن حميدة كنت أكتب بلا وعي عن مصر، أعتقد أن تلك التوازيات الرمزية تأتي دائما من اللاوعي، وبرغم أنني قد لا أقصد من القصة المعنى المحدد الذي يراه فيها قارئ، قد يبقى ذلك المعنى جزء شرعي من القصة، فالكاتب يكتب بوعيه وبلا وعيه. 

ما أقرب المواضيع إلى قلبك؟ الموضوع الذي تحب أن تكتب عنه أكثر من سواه؟ 

الحرية، التحرر من الاستعمار، التحرر من الحكم الملكي المطلق، الحرية الإنسانية الأساسية في إطار التحرر من المجتمع هذه الحريات تتابع واحدة تلو الأخرى، في الثلاثية على سبيل المثال، بعد أن تأتي الثورة بإصلاح، تطالب أسرة عبد الجواد بمزيد من الحرية منه. 

ما أصعب موقف قابلته في حياتك؟ 

إنه يقينا قراري بتكريس حياتي للكتابة، والقبول تبعا لذلك بأقل مستوى معيشي لنفسي ولأسرتي، وازداد الأمر صعوبة حينما لاح أمام عيني طريق المال، قرابة سنة 1947، حينما سنحت لي فرصة أن أصبح كاتب سيناريو مع أفضل مخرج في المجال، بدأت العمل مع المخرج السينمائي صلاح أبو سيف، ولكنني توقفت، رفضت الاستمرار ولم أعد للعمل معه مرة أخرى إلا بعد الحرب حينما أصبح كل شئ باهظ الثمن قبل ذلك ما كنت لأفكر في الأمر وأسرتي رضيت بتلك التضحيات. 

كثير من الكتاب البارزين لا سيما في الغرب مشهورون بحياتهم الشخصية المتدنية، الإفراط في الشراب، إدمان المخدرات، العادات الجنسية غير المعتادة، النزعات الانتحارية أما أنت فتبدو مثاليًا؟ وربما ذلك أكبر عيوبك؟ 

طبعًا هذا عيب، ولكن الحكم ينصب على فترة شيخوختي، ففي شبابي فعلت كل شئ شربت وجريت وراء الجنس الناعم وما إلى ذلك. 

هل أنت متفائل إزاء مستقبل الشرق الأوسط خصوصًا في ضوء حرب الخليج والعنف المستمر؟ 

في سني هذه يكون التشاؤم غير لائق، حينما يكون المرء شابا يكون بوسعه أن يعلن أنه لا أمل أمام البشرية، أما حينما يكبر المرء، فإنه يتعلم ضرورة ألا يشجع الناس على كراهية الدنيا. 

وماذا عن فكرة البطل؟ لا يبدو أن للأبطال وجودا في قصصك؟ بل ولا في قصص أي كاتب مصري معاصر؟ 

لأنني أنظر إلى المجتمع بعين ناقدة، فلا أجد شيئًا استثنائيًا فيمن تقع عليهم عيناي، أما الجيل السابق علي فقد رأى بسبب ثورة 1919 سلوكيات بطولية فالعامل القادر على قهر عراقيل غير معتادة هو بطل من نوع ما، هناك كتاب آخرون مثل توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وإبراهيم عبد القادر المازني، يكتبون عن أنماط بطولية، أما جيلنا بصفة عامة ذو مشاعر أهدأ، والبطل شئ نادر، فليس بوسع المرء أن يضع بطلا في رواية مالم تكن فنتازية. 

كيف تصف البطل؟ 

هناك أبطال كثيرون في الأدب العربي القديم، جميعهم فرسان مقاتلون، أما البطل اليوم فهو بالنسبة إلى ذلك الذي يلتزم بمجموعة مبادئ معينة ويعمل بموجبها في مواجهة القهر، يحارب الفساد، غير انتهازي، وعنده أساس أخلاقي متين. 

هل تعتبر نفسك بطلا؟ ألست مثالا بالنسبة لأبنائك وجمهورك للشخص الذي يلتزم بمبادئه في مواجهة الشدائد؟ 

نعم يقينا، ولكنني لا أعتبر نفسي بطلا 

كيف إذن تصف نفسك؟ 

شخص يحب الأدب، شخص يؤمن بعمله ويخلص له، شخص يحب عمله أكثر مما يحب المال أو الشهرة، فأهلا بهما وسهلا لكنهما لم يكونا قط هدفي، لأنني أحب الكتابة أكثر من أي شئ آخر، قد يكون هذا ضارا ولكني أشعر بدون الأدب لا معنى لحياتي، قد يكون لدي أصدقاء جيدون، رحلات، رفاهية، ولكن بغير الأدب كانت حياتي ستكون بؤسًا كاملا، هذا شئ غريب، لكن أغلب الكتاب كذلك فعلا، ولا أعني بذلك إنني لا أفعل في حياتي شيئا سوى الكتابة أنا متزوج وعندي إبنتان وبعد أن أصابتني تلك الحساسية في عيني منذ عام 1935 صرت أمتنع عن القراءة والكتابة طوال الصيف، ففرض هذا شيئا من التوازن على حياتي، توازن من عند الله، صرت أعيش في كل عام ثلاثة شهور حياة رجل عادي لا علاقة له بالكتابة، في هذه الشهور الثلاثة أقابل أصحابي وأبقى ساهرًا خارج البيت حتى الصباح. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *