م. يحيى حسين عبد الهادي يكتب: العارُ والحوار


أعجبُ من سُلْطةٍ تأبى أن تُنسَبَ لها مكرُمَةٌ فى متناولها .. هذا إذا اعتبرنا أن إفراجَها عن من حَبَسَتْه سنواتٍ ظلماً وعدواناً وحطَّمْتَ حياته وحياة أسرته مَكرُمَةً.

ترَكْتُ فى السجن كثيرين من البُسطاء المؤهلين نفسياً (هم وذووهم) لكى يلهجوا بالثناء على من ظلمهم وقلب حيواتهم رأساً على عقب إذا أفرج عنهم .. وكانوا يتوسلون لنا لكى نصمت حتى لا نستفز نظاماً بدا وكأنه سيُخلى السجون من نزلائها فى مَطلَعِ ما سَمَّاه جمهوريةً جديدة (المفارقةُ أن بعضنا خرج دون صمتٍ أو تنازُلٍ، وبقى هؤلاء المظلومون فى غيابات السجون للآن).

وأشفقتُ على أصدقاء ممن لا أشُكُّ فى وطنيتهم فى الحركة المدنية الديمقراطية وفى غيرها، راهنوا على صِدقِ اليد التى امتدت لهم بالحوار، وتحملوا انتقاداتٍ ومزايداتٍ كانوا فى غِنَىً عنها، على أمَلِ أن تُسفر مشاركتهم فى الحوار عن تحرير أعدادٍ كبيرةٍ من الرهائن وتصويب بعضٍ من الخطايا الكارثية للسلطة، وعفا الله عما سلف (مع أن معظم ما سَلَفَ ليس مما يمكن العفو عنه!) .. وها هى ذى شهورٌ خمسةٌ تَمُرُ على بدء هذا الكرنفال ولا جديد تحت الشمس .. فمن ناحيةٍ، استمر اتخاذ مزيدٍ من القرارات الأُحادية فى كافة المجالات دون تشاورٍ ولا اعتبارٍ لمن تمت دعوتهم للحوار .. فضلاً عن وضع خطوطٍ حمراء لا يمكن التحاور بشأنها، شملت كل شئٍ تقريباً، بحيث لم يَعُدْ هناك مجالٌ للتحاور إلا تشكيل اللجان واللجان المنبثقة عن اللجان إلى آخر هذه السلسلة العبثية، للتحاور فى النهاية على اللا شئ .. ومِن ناحيةٍ أخرى لم يتم الإفراج إلا عن أعدادٍ متناهية الصغر من السجناء السياسيين بعد إشاعة مَوْجاتٍ من الأمل الكاذب بشأنهم.

رأيى الذى قُلتُه من محبسى، أن الحوار لن يستقيم إلا إذا تخلت السلطةُ عن عقلية السجان الذى ينظر لمعارضيه على أنهم أَسرَى (داخل السجون أو خارجها) .. فلا حوار بين سَجَّانٍ وأسير .. ما بين السجان والأسير ليس حواراً وإنما إذعانٌ .. الحوار يكون بين نِدَّيْنْ .. حُرٌّ يحاور حُرَّاً .. يحكمهما قانونٌ حقيقىٌ واحد .. لا أن يملك طرَفٌ أن يفرض جدول الأعمال على الطرف الآخر .. ناهيكم عن أن يملك أن يعتقله .. ثم إن العقل لا يستوعب أن يكون هناك حوارٌ على أى شئ، بينما قطاعٌ غالٍ من أبناء هذا الوطن مُكَّبَلٌ خلف أسوار السجون، وذووهم ملتاعون بنار الفقد .. عارٌ أن يبقى الآلاف من أبناء َمصر فى معسكرات الاعتقال (مسلمون ومسيحيون .. رجالٌ ونساء .. شبابٌ وشيوخ .. خبراءُ وعلماء .. عسكريون ومدنيون .. فنانون وشعراء .. أصحاء ومرضى .. معوقون وأصحاب هِمَم .. وقد رأيتُ أمثلةً لكل هؤلاء بعينى!) .. وهو عارٌ يُلطخ أىَّ نظامٍ مهما بلغت إنجازاته .. دَنَسٌ لا تُطَّهِرُهُ مياهُ الكون ولا تُجدى معه كل مساحيق التجميل .. لا حوار قبل التطهر من العار.

إذا أُريدَ فتحُ صفحةٍ جديدةٍ، فلا بُد من إغلاق الصفحة القديمة تماماً .. لا أن تُعاد كتابتها بخطٍ أكثر رداءة .. لا نطرحُ هنا شروطاً تعجيزيةً تُعطِلُ المهرجان قبل أن يبدأ .. لا نطلب مثلاً محاسبة كل من لَفَّقَ أو زَوَّرَ أو عَذَّبَ أو انتهك حُرمةَ البيوت الآمنة وسَرَقَ محتوياتها ورَوَّعَ الآمنين وأهان الشرفاء وسَحَقَ القانونَ والدستور، إلى آخر هذه الجرائم التى صاحَبَت إلقاء القبض على معظم المعتقلين، وهى جرائم لا تسقط بالتقادم .. أو إلغاء الاتفاقات المشينة التى وُقِّعت فى غيبة الشعب .. أو عودة المصريين من المنافى إلى بيوتهم لا إلى غيابات السجون .. أو إعادة الأصول التى تم بيعها بتوكيلٍ مزَّوَرٍ وبغير رضا مالكها الحقيقى .. أو ردَّ الأموال التى صودرت ظلماً وبلطجةً لأصحابها .. أو إلغاء كل القوانين غير الدستورية التى صَدَرَت عن البرلمانات (المُعَّلَبَة) .. لا نطلبُ ولا نشترطُ شيئاً مما سبق .. فذلك تجاوزٌ لواقع موازين القوى .. وإبحارٌ إلى مستقبلٍ لم يئِنْ أوانُه بعد.

لكن ليس أقَلَّ من إخلاء سبيل كل من حُبِسوا أو أُدينوا بواسطة نيابات ومحاكم أمن الدولة خلال السنوات التسع الفائتة أَيَّاً كانت انتماءاتهم الفكرية والسياسية .. هذا رأْيى .. ليس أقل من ذلك للإيحاء بأن هناك تَغُّيُراً قد حدث فى عقلية السَجَّان .. مجرد تَغَّيُرٍ طفيف لا يُرَى بالعين المجردة .. قبل ذلك لا حوار.

مهندس/يحيى حسين عبد الهادى
٧ سبتمبر ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *