من أين بدأنا وإلى أين وصلنا (1)|  71 عامًا على حركة يوليو: ثورة أم انقلاب.. إنجازات أم تشوهات؟

كتب – أحمد سلامة

مازالت “حركة الضباط الأحرار” عام 1952، مثارًا للانتقادات تارة ومثارًا للتأييدات تارةً أخرى، في ظل حديث يتجدد مع كل مناسبة حول الأثر المستمر لانتقال السلطة من الملكية إلى الجمهورية.

يرى الكثيرون أن حركة الضباط في 23 يوليو هي سبب أساسي ومباشر من أسباب الأزمات التي لاحقت البلاد على مدار 71 عامًا، بينما يُجادل آخرون بالقول إن تلك الفترة الممتدة على مدى عقود ليس كُلًا واحدًا، وإنما مرت مراحل مختلفة لا يجب وضعها جميعًا على قدم المساواة خاصة مع اختلاف التوجهات المحلية والدولية.

يتناول موقع “درب” في سلسلة تقارير بعض الجوانب التي تتعلق بحركة يوليو، لنعرف من أين بدأنا وإلى أين وصلنا، وكيف يمكن أن نتدارك الأخطاء.

إشكالية التوصيفات: منذ 1952.. هل هو حكم ذو طبيعة واحدة؟

يرى الدكتور زهدي الشامي أنه من الشائع تماما اليوم أن تسمع وصف الحكم العسكري بطريقة توحد وتجمع بين أشكال هذا الحكم في كل بلاد العالم، وبين كل مراحل الحكم السلطوي في التاريخ المصري المعاصر، ووقع في هذا الفخ في الغالب خصوم ٢٣ يوليو، حسب قوله.

ويضيف الشامي “وربما على العكس أن يجب الإشارة أيضا إلى أن فريقا كبيرا من أنصار 23 يوليو يقعون أيضا في الخطأ بتأييدهم لكل من يرتدي الزي العسكري وكأنه جمال عبد الناصر”.

ويستكمل، الشامي في حديث لـ”درب”، قائلا “الحقيقة أن هذا اختزال خطير لإشكالية علاقة الجيوش بالسياسة.. فانقلابات أمريكا اللاتينية الشهيرة وعلى رأسها انقلاب البرازيل عام ١٩٦٤ وانقلاب بونيشيه في شيلي في السبعينات وغيرها هي انقلابات حدثت ضد سلطات شعبية لها سياسات اعتبرتها أمريكا معادية لها -حكومة جولارت في البرازيل وسلفادور الليندي في شيلي- فهذه انقلابات جنرالات دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الحكومات الشعبية التي أطاحت بالنخب الأوليجاركية القديمة المرتبطة بالأسواق العالمية”.

أما في مصر، وفي الشرق الأوسط عموما -يضيف الشامي- فقد كانت حركات الضباط مختلفة للغاية، وهي كما تعرف حركات عُقداء (كولونيلات) وليس جنرالات، وهي أطاحت بالارستقراطيات القديمة من أسر ملكية وكبار الملاك ورأسماليين كومبرادوريين مرتبطين بالسوق العالمية.

وشدد الشامي على أن “هذا لا يعني بالطبع أي دعوة لاستمرار بقاء تلك النظم الشرق أوسطية، فهي في النهاية تظل مرحلة انتقالية لابد من انتهائها، واستمرار بقاء بعض ممثليها لابد أن ينتهي بتدهور خطير لأن البيروقراطية المهيمنة بأجنحتها مدنية أو عسكرية تحدث بها تطورات كبيرة في اتجاه الاستحواذ على مقدرات البلاد وتغيير وجه ما كان مشروعا وطنيا بتحالفات مع الرأسمالية العالمية وممثليها من منظمات دولية وحكومات أجنبية، ولذلك في كل الأحوال يجب أن ندرك أن تلك النظم (السلطوية البيروقراطية) تتغير طبيعتها وسياساتها من النقيض للنقيض، ولذلك ففي جميع الأحوال لا أعتقد أنه من المنطقي أن يتحدث البعض عن سبعين عاما أعقبت حكم ٢٣ يوليو في مصر على أنها نظام واحد وفترة واحدة”.

لذلك يقول الباحث الدكتور محمد سيد أحمد “يمكننا التأكيد بما لا يدع مجالا للشك أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها، فإذا أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع وأحدثت تغييرا حقيقيا في خريطته الطبقية المختلة وتم إعادتها إلى توازنها بحيث تبرز الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الدنيا الفقيرة والكادحة والمهمشة نكون هنا أمام ثورة حقيقية، وإذا لم يحدث التغيير الجذري في بنية المجتمع وظلت الخريطة الطبقية المعتلة كما هي فإننا أمام أي شئ آخر غير الثورة”.

ويضيف محمد سيد أحمد “لذلك نستطيع أن نقول وبقلب وضمير مستريح وبعيدا عن أي مواقف غير موضوعية أن ثورة 23 يوليو 1952 هي الثورة الحقيقية الوحيدة حتى اللحظة الراهنة في تاريخ الشعب المصري، لأنها الثورة الوحيدة التي أحدثت تغييرا جذريا إيجابيا في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي الثورة الوحيدة في تاريخنا التي انتصرت للفقراء والكادحين والمهمشين ومكنتهم من حقوق المواطنة، وهو ما أدى إلى حدوث حراك اجتماعي صاعد لقطاعات واسعة من أبناء الشرائح الطبقية الدنيا تمكنوا من العبور والصعود والاستقرار بكرامة في فناء الطبقة الوسطى”.

ورغم الانتقادات التي يوجهها الدكتور خالد فهمي إلى التشوهات التي أحدثها نظام يوليو والتي على رأسها تغييب البنية المؤسسية وانعدام استقلالية الصحافة، إلا أنه يرى أن “ما تبقى من ثورة هو جانبها المتسلط المهيمن فقط، بينما المكاسب الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي حققتها ثورة يوليو تبخرت”، ويضيف “لا يمكن الاستخفاف بهذه الإنجازات يوم أن تحققت، وبهذا المعنى يمكن وصفها بأنها ثورة، فهناك طبقة جديدة صعدت، وهناك طبقة من الملاك والأرستقراطية انحصرت، حققت (ثورة يوليو) إنجازات هامة اجتماعية واقتصادية رفعت ملايين من المصريين بشكل حقيقي وخطابها كان يحدثهم بشكل جاد، وكان عبدالناصر أول حاكم مصري يخاطب المصريين”.

نستكمل مع الدكتور زهدي الشامي الذي قال إنه “مما لاشك فيه أن ثورة ٢٣ يوليو هي جزء من موجة تحرر عالمية كبرى مناهضة للاستعمار وساعية إلى إجراء تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة في بلادها، شاركت فيها بلدان كثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان مؤتمر باندونج الشهير هو المعبر عنها وعن طموحها في التحرر والتنمية والتغيير الاجتماعي والإصلاحات الزراعية والتصنيع وخلافه وعرفت بـ(روح باندونج). وكان ناصر أحد زعماء تلك الحركة العالمية جنبا إلى جنب مع شواين لاى ونهرو وسوكارنو وغيرهم”.

وأردف “ومصريا فقد حققت 23 يوليو إنجازات متعددة، من تحقيق الجلاء ومناصرة حركات التحرر العربية والإفريقية، وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي. وقد أحدثت الثورة تحولات اجتماعية لا يمكن إنكارها تمثلت في الإصلاح الزراعي الذي قلل بدرجة معقولة من التفاوت الاجتماعي في الريف وإن كان لم يقض عليه، وتعميم مجانية التعليم والعلاج، وتحسين الحد الأدنى للأجور وخلافه. وعموما زاد نصيب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي من ٣٨ % في عام ١٩٥٠ إلى ٥٠ % في عام ١٩٦٧، وهي زيادة ملموسة. وللأسف فقد اتجه للانخفاض منذ سنوات الانفتاح”.

وتابع الشامي “وفي مجال التنمية الاقتصادية شهدت البلاد تحسنا كبيرا، رغم عديد التناقضات والنواقص التي سنعود للحديث عنها.  وقد كان معدل التنمية مرتفعا في النصف الأول للستينات وصل إلى ٧.٥ في المائة وهو من المعدلات العالمية المرتفعة. والأكثر أهمية أن الصناعة كانت هي قاطرة التنمية ووصل معدل النمو فيها إلى ٨.٥ في المائة، وهو معدل لم نستطع الوصول له بعد ذلك أبدا”.

من جانبه، يشير الباحث الاقتصادي، إلهامي الميرغني إلى أنه “واكب حركة التأميمات في الستينات حركة تعينات كبري في القطاع العام والحكومي بوظائف ذات أجور مناسبة وقيمة ومكانة اجتماعية متميزة. وكان يوجد نظام تكليف لعدد من الخريجيين في الطب والصيدلة والهندسة والزراعة والتربية بحيث كان الخريج مستقر ويجد وظيفة محددة بمجرد تخرجة”.

وأضاف “كما تم استحداث تشريعات للتأمين الاجتماعي والتأمين الصحي لضمان الحماية من اخطار الشيخوخة والعجز والوفاة واصابات العمل وأمراض المهنة”.

لكن.. هل يعني ذلك أن سياسات يوليو بلا خطايا أو تشوهات؟

يرى زهدي الشامي أن أي تناول موضوعي لنظام  ٢٣ يوليو فى مصر ينبغي أن يمتد مع ذلك للتقييم والنقد الموضوعي للتناقضات والأخطاء والتشوهات.

ويضيف “ابتداء بالأداء الاقتصادي ينبغى أن نسجل عديد الملاحظات، جنبا إلى جنب ما أشرنا من انجازات”.

ويوضح “في المقدمة ينبغى أن نشير لفلسفة تمويل التنمية، وقد عبرت عنها بدرجة ما سماه ميثاق العمل الوطني لعام ١٩٦٢ بـ(المعادلة الصعبة). وجوهر المعادلة المذكورة كيف يمكن أن نزيد الإنتاج وفي نفس الوقت نزيد الاستهلاك والإدخار. وارتبط بذلك الفكرة الأخرى القائلة (عدم التضحية بالأجيال الحالية من أجل أجيال لم تأت بعد)، في إشارة واضحة لنقد النموذج السوفيتي والصيني للتنمية”.

لكن الشامي ينبه إلى أن “هذه أفكار تحتاج لاثبات صحتها، وقد تعذر ذلك عمليا، وكانت في الواقع مرتبطة بقدر واضح من التعويل على تمويل خارجي بدلا من بذل جهد أكبر لتعبئة الموارد المحلية والتراكم الداخلي. صحيح أن هذا الاعتماد على مصادر خارجية لم يصل إلى نفس الدرجة التي وصل لها فيما بعد عقب سياسات الانفتاح، ولكنه كان رغم ذلك مرتفعا بدرجة ملحوظة، ووصل في بداية الستينيات  لحوالي ٣٠ في المائة من الاستثمارات المنفذة. وقد تجلى ذلك في تزايد عجز المعاملات الخارجية وخاصة ميزان العمليات الجارية من ٢٣.٦ مليون جنيه عام ١٩٦٠ إلى ١١٠ مليون جنيه عام ١٩٦٥”.

ويستدرك “وقد ترافق مع ذلك بالضرورة قدر من التوسع في تمويل الموازنة بالعجز مما أدى لظهور ضغوط تضخمية وارتفاع الرقم القياسي للأسعار من ٣٤٣ عام ١٩٥٢ إلى ٥٥٨  عام ١٩٧٢ ( سنة الأساس ١٩٣٨ = ١٠٠)”.

ويضيف “ونتيجة لذلك فقد تأزم الوضع الاقتصادي وتم تأجيل تنفيذ الخطة الخمسية الثانية التي كان من المفترض أن تنفذ في الأعوام ١٩٦٥ – ١٩٧٠، ولم تدخل أبدًا حيز التنفيذ. وهكذا فالذي نفذ من الخطط الخمسية كانت فقط الخطة الخمسية الأولى ١٩٦٠- ١٩٦٥”.

واقترانا بذلك، حسب الشامي، فقد تأثرت عمليا خطة التصنيع، وتأجل تعميق التصنيع الثقيل وتعميق صناعة الآلات والمعدات التي هي أساس التنمية الحقيقية. وبالتالي ظلت الصناعة المصرية متوجهة بدرجة أكبر إلى الصناعات الخفيفة والاستهلاكية في إطار ما نعرفه بأنه نموذج التصنيع بـ (إحلال الواردات) فلا هي شابهت النموذج السوفيتي والاشتراكي الذي أعطى الأولوية والأسبقية لنمو قطاع الصناعة الثقيلة وصناعة الآلات والمعدات ( مايسمى الفرع أ) ولا شابه التصنيع في أمريكا اللاتينية الذي بدأ بإحلال الواردات ولكنه بدرجة أو أخرى طور نفسه بعد فترة نحو التصدير أيضا.

واكتملت المأساة بعد اتباع السياسات الانفتاحية بتفكيك الصناعة وتصفيتها وفق المخططات التي نعرفها جميعا.

ويسترسل “من الضروري أن نشير ولو بسرعة لتشوهات مهمة واخفاقات كلفتنا الكثير وأقصد بذلك التشوه البيروقراطي في الدولة الذي أساء للديموقراطية، وهو تشوه اعترف به جمال عبد الناصر بعد مظاهرات ١٩٦٧ و١٩٦٨، وحدث حراك لمعالجته بعد بيان ٣٠ مارس، ولكن المشكلة ظلت قائمة ولم يجر حلها من جذورها. والإخفاق الكبير الثاني هو الإدارة السيئة لأزمة ١٩٦٧ مما أدى للنكسة الشهيرة التي ألحقت بنا ضررا جسيما أعتقد مازلنا نعاني من آثاره حتى اليوم”.

ويشدد الشامي على أنه “بدلا من الانحيازات الأيدولوجية المشوهة والساذجة، ما أحوجنا لإمعان التحليل و النقد الموضوعى الشامل لتجربة ٢٣ يوليو التي مازالت تعد أهم مراحل تاريخنا  المعاصر، ولا تمثل فقط الماضي بل أنها مازالت كامنة  حتى فى الحاضر”، مضيفا “أقصد بالخيارات المشوهة والمبسطة تلك الأكليشيهات التي تحاول إما التهجم على ثورة ٢٣  يوليو، وهي شائعة للغاية اليوم، أو حتى الانتصار لها بالتغافل عن القراءة النقدية الواعية للتجربة بإيجابياتها وسلبياتها”.

ويلفت الشامي الانتباه إلى أنه “من المدهش تناول بعض المجموعات والاتجاهات، وأبرزها الاتجاهات الإخوانية والليبرالية، وحتى المسلسلات التي يتم إنتاجها اليوم، للعهد الملكي على أنه كان جنة الله على الأرض، متجاهلين تماما ما شهدناه بأعيننا جميعا نحن الجيل الأكبر سنًا، وما أكدته كل الدراسات المصرية والأجنبية علمية كانت أم أدبية من وقائع الفقر والبؤس العام والمرض والظلم الاجتماعي المستشري في مصر حتى الثلاثينات والأربعينيات. شهادات تمتد حتى لما يشاع عن ديموقراطية العهد الملكي التي كانت أكذوبة كبيرة لحكم أحزاب الأقلية الموالية للقصر معظم السنوات -حكم الوفد حزب الأغلبية في ذلك العهد لفترات متقطعة لم تزد عن ١١ سنة- بفعل آلية التزوير الحكومي القديمة قدم تاريخ الانتخابات المصرية ووثقها ضمن من وثقوا توفيق الحكيم في كتابه الشهير (يوميات نائب في الأرياف)”.

للحديث بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *