محمد عيسى يكتب : فعلها الخبيث الغادر بك يا أبي !

” سامحني يا أبي… وسامحني لأني لم أنُجب لك حفيداً يفعل بيّ ما فعلت بك يا أبي ! “
بهذه الكلمات اعتذر محمود درويش في مقاله “لم نكن على موعد”، المنشور في 25 مايو 1987م، إلى والده الذي كان يريد له ولداً يسنده، فكان الشاعر الفلسطيني وقتها يمازحه قائلاً: “أتريد ليّ ولداً يفعل بيّ ما فعلت بك يا أبيّ؟” ليرد عليه أبيه : ” تلك هي الدنيا، قلبي على ولدي، وقلب ولدي عليّ حجر! “
طالما قرأت هذه الكلمات، وكانت دائما ما تصل إلى قلبي، ولكنها لم تلمس قلبي في أي مرة قرأتها فيها مثلما لمست قلبي حين تذكرتها وأبي يقول ليّ وهو طريح أحد أسِرَّة العناية المركزة: ” ربنا يفرحني بيك يا محمد “
في ديسمبر 2019م، جاء إليّ والدي في المنام، لم يوجه إليّ أي حديث، ولكنه ابتسم وأشار إليّ بيده بالسلام، ثم فتح باب البيت وغادره، ومن فرط ما كان الأمر بالنسبة إليّ حقيقياً، وصوت “تكة” فتح الباب كان ما زال في أذني، سألت والدتي فور ما صحوت من النوم عما إذا كان والديّ عاد من مشواره لكي أتناول معه الفطور، لتفاجئني بأن والدي لم يغادر البيت من الأساس، وأنه تناول الإفطار قبلي، لأنه على موعد مع طبيبه، بعد أن ظهرت نتيجة الفحوصات التي كان قد طلبها منه.
حين حكيت لوالدتي تفاصيل الحلم، اُخذت وامتقع وجهها ثم قالت مغمغمة: “ربنا يستر” بالتزامن مع ذهاب والدي إلى الطبيب، والغريب أنه كان يرتدي حينها ذات الملابس التي جاء إليّ بها في المنام. في هذا اليوم تم تشخيص إصابة والدي بسرطان البروستاتا، فنزل الخبر علينا جميعاً كالصاعقة، فعرفت وقتها أن سلام أبي إليّ في المنام لم يكن سلاماً عادياً، وإنما كان وداعاً
في كتابيها “أثقل من رضوى” و”الصرخة” – المنشور بعد وفاتها – وثقت الروائية المصرية رضوى عاشور إصابتها بسرطان في المخ، وإجرائها لأكثر من عملية جراحية في الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2011م، قبل أن يداهمها المرض من جديد في 2014م، ويُجهز عليها تماماً. كانت قراءتي في كتابيّ من شكلت وجداني، هو أول أحتكاك ليّ بمرض عُضال اسمه السرطان، فلم أكن حينها أقرأ بعينيّ وعقلي فقط، وإنما كنت أقرأ بقلبي ومشاعري، فانفطر قلبي وضاق صدري وأنا أقرأ عن معاناة مُلهمتي المرحومة رضوى عاشور مع المرض، ولم أكن أتصور في لحظة ما أن المعاناة التي قرأت عنها في كتابيّ الدكتورة رضوى، سأراها على أرض الواقع وأنت ترزح بين براثن الخبيث يا أبي .
بهمة عالية بدأ أبي رحلته العلاجية، وحالته بالفعل كانت بدأت في التحسن، فاستغنى عن العصا التي لم يكن يقدر على السير إلا وهو يتوكأ عليها، فما زلت أتذكر الفرحة الطفولية التي رأيتها في عينيك يا أبي حينما استجاب جسدك للعلاج .
ماذا حدث؟ والله العظيم لا أعرف ماذا حدث، لم أكن أتصور أن نهاية أبي ستأتي في غضون عشرين يوماً بالتمام والكمال. الغادر كما كان يسميه الصحفي اللامع المرحوم محمد أبو الغيط، داهم أبي على حين غرة وطرحه أرضاً، ولم يستطع أبي الفكاك منه، بل انه لم يستطع أن يغالبه.. الغادر كسر أبي وهيمن على جسده، وأحكم قبضته، ولم يتمكن أبي من التملص من مخالبه مرة أخرى .
آه يا أبي، طالما سمعت أن موت الأب يقسم الظهر، وهذا ما حدث معي يا أبي. ظهري قد انحنى وانقسم، وعزائي لنفسي أني لم أخفِ عنك ضعفي وحبي إليك، مثلما لم تخفِ أنت ضعفك وحبك إليّ وأنت طريح الفراش يا أبي حين قلت ليّ وأنت تبكي: “أنت اللي طلعت بيه من الدنيا.. اوعاك تسيبني يا محمد”، لأدخل بعدها في نوبة طويلة من البكاء، وأسير على غير هدى في الشوارع وأنا أبكي كطفل تائه من أبيه .
حين فاق أبي من الغيبوبة التي دخل فيها قبل وفاته بتسعة أيام فوجئت بأن الممرضات والممرضين والعاملات اللاتي تساعدنه في تغيير ملابسه وطبيب العناية يسألون جميعاً عن شخص اسمه “محمد”، وحين أجبتهم بأني “أنا محمد”، ردوا عليّ جميعاً بأن أبي لم يكف عن ذكر اسمي، وأنه قال لهم إنه أب لبنتين وولد، وأن الله قدره وزوج البنتين ولم يتبقَ إلا الولد، وأن غايته في الدنيا أن يزوجني حتى يطمئن عليّ، فلم يجدوا ما يقولونه لك إلا أن يمازحونك ويسألونك “ويا ترى بقى محمد ناعي همك زي ما أنت ناعي همه كده؟ “ لترد عليهم قائلاً: “محمد ده حبيبي”. وأنت كذلك – والله العظيم- “حبيبي” يا أبي .
قبل وفاة أبي بأيام لم يلتقِ بأحد من الدائرة المحيطة بيّ إلا أن يوصيه عليّ، أمي أوصاها عليّ، أخيه أوصاه عليّ، أُخْتَايَ أوصاهما عليّ، أصدقائي أوصاهم عليّ، أساتذتي أوصاهم عليّ، فلم يترك أي أحد من غير أن يوصيه عليّ.
ومَن ينعى همي مثلما نعيته أنت في حياتك يا أبتاه ؟!

لم أفهم معنى أن يتوقف عقلي عند لحظة زمنية معينة، إلا حين تلقيت خبر وفاتك يا أبي، لم أفهم معنى أنك فارقت الحياة ولم تعد موجوداً فيها، بل الأكثر من ذلك أني في كل مرة أزورك في مثواك الأخير أضبط نفسي متلبساً وأنا أقول: “عامل إيه يا بابا.. أنت واحشني أووي”، وما ألبث أن أتذكر أنك فارقت الحياة وأدعو لك بالرحمة حتى أضبط نفسي مرة أخرى متلبساً وأنا أنتظر رداً على سؤالي لك: “عايز حاجة مني يا بابا قبل ما أمشي؟” لأُذكر نفسي بصوت أسمعه حتى أستطيع استيعابه بأن الخبيث فعلها بك يا أبي، بأن الغادر فعلها بك يا حبيبي، فعلها بك مثلما فعلها برضوى عاشور ومحمد أبو الغيط؛ عليكم جميعاً رحمة الله .
6m

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *