محمد سعيد فهمي يكتب: مانيفستو الذهول

“الحقيقة مذهلة زي الخيال”، مقطع من جملة لحنية لياسر عبد الرحمن غناها عاصم فوزي وسيمون في الفصل الأخير من مسرحية ” سكة السلامة ٢٠٠٠”.. على مدار السنوات الخمس الفائته اعتدت الحقائق المذهلة، واعتقدت أنه ما دامت الحقائق أمرا نافذا، فما علي من بد بترويض الأذهلة “الذهول المتكرر”.

ذهول لحظة القبض عليّ، أول”تكه” كلابش، أول “سين وجيم”، أول سرفيس طعام، وأول “جراية” خبز، ذهول أول عرض نيابة وأول جلسة مشورة، أول دخول تقفيصة وتخشيبة وحبسخانة وزنزانة، ذهول أول صورة بالكاحول الأبيض وأنا “ماسك سبورة صغيرة عليها اسمي ورقمي”، ذهول أول زيارة ولحظة السلام والوداع.

ذهول “كل مرة تصحي تلاقي نفسك لسه مسجون”، ذهول أول إخلاء سبيل ولحظة التدوير، ذهول أول ليلة في التأديب والتغريب، ذهول أول شعرة “بيضا”، وأول مرة أسمع “حد ينادي عليا “بعمو/ أو يا عم”، ذهول اتهام شاب ليك بأنك “عشت برة السجن شوية واتجوزت وخلفت وهو لأ فمش من حقك تزعل لحد ما هو يروح”.

ذهول من كل مرة ” تتعب فيشيلوك للطوارئ فتفتكر إنها اللحظة الأخيرة فتذهل إن اللحظة دي متكررة”، ذهول مع سماع كل رسالة شوق من الأهالي في برامج “هوا” الراديو لذويهم الأمر “اللي بيوصل لتنظيم الزيارات والطبالي”، ذهول بنت في برنامج راديو تحكي لطبيب نفسي عن فقدانها الأمان بعد “ما والدها اتسجن”، ذهول لسماع ضحكات شبابية بائسة بعد محاولة للتنظير بأن “حوارا ما يجري و تعديلات لقوانين الحبس الاحتياطي و انفراجات ستتم”.

قبل شهور قليلة تعرضت لـ”مذهلة”، نادوا عليّ، وقالوا أني قد حزت “عفوا” ولأنني أتدرب منذ فترة على “مقاومة الذهول” فلم يبد على ابتهاجاً بينما ابتهج زملاء زنزانتي والزنازين المجاورة، لم يكن الأمر سوى خطأ من “المبلغ”.

لم يكن “عفوا” بل استجابة لطلب سابق لي بمقابلة مسؤول أمني، الرجل كان لطيفا للغاية ووعدني وآخرين بأن ملفاتنا ستفتح، وأن يومًا ما سنسير على “الأسفلت”، عدت إلى زنزانتي غير “مذهول” بينما الجميع ” مذهولون”، بعدها بأسابيع نقلت إلى سجن آخر ومازالت غير “مذهول”، والجميع ” مذهولون”.

“مقاومة الذهول” لا تعني التبلد وعدم الاكتراث، أو أني مللت” الذهول” ،بل هو “صراع” انتصر فيه حينا وانهزم فيه آلاف المرات.. ولا أدري إلى متى أظل مهزوما في ذهولي؟!

وأسأل نفسي هل الحقيقة هي المذهلة ؟!

أم الذهول هو الحقيقة الباقية ؟

—-*صحفي مصري محبوس احتياطيا منذ خمس سنوات رغم قرارات الإفراج عنه أكثر من مرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *