محمد البطاوي يكتب: نتفليكس وكليوباترا.. الدليل قالوا له

لست أدري لماذا قفز إلى ذهني المحامي الألمعي في مسرحية شاهد ما شافش حاجة عندما شاهدت الحلقة الأولى من مسلسل كليوباترا على تطبيق نتفليكس، ربما لأن المحامي الذكي في تلك المسرحية استطاع أن يستخلص من فم الشاهد (عادل إمام) أنهم قالوا له.. هنا قاطعه المحامي صائحا: “قالوا له.. الدليل قالوا له”.. في إشارة واضحة إلى أن الشاهد لم ير شيئا وأنه ينقل فقط كلاما متداولا.

في مسلسل الملكة كليوباترا، الذي سوقت له نتفليكس باعتباره سلسلة وثائقية، لم تحتج الباحثة التاريخية (كما يقولون) إلى محام ذكي لكي يستخلص منها كلمة قالوا له، هي قالت بمحض إرادتها الحرة في إطار التدليل على أن كليوباترا كانت سوداء: “إن جدتي قالت لي أنا لا أبالي بما يقولونه لكم في المدرسة؛ كليوباترا كانت سوداء البشرة”.

لم تسنح لنا الفرصة أن نسأل السيدة العجوز التي لا أصول مصرية لها (ولا لجدتها) عن عمر جدتها ومن عاصرتهم من أسر الفراعنة، إذ ربما تكون هي وجدتها من الفامباير الذين يعيشون آلاف السنين مثلا (ما داموا لم يتعرضوا لأشعة الشمس) وإنها قد رأت كليوباترا وتأكدت بنفسها من أنها سوداء العرق (غرب وسط إفريقيا) وليست مصرية أو أي شيء آخر.

على قدر عبثية الاستدلال وطفولية الطرح، فإن نتفليكس أخرجت كل ذلك وسط هالة جيدة من الإخراج والموسيقى وخلافه بشكل يجعل المتلقي على استعداد لتصديق أن ما يقال هو كلام علمي أو له وزن يستحق التصديق، لك أن تتخيل مثلا أن باحثا آخر قال إنه “يتخيل” كليوباترا ذات شعر أجعد ولو بشرة مماثل للون بشرته؛ بصراحة أنا خفت أكمل المشاهدة فأجده يقول إنه ابن كليوباترا أو حفيدها.

كنت أشاهد تلك الحلقة اليتيمة من باب الفضول ليس إلا، لم أكن قد اشتركت في المعركة الدائرة حول أصل كليوباترا وجذورها، لا لشيء إلا لأنني أعتبرها معضلة مكررة، وقضية دائمة الثورة من حين لآخر، ولأننا في كل مرة لا نحل جذورها، ولا نجرؤ على ذلك، نحن في كل مرة نرتدي مسوح الفرسان المدافعين ثم نقعد فرحين بما حققناه من إنجاز الشتائم دون أن ندري أننا زدنا الطين بلة بالدعاية السلبية، بينما الطرف الآخر قد وضع حلقة جديدة في رواية تاريخنا بعينه هو.

ليست قضية جديدة إذن، هي قضية أن تاريخنا تركناه ليرويه غيرنا، وإننا فاشلون في رواية تاريخنا، وأننا في الأغلب عندما نرويه يكون مجتزأ مهترئا مثيرا للضحك والسخرية إلى الحد الذي نتمنى أن نرى غيرنا (هوليوود مثلا) ترويه مكذوبا، ولكن أكثر احترافية وإتقانا.

خذ عندك على سبيل المثال (لا الحصر) مسلسل “رسالة الإمام” الذي أنتجته شركة مصرية مؤخرا، ثم خرج مفككا مهترئا مثيرا للسخرية مليئا بأخطاء التاريخ والشعر وكل شيء.. لا أظن أن مسلسل كليوباترا كان أعظم جناية وجرما من مسلسل “رسالة النظام” مثلا.

يجاملونهم بتاريخنا

الفارق هو أننا نتنج المسلسل كاذبا ومثيرا للسخرية، أما هوليوود فإنهم يتقنون الكذب.

هم يروون تاريخنا ليجاملوا به غيرنا.. يعني مثلا الأفريقيين المستعبدين في أمريكا؛ ظلمناهم واستعبدناهم ولا يزالون إلى اليوم يعانون التمييز في مناطق كثيرة داخل الولايات المتحدة؟ بسيطة، ما رأيك أن نرفع معنوياتهم بأن نقول إن الفراعنة أصلا كانوا من عرقية غرب إفريقية وإنهم هم بناة تلك الحضارة وإن كليوباترا كانت سوداء؟

وهكذا؛ نعيش بعقدة اضطهاد تجاه اليهود؟ بسيطة.. ما رأيك أن نقول إنهم هم بناة الأهرام وإن الفراعنة كانوا يستعبدونهم لبنائها وإنهم هم الذي دفعوا دما وأرواحا في بنائها.

طيب يا حاجة نتفليكس الأفارقة في غرب إفريقيا بنوا حضارات عظيمة وجميلة في مالي وتشاد وغيرها ولهم قصص ناصعة لا يجادل أحد في أنهم أصحابها.. اليهود أيضا لهم ملوك وحضارات، يمكنكم أن تحكوا عنها كما شئتم وتتركوا حضارة المصريين في حالها.. لا والله.. لازم أجاملهم وأقطع لهم من تاريخكم جزءا مقسوما لأظهر كمن ينتصف لحقهم ويرد لهم مظلمتهم.

في كل مرة يمكن للراوي الأمريكي أن يجامل العرقية التي يرى أنها مظلومة بأن يعطيها جزءا من تاريخنا وثقافتنا، لكنه مثلا لن يلقي الضوء على أن أمريكا لم تكن لتبنى وتصل إلى ما وصلت إليه لولا المستعبدين الأفارقة، وأنه إلى الآن هم الأقل دخلا والأقل امتلاكا للمنازل لصالح الأثرياء الذين يستفيدون منهم كأيد عاملة يحافظون على أن تبقى غير متعلمة وفقيرة.

المعضلة ليست في رواية تاريخنا وحده، في الحقيقة هي معضلة أن الراوي الأمريكي يرى أن من حقه (باعتباره يملك أداة الرواية التي هي هوليوود) أن يعيد رواية أي تاريخ، وأن يعيد قراءة أي ثقافة لكي تكون متوافقة مع منظومته الثقافية وأن يسدد بها أثمان خطاياه هو، ليس من ثقافته ولا من حضارته، ولكن من ثقافة وحضارة الآخرين.

يعني مثلا في شق مشكلة المرأة وأنها كانت في أمريكا تعاني تمييزا و.. و..، يمكن أن نعيد قراءة تاريخ أفريقيا أصلا لنقول إن المرأة كانت عظيمة وملكة و.. و.. هناك، طيب تمام؛ ماذا عما جرى عندكم يا سير جوني؟ لماذا لا تقرأ لنا تاريخك وتترك لنا تاريخنا؟

انتصارات الساموراي الصيني مثلا كانت بسبب فارسة تخفت في زي الفرسان لأن القوانين الظالمة والأعراف الجائرة كانت تمنعها من حقها في أن تقاتل وترفع رأس أبيها.. يا سير جوني كلمنا عن قوانينك أنت وأعرافك واترك للصين عاداتها وتقاليدها وأعرافها.

طبعا لا، هو يملك آلة هوليوود الضخمة التي تجعل من حقه إعادة قراءة تاريخ الدول والأمم ليراضي الأفرو -سنتريك مرة، والنساء أخرى، والمثليين ثالثة، واليهود رابعة.. وكله من تاريخ وثقافات الضعفاء الذين لا يحسنون الرواية ولا القراءة.

على أي حال هي ليس غلطة نتفليكس حتى نشبعها شتما (وتروح هي بالتاريخ)، هي غلطتنا نحن، وما دمنا لا نروي تواريخنا فعلينا أن نرى كليوباترا مرة بيضاء ناصعة شقراء، أو سوداء من غرب إفريقية، أو حتى لو رأيناها يابانية.. لا مشكلة، على الأقل لن نتفاجأ بها في أي من تلك الأفلام والمسلسلات تغني أغنية شعبية لحسن شاكوش مثلا باعتبارها من مروياتها الأثرية البطلمية القديمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *