رحاب إبراهيم تكتب: فضاء مليء بالاحتمالات (ابداعات)

نيفين كانت مختلفة في كل شيء …بدءا من ضفيرتها القصيرة  وأطراف القُصة الهائشة والتي عبثا تحاول لمّها بالطوق البلاستيك البنّي , ووصولاّ إلى بساطة انضمامها للشلة.

جاءت نيفين للفصل في الصف السادس , وقد أوشكنا على إنهاء المرحلة الابتدائية ,وتشكلت الشلل تبعا للتصنيف الطبقي في الغالب.

 نحن أبناء الموظفين من الطبقة الوسطى “شطار الفصل ” المشاركين في الإذاعة المدرسية ومسابقات اوائل الطلبة وفرقة الموسيقا ..شلة واحدة لا تتعدى عشرة .. كنا محط أنظار المدرسين  والمدرسات الذين يعلقون على تفوقنا آمالاّ كبيرة لتحصل المدرسة على مركز متقدم على مستوى المحافظة.

باقي الفصل كان عامة الشعب ..الشعب الذي نحفظ اسمه الثلاثي لنستطيع كتابته على السبورة حين يطلب منا تنظيم الفصل ” اللي يتكلم اكتبوا اسمه “

تعليم الجاسوية مبكراّ ..هكذا اكتشفت فيما بعد.

مريم كانت من عامة الفصل ..مريم وعادل..اسمان ارتبطا ببعضهما رغم عدم وجود أي رابط بينهما في الظاهر

فقط في حصة الدين ..كانا يحملان كتبهما ويخرجان.

أبلة ليلى تقول في غيابهما : اخواتنا المسيحيين ” ونراها بالفعل في الفسحة تجلس لتشارك أبلة إيزيس الطعام والضحك

اعتدنا أن ننظر إليهما من بعيد .. ساعد على ذلك أنهما كانا في منتهى الهدوء ,ولم نر عليهما اختلافا يذكر عدا الصليب الأزرق الدقيق الموشوم عند مفصل الكف , بجانب أنهما لم يكونا يحلفان مثلا أبدا أبدا : والنبي والنبي يا أبلة …والله العظيم ..والمصحف ..والكعبة الشريفة ” الحلفان الذي اخترعه ميجو ولم اسمعه من احد غيره بعدها أبدا “

حين كان أحدهما يضطر لتأكيد موقفه يكتفي ب : صدقيني ..و …صدقني

مريم التي تميل بشرتها للسمار ..بضفيرة طويلة غليظة تنام على ظهرها ..وخصلات شعر ناعمة تنسدل على جبينها العريض .. لم تكن شاطرة ولا بليدة ..لكن ثيابها كانت دائما نظيفة .

ظلت على مسافة واحدة من الجميع ..ولست متأكدة إن كانت حظيت بأصدقاء مننا أم لا .لكني أيضاّ لا أذكر أنها تشاجرت مع أحد او أن أحدا خاصمها لسبب من الأسباب الكثيرة التي كنا نتخاصم لأجلها .

نيفين كنا نتخاصم ونتصالح معها عادي ..وكانت تحكي لنا عن الكنيسة عادي أيضاّ

“بابا حطوه ف الصندوق خلاص ..وماما نقلت المدرسة دي عشان نكون قريبين من تيتة وجدو”

والدتها كانت مدرسة للدراسات الاجتماعية ولكنها لم تدرس لنا , ولم تنقل نيفين للفصل الذي تدرس له رغم إلحاحها اليومي عليها في أول شهر , قبل أن تندمج تماما معنا وتنسى الأمر.

ولأنها أصبحت  واحدة من الشلة أصبح من حقها الاشتراك في الإذاعة المدرسية ..ولكن كيف ؟

فقرات الإذاعة تبدأ بالقرآن ثم الحديث ثم كلمة حكمة غالبا ما تكون لسيدنا علي أو سيدنا عمر ,ثم النشيد الوطني نغنيه كلنا قبل أن ننصرف.

اقترحت أبلة ليلى أن تقدم نيفين معلومة علمية قبل فقرة النشيد وأهدتنا كتاب اسمه تجارب علمية للناشئين كنا نجلس في الفسحة لنختار منه فقرة الغد ..

رغم لثغتها في حرف الراء نجحت في تقديم فقرتها دون تلعثم وصفق الجميع.

أحببت نيفين وكنت أنزعج جدا من فكرة أنها لابد ان تدخل النار في النهاية ..وكنت أحلم كثيراّ بدعوتها للإسلام ..أجلس لأجهز الكلام : انتي عارفة لو أسلمتي ربنا هيحبك وشعرك هيبقى ناعم.

لكن في الصباح لا أستطيع مفاتحتها في الأمر..مرة واحدة استجمعت شجاعتي لأسألها : هو انتي ليه مسيحية ؟

” يعني ..هو كل بلد في الدنيا بيبقى فيها نسبة كبيرة من دين معين والباقي لأ ..يعني مثلا في أوربا كتير هناك كاثوليك ..وقليل مسلمين …”

وأخذت تتكلم عن الفرق بين الكاثوليك والأرثوذكس ولم أفهم طبعا ولم أهتم بالإنصات لما تقول ..لأنني لم أقتنع بالسبب الذي قالته ولأن خطتي قد فشلت.

لم أر نيفين بعدها لا في المدرسة الإعدادية ولا الثانوية ..وسمعت أن أسرتها انتقلت للأسكندرية ..

لكن مريم ظلت هناك .. في فصل آخر غير فصلي , ألمحها في الفسحة فيطفو وجهها الهاديء كذكرى بعيدة ..نتبادل التحية من بعيد فأفرح كأنني أحيي فيها طفولتي والشلة وأبلة ليلى ..

حتى بعد انضمامي للأخوات ..ووضع قائمة معقدة من المهام أولها الانقطاع نهائيا عن رفقة أصدقاء السوء وثانيها ضرورة كراهية أهل الشرك والكفر ..كنت آتي عند مريم ولا أستطيع أن أكمل الكراهية فأفضل ألا أعبر أمام فصلها كي لا أقع في حيرة هل أرد التحية أم لا ..

لابد أنها كانت  تلحظ التغيير في مظهري وطريقة كلامي وتسمع عني وعن شدتي في الحق من زملائنا المشتركين …لكن ابتسامتها لي لم تتغير  ولا تحيتها الهادئة .

حين وصلت لامتحان الصف الثالث الثانوي كنت قد مللت فعليا من الأخوات …وبدا المستقبل فسيحا مليئا بالاحتمالات التي لا أدري كيف يجرؤون على اختزالها بمثل هذه السطحية الجافة .. كنت أبذل أقصى جهدي في المذاكرة على أمل اللحاق بكلية محترمة ولم أعد للاجتماع معهن كثيراّ

في توزيع اللجان كانت مريم على مقربة مني …ومعها ظهرت أكثر من زميلة من عامة الشعب في الابتدائي ..وشعرت كأنني عدت للوراء كثيراّ ..لكن ارتباك الامتحان غطى على الفرحة .

يوم امتحان الهندسة اكتشفت فجأة أنني نسيت المسطرة الشفافة …احمر وجهي وتعلقت عيناي بالساعة الصغيرة التي وضعتها أمامي على الدرج .. التفت إلى مريم وهمست لها : مسطرة

ناولتني إياها وأخرجت أخرى من شنطتها , وبذلك أكملت الامتحان بلا توتر ..

حين عدت للبيت اكتشفت مسطرة مريم بين أدواتي وشعرت بالخجل …الخجل والارتباك …توجد مسطرة مسيحية بين أدواتي ! مسطرة أنقذتني فعلا اليوم

في الصباح التالي وقبل توزيع ورق الأسئلة ..ذهبت إلى مريم بالمسطرة معتذرة .. ابتسمت هي : ولا يهمك يا رباب …في بيتها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *