د. زهدي الشامي يكتب: القرارات الإقتصادية.. مواجهة كورونا بعقلية ماقبل كورونا

بينما يردد الكثيرون اليوم ، ومن بينهم حكام ومتنفذون حتى فى مصر، أن عالم مابعد كورونا لن يكون نفس عالم ماقبل كورونا ، فإن اخشى ما أخشاه، وعلى ضوء سوابق الماضى، وآخرها الأزمة الإقتصادية العالمية لعام 2008 ، أنه بمجرد عبور الأزمة ، سرعان مايتناسونها، ويعيدون استنساخ سياسات الماضى بحذافيرها.

وبينما أزمة كورونا الراهنة أعمق و أشمل ، لكونها ليست فقط أزمة إقتصاد، بل وقبل ذلك أزمة حياة المليارات من البشر نفسها، فإن التخوف أكبر، بقدر ما إن الحلول والمقترحات المطروحة لم تغادر عتبة الماضى خطوة واحدة لتتنسم أفق عالم جديد أو فكر جديد، وهذا مايبدولى بصراحة من مراجعة ما يسمى حزمة الإجراءات الإقتصادية التى أعلن عنها الحكم فى مصر فى الأيام الماضية .

الإجراءات الإقتصادية حزمة إجراءات أم خليط ؟

—————————————————

لكى نستعرض الصورة ونستجمعها دعنا نذكر أولا بما يسمى حزمة الإجراءات الحكومية لمواجهة أزمة كورونا . وبشكل رئيسى وأولى ، فقد أعلنت الدولة منذ أيام عن توجيه الرئيس بتخصيص 100 مليار جنيه لتمويل الخطة الشاملة للتعامل مع تداعيات فيروس كورونا، واستبشر البعض خيرا. وفى يوم الأحد الماضى 22 مارس أعاد السيسى تأكيد هذا التوجيه، ولكن ضمن مجموعة أوسع من الإجراءات الأخرى تقترب تكلفتها الإجمالية من 400 مليار جنيه. ويدخل فى تلك الإجراءات المشار إليها مجموعة مختلطة من القرارات، بعضها قرارات قديمة، وبعضها جديد، وبعضها تتضمن تخصيصا مباشرا لمبالغ مالية، وبعضها يفتقر للتحديد، وبعضها يمول من الخزانة العامة، وبعضها يوكل تنفيذه للبنوك، وبعضها إعفاءات وتيسيرات.

وهكذا فلعل من الواضح أن القائمة مختلطة كثيرا ، ولايمكن التعامل معها كنسيج واحد لحزمة متسقة تمام الإتساق، ومن أمثلة الإجراءات القديمة التى جرى استرجاعها فى اللحظة الحالية تمويل البنوك للقطاع الصناعى بمائة مليار جنيه، والتمويل العقارى لمتوسطى الدخل بخمسين مليار جنيه، وهى إجراءات كانت مقررة فعلا ، ولايمكن فهم لماذا أدمجت فى عرض يخص معالجة أزمة كورونا . ويدخل فى ذلك الباب أيضا توجه البنك المركزى لخفض سعر الفائدة  الأساسى منذ منتصف عام 2019 ، وهو الذى اضاف له خفضا بمقدار ثلاث نقاط مئوية فى الأيام الماضية ،  ولكن هناك إجراءات جديدة من بينها مليار جنيه لدعم المصدرين ، وعشرين مليارا لدعم البورصة ، وكل ذلك مما يستدعى التوقف عنده بالتحليل .

الخطة الشاملة لمواجهة كورونا : توجيه بمليارات وتخصيص لملايين

———————————————————————–

من الواضح أن الرئيسى للغاية فى كل مايسمى حزمة الإجراءات تلك هو التوجيه الرئاسى بتوفير مائة مليار جنيه للخطة الشاملة لمواجهة كورونا . لكن للأسف فإن مايلفت النظر  أن ماهو معلن عنه حتى الآن ، ونحن فى لحظة الأزمة ، لايزيد عن مئات الملايين أو حتى لنقل مليار واحد . وكان كل ما أعلنت عنه وزارة التخطيط من تخصيص مبالغ للصحة لمواجهة كورونا قبل حديث الرئيس هو 200 مليون جنيه إضافية فقط . ثم أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولى بالأمس قرارا بتدبير مليار جنيه لوزارة الصحة بشكل عاجل لتوفير مستلزمات وقائية لمواجهة كورونا . وأظن الامر لايحتاج تعليقا ، من زاوية الفجوة الواسعة جدا بين الرقم المستهدف المعلن ، ومايتم تخصيصه فعلا حاليا فى ظل الأزمة ، بما يضع علامات استفهام حول مدى الجدية فى توفير الموارد المطلوبة فى اللحظة الراهنة ، وما إذا كان المستهدف يتوخى مخصصات طويلة الأجل قد ترتبط بالموازنة الجديدة التى يجرى إعدادها ، أو بمساعدات دولية تحاول الحكومة استقطابها ، ولكن فى جميع الأحوال فالمبلغ المطلوب ليس حاضرا بعد عند الحكومة .

الإنحياز لرجال المال ومبدأ تخصيص الأرباح وتعميم الخسائر

—————————————————————-

الأرقام الكبرى المعلن عنها كلها تقريبا، سواءا من خلال الإجراءات القديمة ، أو الإجراءات الجديدة ، موجهة لحفز ودعم رجال المال وكبار الرأسماليين . مائة مليار من البنوك  بسعر فائدة سنوى 10% ، لتمويل القطاع الخاص الصناعى . ولاحظ أنهم يوجهونها  لتمويل مايسمونه شركات القطاع الخاص المنتظمة التى يبلغ إيرادها السنوى من خمسين مليون جنيه إلى مليار جنيه  .  الحد الأدنى للإيراد لكى تحصل على تمويل هو 50 مليون جنيه ، وبذلك ترى أنه تمويل موجه للكبار ويستبعد كل المشروعات الصغيرة وكل المشتغلين المستقلين ، الذين تعانى نسبة كبيرة منهم من الإفلاس و الإضطرار للتحول للعمل بأجر عند كبار الراسماليين الممولين من البنوك والدولة . وماينطبق على الصناعة يصدق على مايسمى التمويل العقارى لمتوسطى الدخل ، والذى تتجاوز تكاليفه بمراحل القدرات الحقيقية للفئات المتوسطة التقليدية ، حيث أفاد مختصون بأن الدخل الشهرى المطلوب للحصول على مثل هذا التمويل حوالى 40 ألف جنيه شهريا . المثير و الفريد هو دعم الدولة المصرية للبورصة من خلال البنك المركزى بعشرين مليار جنيه ، وهو إجراء غير مسبوق ، يبحثون كيفية تطبيقه ، لكنه فى كل الأحوال يعنى استخدام البنك المركزى لمدخرات المصريين لمحاولة إنتشال شركاات و أسهم رجال المال من عثرتها بالتدخل المباشر لشراء تلك الأسهم ، وهم بذلك يذكروننا ، ولكن بأكثر الأشكال فجاجة ، بتعبير الراحل الكبير د . سمير أمين عن مبدا الرأسمالية المعاصرة فى تخصيص الأرباح وتعميم الخسائر . ويتعين هنا الإشارة لأن هذا التدخل الإنقاذى الحكومى لبورصة تعانى من موجة خسائر وهبوط مطرد  متنذ فترة ، لم يجد كثيرا ، ولم تنتعش البورصة بعده سوى ليوم واحد ، قبل أن تعود لمسلسل الخسائر والهبوط ، المرتبط بخروج الاموال الساخنة التى تم استقطابها فى مرحلة ماقبل الأزمة العالمية .

الفئات الشعبية غائبة رغم محاولات التجمل

————————————————

من نوافل القول أن إقحام  قرارات من نوعية علاوة 14 فى المائة للمعاشات ، أو ضم العلاوات الخمسة الصادر بها حكم قضائى نهائى الذى أصدرته المحكمة الإدارية العليا فى 21 فبراير عام 2019 ، بعد سنوات من النضال القانونى فى المحاكم ، ثم  وعد بالتنفيذ ، تملصوا منه لمدة 13 شهرا ، فى حزمة  القرارات ليس بوسعه تجميلها . وربما لو نفذوا الحكم فى توقيته ، أو صدقوا بعد ذلك فى الوعد الذى قالوه عنه ، لكان للامر وقع أفضل ، أما اليوم ووسط كل تلك الإجراءات ، فلاوقع ولا لون ولا طعم ولارائحة . وقد زادوا الأمر سوءا بقانون جديد للتأمينات صدر بدون الإلتفات لمطالب و أراء أصحاب المعاشات و عديد من الخبراء المعروفين على رأسهم وزيرة التأمينات السابقة ميرفت التلاوى ذاتها ، ومفادها أنه قنن للإستيلاء بشكل غير مشروع على أموال التأمينات  ، ووضعها تحت وصاية وزارة التضامن الإجتماعى خلافا لما هو مقر دستوريا من أن أموال التأمينات أموال خاصة ، كما أن به عوار دستورى فى كثير من مواده . وحتى عندما قررت الحكومة خفض سعر الغاز للمصانع إلى 4.5 دولار ، فلم تطبق ذلك على غاز المنازل و الكهرباء للمستهلكين رغم الإنخفاض الكبير لأسعار الغاز والوقود عالميا . إنهم ينظرون فقط للفقراء والشرائح الشعبية الواسعة كمستهلكين مستهدفين يحاولون عن طريقهم إنقاذ نموذجهم الإقتصادى المأزوم بركود عميق ، ليس بزيادة دخلهم ونصيبهم من الناتج القومى ، بل بالتوسع فى الإقراض الإستهلاكى لهم  ، لتنضم ديونهم الشخصية المتزايدة إلى نصيبهم المتزايد من الدين العام داخلى وخارجى . ولم يرد للآن ذكر لكل الفئات المهمشة والتى هى الأولى بالرعاية والدعم فى ذلك المنعطف الخطير الذى تتوقف فيه مصادر أرزاقهم ، سوى أحاديث متناثرة عن اأحاث ولجان ، ودراسة لعمال اليومية ، لبحث إمكانية تقديم دعم لهم يقدرونه بخمسمائة جنيه شهريا . وفى كل الاحوال فإن ذلك لايعدو أن يكون مبلغا هزيلا فى تلك الظروف ، كما إن تقديراتهم لاتتجاوز بضعة مئات الآلاف  من هؤلاء المياومين ، فى حين تشير البيانات الإحصائية أن عدد العاملين غير المشمولين بالتأمين الإجتماعى فى القطاع الخاص المنظم وغير المنظم يتجاوزون عشرة مليون مشتغل ، ومن الواضح  فى الحد الأدنى أن دعم ةهؤلاء فى لحظة الأزمة ضرورة إجتماعية  ، وضرورة اأضا للأمان الإجتماعى ،و أن تكلفة دعم هؤلاء لشهرين أو ثلاثة ، لاتتجاوز نسبة محدودة من حزمة من حزم الدعم التى أعلنت عنها الحكومة لكبار الرأسماليين .

 كلمة واحدة أخيرة : إما سياسة جديدة أو الكارثة، ونضيف لهم وللجميع : من المؤكد شاء من شاء وأبى من أبى أن العالم بعد كورونا لن يظل هو العالم قبلها !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *