د. زهدى الشامى يكتب: الموجة الثالثة لتراجيديا نهب أموال المصريين

نشطت القرارات الإقتصادية المرتبكة الأخيرة فى قطاع البنوك ذهنى وذاكرتى وكأننى استرجع مشاهد شريط سينمائى انزوت بعض مشاهده قليلا لغياهب النسيان، فإذا مايحدث ينبهنى لحقيقة أننا نشهد موجة جديدة لسياسة قديمة، جوهرها نهب صريح أو مقنع لأموال ومدخرات ملايين المواطنين المصريين .

والأصل فى السياسة الإقتصادية الناجحة يكمن فى رفع معدل الإدخار لنسبة تمكن من تمويل الإستثمار لتحقيق معدل مناسب للنمو الإقتصادى، وأن يكون معدل الفائدة عقلانيا ومتوازنا، بحيث يجذب المدخرات، وفى نفس الوقت لايؤدى لطرد الإستثمار. ويرتبط النجاح فى جانب منه بربط الإدخار و الإستثمار من خلال مؤسسات تمويل رشيدة يرى العديدون، وأنا منهم، أنها يجب أن تكون البنوك، وليس البورصة، وتذكروا هنا مثال مصر التاريخى الكلاسيكى، بنك مصر كما تخيله وأسسه سابقا طلعت حرب، ولكن للأسف لاتجرى الأمور فى مصر اليوم على هذا النحو .

ومن المستقر عليه أن معدل الإدخار المطلوب لتحقيق نموا مقبولا يجب ألا يقل عن 25 فى المائة، وهو المعدل الذى تحققه كثير من الدول النامية، ولا نتحدث هنا عن العملاق الصينى الذى يقترب فيه معدل الإدخار من 50 فى المائة. ولكن حكومات مصر المتعاقبة حققت على عهد مبارك معدلا حول 14% فقط، وقد إنخفض فى العهد الحالى إلى 7% فقط . ومن الطبيعى فى ظل هذا الوضع المختل هيكليا أن تلجأ الدولة باستمرار إلى الإقتراض على نحو مستمر، وتلك كارثة فى حد ذاتها .

فلنتذكر كيف نهبوا عبر سنوات مدخرات المصريين

————————————————-

من البديهى أن الإدخار لايمكن أن يرتفع إذا لم يجد بيئة حاضنة وسياسات مشجعة ومحفزة ، ولكن ماذا جرى فى مصر خلال كل السنوات السابقة غير كل مايعصف بالإدخار ، وتوجيهه للإستثمار فى مجالات إقتصادية رشيدة ونافعة، وكأننى أشفق على أبناء وطنى الذين كلما تم توجيه الدعوة لهم للإدخار، إلا وانتهى بهم الأمر إما إلى ضياع أموالهم كلها، أو على الأقل نسبة كبيرة منها.

وقد شهدنا الموجة الاولى من نهب مدخرات المصريين منذ منتصف الثمانينيات ، تحت سمع وبصر حكومات مبارك حينئذ، وبتشريف وزراءه، بل رئيس وزراءه نفسه، ناهيك عن مشايخ مشهورين، فى مأساة ماسمى بشركات توظيف الأموال. وتم الإعلان عن معدلات عائد لايحلم بها المواطن، غير أنه لم يحصل عليها فى الغالب سوى لشهرين أو ثلاثة ، قبل أن يخسر أمواله، فى حين فاز كبار المسؤولين بكشوف البركة الشهيرة. وبعد ان وقعت الكارثة، وتحول الأمر للقضاء والمدعى الإشتراكى وخلافه ، لم يحصل المواطنون فى النهاية سوى على الفتات الذى تبقى من تحويشة عمرهم .

 وتجلت موجة النهب الثانية لمدخرات المصريين فيما عرف بتحرير سعر الصرف أو تعويم الدولار أو تخفيض سعر صرف الجنيه، سمه كما شئت. ولكن فى النهاية كان يتم خفض سعر صرف الجنيه، وصعود الدولار باستمرار، ولكن أيضا من خلال قفزتين هائلتين  متشابهتين، واحدة أيام وزارة عاطف عبيد، والثانية فى عام 2016 بالإتفاق مع صندوق النقد الدولى. وفى القفزة الاخيرة قفز الدولار من سبعة جنيهات فقط إلى نحو 18 جنيها فى أشهر معدودة، وهو مايعنى أن الجنيه الذى ادخره المواطن المصرى قد صار يعادل 38.8 % فقط مما كان عليه قبل هذا التعويم، وحتى لو حسبناه بما حدث من تضخم محلى فسيكون أقل من 50 % . ولعل هذا من أسباب تحريك سعر الفائدة ارتفاعا فى ذلك الوقت، وهو توجه كان من شأنه تقديم تعويض جزئى فقط للمدخر المحلى، بينما استفاد المضاربون الأجانب من الفائدة الاكثر ارتفاعا لأذون الخزانة المصرية ، مثلما استفاد اصحاب الودائع الدولارية من ارتفاع سعر الدولار .

اللحظة الراهنة بين الفوضى وأكل أموال الغلابة

———————————————

بقدر ما أثارت القرارات الاخيرة لمحافظ البنك المركزي من ملاحظات متعلقة بالإرتباك الذى اتسمت به، والفوضى التى أضفتها على الجهاز المصرفى، بقدر ماذكرتنى بالثابت فى السياسات النقدية والمالية عبر كل تلك السنوات، ألا وهو النهب المتكرر لمدخرات وأموال المدخرين العاديين من عموم المصريين الذين تشكل ودائعهم حوالى 70 فى المائة من إجمالى الودائع فى البلاد.

وكان الإعلان عن ذلك هو  تخفيض أسعار العائد الأساسى لدى البنك المركزى بثلاث نقاط مئوية مرة واحدة ليصل إلى 9.25 % فقط ، أى إن أسعار الفائدة قد هبطت بالتالى إلى مايقرب من نصف  السقف المرتفع السابق و الذى وصل أحيانا إلى 18% . وهذا التقلب العنيف غير المبرر ولا المفهوم فى السياسات هو ماميز دائما قرارات المحافظ الحالى للمركزى ، الذى رفع الدولار إلى 18 جنيها فى وقت كان صندوق النقد يطالب فيه ب11أو 12 جنيها فقط ، ثم الرفع المتوالى لسعر الفائدة ، ثم الهبوط الهائل به، وهو مستوى من الفائدة من المنطقى أن يكون طاردا للإدخار من البنوك، حيث أنه، وفى ظل مستوى تضخم متوقع قبل الكارثة الأخيرة هو 9% أيضا، يعنى أن العائد الحقيقى صفر، هذا إن لم يصبح سلبيا .

وعلى ضوء تلك الحقيقة حدثت الفوضى، عندما احتفظ أكبر بنكين تجاريين  وهما الأهلى و مصر، ، بسعر فائدة أعلى، ثم أصدرا شهادات إدخار بلاتينية بفائدة 15% ، وهو ما أسهم فى سحب المواطنين لودائعهم من البنوك الأخرى والتوجه لشراء الشهادات الجديدة التى باع البنك الاهلى ماحصيلته 25 مليارجنيه فى عدة أيام . وكان ماكان من التدخل الإدارى للمركزى لتقييد حق الناس فى سحب ودائعهم.

 والخلاصة هى انه إذا كانت البنوك الكبرى لن يمكنها الإلتزام بقرارات البنك المركزى فى التقيد بسعر فائدة منخفضة لهذا الحد و إلا خاطرت بفقد عملائها، فالواضح أن الحكومة وبنكها المركزى، واللذان يستهدفان بشكل رئيسى خفض فوائد الدين الحكومى الهائلة، لن يكون أمامهما فى النهاية إلا الإعتماد على المدخرات الإجبارية للمواطنين، و أهم مصادرها أموال التأمينات، لكى تدفع لها هذا العائد المتدنى، وتترك لأصحاب الحظوة أسعار الفائدة الأعلى، فى ظل بروز فوضى تعدد اسعار الفائدة .

هل من حاجة إذن لشرح إضافى حول لماذا سلقت الحكومة قانون التأمينات لتحتفظ   بسيطرة وزارة التضامن عليها ، بدلا من تركها لأصحابها لإدارتها باعتبار أنها دستوريا أموال خاصة ؟ وتبقى المعادلة حلب أموال الفقراء ، والدعم للأثرياء ، ولاغضاضة فى ظل ذلك أن تذهب مليارات الغلابة المسلوبة لدعم رأسمالييى البورصة بعشرين مليار جنيه إضافية !

One thought on “د. زهدى الشامى يكتب: الموجة الثالثة لتراجيديا نهب أموال المصريين

  • 1 أبريل، 2020 at 11:11 ص
    Permalink

    د. زهدي، وصف تفصيلي صحيح. في رايك لماذا تقوم الجكومة بهذة التصرفات الضارة؟؟!!

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *