د.حنان طنطاوي تكتب: أبانا الذي في الضوء (1-2)

(تدوينة عن انطفاء الحُرقة، واشتعال الضوء؛ في لحظة تناول فيها محمد أبو الغيط وأحمد خالد توفيق.. كنافة محشية بالبسبوسة) أبكي منذ أيام بحُرقة، لا أعرف إن كانت كلمة “حُرقة” هي كلمة عربية صحيحة، أو أنها في الأصل كلمة دارجة، لكنها بالتأكيد كلمة فصيحة؛ فهي تفصح بحق عن كمدي الممتزج بصهد السخط! أعترف أني لا أتقبل خبر وفاة د. محمد أبو الغيط. أكتب هذا وأستغفر الله في سري وجهري. أعلم أن الإيمان الحق يقتضي الرضا دون اعتراض على حكمة الله وقضائه، وأن لا نقول إلا ما يرضي ربنا؛ ” لله ما أخذ ولله ما أعطى، إنّا لله وإنا إليه راجعون”. أحاول.. لكني لا أستطيع التنكر لغضبي. أتساءل: لماذا؟! لماذا يتجرأ المرض والموت على زهرة شبابنا؟! لماذا فقد د.محمد أبو الغيط وعيه قبل أن يرى احتفاء قرائه بكتابه الأول “أنا قادم أيها الضوء”. لماذا رحل دون أن يتسنى له الوجود بيننا –في مصر- وملامسة كل تلك المحبة، كما قال في كلمته المصورة التي ظهر فيها قبل أيام من مغادرته. قالها ثم ابتسم، تلك الابتسامة التي خدعتني بما فيها من نور ونبض وحياة. استطاعت أن تغطّي بودّها وجمالها على قسوة عظام وجنتيه البارزتين، وتمكنت بحضورها وسطوعها من هزيمة الأنبوب المتطفل الذي ظهر مصاحبًا له، يحتل بعضًا من ممراته الهوائية! ربما كانت هي ذاتها الحُرقة التي تلهب قلبي وأنا أتابع زهرات فلسطين؛ تُدهس يوميًا ببيادة احتلال لا يتوانى عن ممارسة كل أشكال العنصرية، والانتهاك، والقتل، حتى وصل لقتل المراسلين الصحفيين أمام كاميراتهم! وقصف البيوت السكنية بالصواريخ أمام عيون العالم! ذات الغصة، وذات التساؤل، نعم، لكن التجسيد الواضح لملامح العدو، واستقلال قراره وإرادته في الظلم والسلب والاعتداء؛ ذلك التفنيد لطرفي المعركة، مع من أقف وضد من أحارب، يقلل الألم. خاصة عندما يصاحبه ذلك الفخر بأسود فلسطينية؛ تزأر أعمارها في وجه ذلك الاحتلال. يقهرون الموت، ويربكون العدو، فيتموّه الوجع قليلًا، تماما كما تُشوش زغايد أمهاتهم على عويل القلب! فديت العِظام الثايرة ع المخابئ.. تحكي عن عِظام…فيهم سر بارئ يوَصّف المُعافى ويرادف الخالق عِظام وبارزين ف عيونّا أشهاد ع اللحم الل حارِق.. نسيجه وجع ع الصامد المناضل.. إلل مِنّه اتبدَع وطن وقايم.. بعظام الجدع محاوطاه بتحميه.. كما الأكباد نظمت هذه الخاطرة القصيرة في مطلع سبتمبر؛ تغنيًا بانتصار الأسير المحرر خليل عواودة بعد إضراب كامل عن الطعام لمدة 172 يوم، تحدى فيهم جيش الاحتلال، وأجبره على تحريره بجسده الهزيل، وعَظَمة عِظامه البارزين! نعم، كما كنت أقول: عدو واضح، ومعركة واضحة. بعد هذا التاريخ بشهر تقريبًا يدون محمد أبو الغيط على صفحته: (كل يوم حين أذهب للنوم، أكتشف أني لا أستطيع بسبب آلام احتكاك عظام ركبتايّ. أصبحت نحيفاً جداً وركبتي عظمية بارزة. أحل المشكلة بوضع وسادة أو لحاف أو ما شابه. بعد كل هذه الشهور لم أعتد على جسدي الجديد. كل يوم نفس المفاجأة في نفس الموعد. كل يوم.) كانت هذه الفقرة مُترّخة ب 28 يونيو 2022 ومكتوبة ضمن تدوينة طويلة؛ يتأمل فيها محمد أبو الغيط سؤال الألم. أتساءل الآن بدوري: لماذا ينقلب علينا الجسد الذي يمكننا حينًا أن نحارب وننتصر به، فيكون هو ذاته عدوًا لنا، وتكون هزيمة خلاياه الخبيثة، هي هزيمتنا؟! لا..لا.. لا أتساءل.. بل أبكي بحُرقة! كنت قد عنونت خاطرتي القصيرة تلك -عن خليل عواودة- ب “أغنيتي عن معجزة”. رأيتها معجزة للإرادة. إرادة الامتناع وهي تنتصر على تجبر الانتهاك والاعتداء! في تدوينته المنشورة يوم 29 نوفمبر، استهلها محمد أبو الغيط بمقطع مقتبس عن الحب للإمام ابن حزم الأندلسي، ثم أردف يؤرخ: ( 30 أكتوبر 2022.. يتكور جسدي على السرير بينما أكتم صرخات الألم. أقر وأعترف أني أتعذب لارتكابي جريمة خطيرة: الأكل.) عنون محمد أبو الغيط هذه التدوينة ب:”وردتي البيضاء الخارقة” واستعاد فيها بين صرخات الألم، أجمل وأعظم محطات الغرس والنمو لوردته الخارقة! يتحدث في أولها عن تحسن صحي مكّنه من الاحتفال بعيد ميلاده مع أسرته، بَيْد أن مشاركة طفيفة لهم في الطعام، حكمت عليه بالعودة للحبس الإجباري في المستشفى! لا أعرف إن كانت مجرد صدفة، أو ربما كان تقاطعًا قدَريًا يدعونا للتأمل؛ أنه في نفس الوقت تقريبًا الذي دوّن فيه محمد أبو الغيط جُرْم الأكل، كان علاء عبد الفتاح يكتب في خطابه لعائلته معلنًا تصعيد إضرابه الجزئي عن الطعام -البادئ منذ شهور- ليصبح إضرابا كليًا مع بداية نوفمبر، ثم يتطور لإضراب كلي عن المياه بدءًا من يوم 6 نوفمبر. فتقوم الدنيا على ساق واحدة! وعلاء عبد الفتاح جالس في محبسه في زاوية مظلمة، ربما، أو حتى مضاءة –إجباريًا- بلا انقطاع، بسبب المراقبة بالكاميرات، لا أعرف. ما أعرفه أنه استطاع أن يستحوذ على مئات العناوين في المقالات في الصحف المحلية والعالمية، وأن يوجّه عيون الكاميرات على أختيه؛ منى سيف وسناء سيف. استطاع أن يلهم الآلاف للتضامن معه، وكلف آلافًا آخرين مجهود الاشتباك معه والاعتراض عليه، كما استطاع أن يحفز عددًا كبيرًا من الكوادر في العمل الحزبي والصحفي، للإضراب الجزئي عن الطعام؛ تضامنًا معه ومع معتقلي الرأي من الصحفيين وغيرهم! كنت أتابع بمزيج من الفخر والغبطة أخبار إضراب منى سليم، ورشا عزب، وإيمان عوف عن الطعام، واعتصامهن في نقابة الصحفيين، وبياناتهن القوية للنقابة؛ يطالبن فيها بحقوق الصحافة الحرة، وتضامن معها عدد كبير من الصحفيين والصحفيات. تجمدت الإضرابات عن الطعام، وتوقف الاعتصام، واجتمع يوم 3 ديسمبر ممثلو الحركة المدنية الديمقراطية، في توالي للمطالبات وإمهال للأمنيات. أحداث جديرة باستئثار مقالات أخرى غير بكائيتي هذه، التي أنشد فيها التعافي بالكتابة، عملا بنصيحة عالم النفس “جيمس بيكر”. نصح بيكر طلابه بالكتابة عن صدماتهم لمدة خمسة عشر دقيقة متواصلة يوميًا، ولاحظ بعد أشهر تحسن صحتهم البدنية والنفسية! لازلت أبكي وأكتب بحروف باهتة وأفكار سائلة. أراجع ما كتبته، فتقتحم ذاكرتي فقرة -أحببت وفاءها وصدقها وموضوعيتها- كتبها محمد أبو الغيط في تقديم كتاب “شبح الربيع” لعلاء عبد الفتاح: (هو علاء غير العادي.. يؤكد تمسكه بالديمقراطية، لكنه يطرح فكرة أن لها حقاً خصوصية في بلاد الجنوب النامية، ليست خصوصية عدم تأهل الشعب كما تروج أصوات سلطوية، لكنها خصوصية بدء الديمقراطية، بخلاف بلاد ترسخت فيها، ومن أهم شروطها الاتفاق على “أجندة وطنية” موحدة تجمع عليها كل الأطراف، ولا تتغير بالانتخابات. يقول إننا أخطأنا حين “أهملنا تثبيت الديمقراطية وترسيخ دولة القانون في المؤسسات والمجتمع الحر”، فتسرّعنا في الصدام”.) أتابع قراءة ما كتبته، وصلت لاسم منى سليم، وما تلاه عن الكتابة والتعافي، خطر على بالي الآن ما قرأته على صفحتها قبل يوم واحد من وداع محمد أبو الغيط: ( ظني بالله إنه يشمل #محمد_أبو_الغيط دومًا بمحبة ورحمة كبيرة… لأنه إنسان في كل اللحظات لا يصل لك منه، سواء كنت على معرفة مباشرة به أو دون أي معرفة، غير رقة الواثق ولين المتمكن وخفة صاحب الأثر… محمد وصل مع مرض السرطان لمرحلة الغيبوبة، أتمنى له ما يرتضيه الله له، وعندي يقين أني سأقرأ كلامه عن تلك المرحلة ذاتها يومًا ما في مكانٍ ما..) لا أعرف من أين استمدت منى سليم يقينها؟ ولست متأكدة مما تعنيه ب”كلامه عن تلك المرحلة”، لكني أعرف أني كنت على يقين أيضًا بحدوث معجزة ما، وعندما أقرأ مشاركات المئات على صفحة محمد أبو الغيط منذ أعلن عن مرضه، وحتى اللحظة الأخيرة، أجد أننا جميعًا كنا ننتظر المعجزة! ولم نكن نصدق أن تكون هذه هي النهاية! تذكرت الآن ما كتبه واقتبسه محمد أبو الغيط في تدوينته “سؤال الألم”: (قرأت كتاب “معضلة الألم” للكاتب الأيرلندي كليف لويس (سي إس لويس) حيث يناقش القضية من منظوره، كشخص غادر إيمانه المسيحي ثم عاد له… يقول مثلا: “للوهلة الأولى، تبدو قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تأبه بمعاناة الإنسان أو كفاءته، والتي لا توقفها الصلاة، كأنَّها تقدِّم حُجَّةً ضدَّ صَلاحِ الله أو قُدرَتِهِ. وأقولُ إنَّه حتَّى “القُدرة الكلِّيَّة” لا تستطيع أن تخلقَ مجتمعًا من النفوس الحُرَّة دون أن تخلق في الوقت نفسه طبيعةً مادِّيَّةً ثابتةً ومُستقلَّةً نسبيًّا”. أي أن حرية الإنسان، وامتلاكه العقل والاختيار، مشروطة بوجوده في الدنيا ذات القوانين المادية التي لا يخرقها الإله لصناعة وضع مثالي دائم. ‫”يمكننا ربَّما أن نتخيَّلَ عالمًا يعمل الله فيه باستمرار على تصحيح الأخطاء التي ترتكبها مخلوقاته بسبب الإرادة الحرَّة، بحيث تصير قطعةُ الخشب ليِّنة عندما تُستخدم لضَرْب إنسان، وصلبةً عندما تُستخدَم في البناء. وعندما أحاول أن أستخدم الهواء لنَقْل موجات صوتيَّة تحمل كذبًا أو إهانة، فإنَّه لا يتجاوبُ معي. لكنْ سيصبحُ مثل هذا العالم عالمًا يكون الخطأ فيه مُستحيلًا، وفيه تكون فكرة الإرادة الحرَّة خاليةً من المعنى” لذلك يؤكد: “لا يمتلك الله قدرةً أكثرَ من أيِّ مخلوق أن يجمعَ ما بين شيئين مُتناقضَين تناقُضًا جوهريًّا؛ ليس لأنَّ قدرتَه تواجِهُ عائقًا، بل لأنَّ الهُراءَ يظلُّ هُراءً حتَّى لو قُلْناه عن الله” والمعجزة؟ يجيب: “حقيقة أنَّ الله يستطيع أن يُعدِّل سلوك المادَّة ويقوم بذلك فعلًا في بعض الأحيان، ما يُسمَّى بالمعجزة، فإنَّ هذا جزءٌ لا يتجزَّأ من الإيمان المسيحيّ، لكنَّ الفكرة القائلة بضرورة اتِّساق العالم والمادَّة وثباتهما تتطلَّب أن تكون هذه المعجزات بالغةَ الندرة.”) تحدد الأهلة هذه الاقتباسات المتعمقة وتضع لها نهاية لغوية، لكنها تفتح أقواس أخرى على معاني واستفهامات حقيقية؛ إذاكانت المعجزة واردة، وحتى لو اقترن وجودها بندرتها، ألم يكن محمد أبو الغيط أولى بهذه المعجزة؟! أكرر: أنا لا أسأل.. أنا فقط أبكي بحُرقة! نشر محمد أبو الغيط “سؤال الألم” يوم 3 أكتوبر ليُلحقه في شهر نوفمبر بتدونتين نُشرتا على أجزاء أيام 12 و13 و29 و30 نوفمبر، يكتب فيهما عن شمسه وقمره وكواكبه (أبيه وأمه وأخوته) وعن وردته الخارقة العظيمة؛ زوجته إسراء. يكتب لهم وعنهم ويبعثر يوميات الألم بين يومياتهم، وفضائلهم، وقدراتهم الخارقة. فيكتب عن قدرة والده د.أبو الغيط على تخفيف الألم ويصفه قائلا: ( والدي هو أيضاً “السيد حامل المصباح”، قديس يخفف الآلام بإيمان حقيقي برسالته) ويكمل ابن أبو الغيط هامسًا لأبيه وعنه: ( أشعر بأنه يتلذذ حقا وهو يشرح كلمات البيت، ثم ينتقل لديوان الشافعي ويتغنى من أبياته المفضلة: دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ .. وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي .. فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ) ويكتب عن قدرة أمه التي وصفها بالملاك؛ السيدة إلهام الملهِمة والملهَمة: ( وهكذا للمفارقة كانت أمي العاطفية المثالية هي نفسها منبعا لتعليمي كثيراً عن الفصل الصارم بين العواطف والمعايير الموضوعية، وكم أفادني هذا بكل أصعدة حياتي. لكن شيئاً واحداً لم تنجح في غرسه في، وهو قدراتها الخاصة على الدعاء بيقين الإجابة. كلما ضاقت بي الدنيا وانقطعت الأسباب، وشكوت إليها، تقول لي أن وجودي كاملاً جاء على يد دعوة منها، فلا مستحيل أمام دعاء يدفع القدر. ترفض أمي الدعاء المتوارث “اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه”، لأنه يتناقض مع أحاديث نبوية تقول أن الدعاء يغير القضاء. دائما تكرر أن الدعاء والقدر يتدافعان، كأنها معركة، وأمي هي المقاتلة الأولى بصف جيش الدعاء ضد قدر مكتوب يحتاج تغييره تلك اللمسة المعجزة..) تلك اللمسة المعجزة! ترى هل لامس القدر المعجزة؟ أسأل حقًا هذه المرة. صحيح أني لازلت أبكي بحرقة، لكني أستطيع الآن البحث عن إجابة.. يوم 3 أغسطس 2022 نشر محمد أبو الغيط تدوينة “العازف ذو البذلة الحمراء” يقارن فيها بين حكم المرض الغادر، وتفوق قسوته على حكم الإعدام الغاشم! يسرد تفاصيل حالته، وتطور الورم، وفشل العلاج في إحدى مراحله، ونضاله من أجل الاستئناف في مراحل أخرى. وسط كل هذا يتكلم عن التحقيق الصحفي الذي شارك فيه و”زلزل السودان زلزالا”؛ عن تورط شركات روسية في تهريب الذهب من السودان! ثم يكمل المقارنات بمناظرة حاله بحال عازفي سفينة “تيتانك”، ويؤكد ضمن نفس المنشور: (متأثراً بدفعة التفاؤل والتحسن عدت للتفكير أني يجب على التركيز في مشروع كتاب أجمع فيه كتاباتي عن المرض، بعد توسيعها لشؤون عامة أيضا تتناول السياسات الصحية وغيرها. وأريد نشره بأقرب وقت في حياتي، لا أن يُجمع بعد موتي، كما حدث لكتاب “سأكون بين اللوز” الذي جمع كتابات الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي أثناء مرضه بالسرطان. لكني لا أعرف لو سأفعل هذا فعلا. لو سيسمح جسدي، وستسمح نفسي، وسيسمح عمري قبلهما.). سلّم محمد أبو الغيط الفصل الأخير من كتابه “أنا قادم أيها الضوء” يوم 30 نوفمبر -بشهادة صديقه الكاتب أحمد سمير ومن ساعده في تحرير الكتاب- أي قبل ساعات من غياب الوعي! لا زلت أسأل: لماذا؟! .. لا زلت أسأل: هل لامس القدر المعجزة؟ أتذكر أن سيرة حسين البرغوثي -الشاعر والمفكر الفلسطيني الذي عانى أيضًا من السرطان- وردت في مواضع أخرى من كتابة محمد أبو الغيط، مثلا؛ عندما اقتبس منه في نهاية نصه الرائع “أبنائي الخضر” : (كتب حسين البرغوثي: “شيءٌ في الجبل كان يقول لي، كلما حدقت في الزيتون والأودية المقمرة: حتى ولو بقيت لك سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين هناك.. كنت واقفا أمام الشباك، مطلا على الحرش، والصنوبر واللوز، وخطر ببالي أن بترا، زوجتي، ستنهار إن انهرت، قاوم، لا لأجلك، قاوم.” “وشعرت بأن الجبل يهتف بي: قل لها، مهما حدث، إن زرتِني، سأكون بين اللوز! ستكون شمس، ويكون نوار يتطاير في الهواء، وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل. وحتى يأتي ذلك الوقت، قاوم”) تذكرت أني قرأت لحسين البرغوثي -في موضع آخر- مقطعًا يقول فيه: (الدقة ليست الحقيقة وأنا أقول : لا تطلبوا مني لا الدقة ولا تذكر الزمن هنا .. فالزمن لكل من يمتلك معرفة مرتبة عن متى حدث هذا الحدث أو ذاك ؟ لا أدري .. أعني عندما أتأمل ذاكرتي فإن الأشياء تحدث بعد بعضها في تسلسل زمني ما ولكن هذا التسلسل ملف محفوظ في الذاكرة .. لكن القلب له ترتيب آخر .. فالقلب يرتب أثاثه حسب مدى أهمية أي حدث بالنسبة إليه ضارباً بعرض الحائط كل نظام الزمن السائد..”) فلاحظت أن محمد أبو الغيط كان يكتب بدقة، ويفند التواريخ والأيام، وأسماء الأدوية، وتشخيص حالته، ويشرح عمل الأدوية، وأفكار التجارب العلاجية، لكنه برغم كل ذلك، ظل محافظًا على أولوية القلب! فيقول: (الحب عدو الألم. أحيانا أذهب وحيداً لجلسات العلاج وأحيانا ترافقني إسراء. في كل مرة تمسك بيدي بينما أتلقى الطعنة في الجانب الأيمن من صدري أشعر بأن الألم أقل. الألم يقل حقيقة لا مجازاً والله! والرحمة عدوة الألم. ولم أرَ وسيلة أفضل لتوليد الرحمة من أن يحاول كل منا فهم آلام الآخر، أن يضع نفسه مكانه.) لازال محمد أبو الغيط قادرًا –برغم إفصاح المعلومات والتواريخ- على تشويقنا، وحملنا على التساؤل، وبث الشغف في أفئدتنا؛ ونحن نقرأ ذكرياته، ويومياته. أذكر كيف نبض قلبي وأنا أقرأ قصة حبه لرفيقة عمره؛ كيف بدأت، وكيف اختمرت، بينما تساعده هي بقوتها وتفهمها، وييسر عليه حماه دكتور السيد حسن شهاب كل متطلبات الزواج. لازال محمد أبو الغيط قادرًا –رغم التفاصيل ورصده لتطور المرض- على تخطي ألمه، وتقمص ألم زوجته وحبيبته؛ وهو يناشد الجميع في منشوره الذي كتبه يوم 8 يوليو 2022: ( أرجو منكم جميعاً، بحق من كان لي عنده لحظة ود، أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها (توفيت قبل عامين بالسرطان أيضا). أماكن كثيرة خالية على مائدة عيدها، فليعد لها واحد على الأقل). . لا زال بإمكاننا –رغم تفاصيل التجارب العلاجية المحفزة والمحبطة- سماع محمد أبو الغيط وهو يترنم بأغنية “شاي بلبن”التي كتبها لنا وهو يتحدّث عن إسرائه وعن حبهما وتوحدهما، فيقول: (أربع إیدین، أربع شفایف على الفطار، وشاى بلبن أربع إیدین، وأربع شفایف على الفطار یبوسوا بعض ویحضنوا نور النهار بین صدرها وصدره وبین البسمتین بیحضنوا الحب اللى جامعهم سوا على الفطار ویحضنوا الشمس اللى بتهز الستار وتخش من بین الخیوط وبعضها مع الهوا في الأوضة ترسم نفسها على أرضها على البساط اللى اشتروه مع الجهاز على الغرام اللى اشتروه من غیر تمن، وع الإزاز ویشربوا الشاى باللبن فى فنجانين بیصحو ا قلبى كل لیلة فى المنام وبیكتبوا بلون منور فزدقى على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام بیكتبوا بلون منور فزدقى كلمة: سلام من أغنية شاي بلبن – كلمات الشاعر صلاح جاهين – غناء يسرا الهواري (والتي كانت سابقا عضوة بفرقة الطمي) اعتبرناها إسراء وأنا الأغنية المعبرة عن حياتنا ولطالما تشاركنا غنائها.)

يتبع..‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *