د. أحمد حسين يكتب: وفاة أيمن هدهود تكشف الحقبة الأسود في تاريخ العباسية

هل تخلت وزارة الصحة عن إدارة مستشفيات النفسية للجهات الشرطية

وقفة احتجاجية في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 نظمها الأطباء والتمريض والعاملين بمستشفى العباسية للصحة النفسية، احتجاجًا منهم على إيداع أحد المدونين على مواقع الإنترنت بمدونات نقدية للسلطة الحاكمة وقتها، بمستشفى العباسية للصحة النفسية بدعوى تقييم حالته، أصدر وقتها المشاركون في الوقفة بيانًا إعلاميًا ينتقدون فيه ويرفضون أن تكون مستشفيات الصحة النفسية ساحات للتنكيل بالخصوم السياسين ويؤكدون أن المستشفيات للمرضى فقط، بالفعل بعد أيام قليلة خرج المدون إلى جهة التحقيق بتقرير ثلاثي من إستشاري الطب النفسي يؤكدون أنه سليم تمامًا من الناحية النفسية.

هذه الوقفة الاحتجاجية التي كانت في مدخل مستشفى العباسية للصحة النفسية ووثقتها وسائل الإعلام المختلفة، لم يكن يتخيل أكثر المشاركين فيها تشاؤمًا أن تأتي علينا أيامًا وتعود حقبة الستينيات التي جعل النظام الحاكم خلالها مستشفيات النفسية سجون لقهر والتنكيل بخصومه مثل الكاتب إسماعيل المهدوي والشاعر نجيب سرور و السيناريست محمد كامل حسن.

كنت أحد المشاركين ولم أكن من ضمن المتشائمين أو حتى المتوجسين خيفة من عودة تلك الحقبة التي قرأت وسمعت عنها..لي في ذلك مبرراتي، فوقتها وقبلها بعام وبعدها بسنوات كنت أعمل في إدارة الأمانة العامة للصحة النفسية، فترة كمدير لإدارة رعاية حقوق المرضى وأخرى للتخطيط والمتابعة، لم تكن حال المستشفيات النفسية في أفضل حال، ولكنها الفترة الأفضل سعيًا لتطوير هذه المستشفيات وقبلها تطهير المرض النفسي من الوصمات التي لحقت به خلال عقود مضت، فمنذ صدور قانون رعاية حقوق المريض النفسي رقم 71 لسنة 2009 كان هناك توجهًا لتطبيق سياسة “ليس هناك ما نخفيه”، صرّحت بنفسي لإحدى الصحفيات أن تقضي يومًا رمضانيًا مع المريضات بمستشفى العباسية للصحة النفسية و تفطر مع الصائمات منهن، وأن تنشر تجربتها مع الإلتزام بمواد قانون رعاية المريض النفسي، وأخريتان من الصحفيات صاحبتهما في مرور على عنابر المريضات، ودعونا جميع الإعلاميين لحفلات ومعارض لمنتجات المرضى في مستشفى العباسية للصحة النفسية، وفي مستشفى مصر الجديدة لعلاج الإدمان صرحنا للإعلام التجول فيها ولقاء من يرغب من المرضى.. ظلت تلك الحقبة التي أعتبرها من أفضل فترات الصحة النفسية تنجذب ناحية الإنكماش فتضيق أمام أية نافذة إعلامية.

حتى خلال السنوات الماضية والتي تتم فيها المحاولات الصريحة للإستيلاء على أراضي مستشفى العباسية وتحويلها لمشروعات استثمارية، لم أكن أتخيل أن حد الإنغلاق والتعتيم وصل لمثيلتها من الأماكن الأمنية، لكن عندما نتأكد أن مستشفى العباسية للصحة النفسية أصبحت سجنًا فلا عجب أن يكون عليها سجانًا.

نشرت في هذا الموقع “درب” منذ أيام معلومات صادمة لم أؤكدها ولكن ذكرت أنها الأقرب للصحة، وليتها كانت الأصح فواقع ما حدث في وفاة الباحث الإقتصادي أيمن هدهود أشد بؤسًا، أيمن دخل وحدة الطب النفسي الشرعي بمستشفى العباسية الواحدة والنصف ظهر الأثنين 28 فبراير مباشرة دون العرض على أطباء الباطنة، فالمعتاد عند دخول أي مريض إلى مستشفى العباسية للصحة النفسية بأيًا من أقسامها أن يتم عرضه على طبيب الباطنة بالمستشفى لمناظرته ظاهريًا وبيان ما إذا كان هناك أية إصابات ظاهرية فيتم توثيقها بملفه وكذلك فحصه لبيان إذا ما كانت هناك أمراض عضوية تعوق حجزه بالمستشفى وتتطلب علاجه بمستشفى عام أم لا، هذا الإجراء لم يتم مع أيمن هدهود وتم دخوله مباشرة إلى وحدة الطب الشرعي بأمر مباشر من مدير عام المستشفى واقتادت أيمن حراسة الشرطة التي أحضرته للمستشفى إلى هذه الوحدة، أيمن هدهود عند دخوله المستشفى كان به تورم بالرأس والقدمين، وفي يوم وفاته 5 مارس الماضي كان هناك اضطراب بدرجة الوعي ودرجة حرارته 38 درجة وإنخفاض بضغط الدم، لم تتحسن حالة أيمن هدهود رغم إعطائه محاليل وريدية وتوفي أيمن قبل نقله إلى مستشفى عام لفحصه وإجراء أشعة مقطعية على المخ.

لا تتوقع أنك وصلت عزيزي القاريء لأشد درجات البؤس في الرواية، هناك فصول أشد بؤسًا وأحلك ظلمة، فحالة أيمن هدهود ليست الوحيدة في مستشفى العباسية التي مرت بهذا السيناريو، لا أقصد الوفاة وأقصد سيناريو الحجز بأوامر من الإدارة مخالفة للقانون واللوائح المتبعة، فهناك العديد من المرضى سواء متهمين في قضايا تحت التحقيق أو غيرهم، أحضرتهم الشرطة وتم حجزهم في أقسام مختلفة غير وحدة الطب الشرعي وصدور تقارير بحالتهم.. المفترض والمعروف قانونًا وإجرائيًا والمتعارف عليه منذ سنوات، أن الشخص المتهم في قضية ويدعي أو يتم الشك في حالته النفسية ومسؤوليته عن الجريمة من عدمه، يودع بقرار من مكتب النائب العام بوحدة الطب النفسي الشرعي لفحصه وإعداد تقرير بحالته من لجنة ثلاثية من إستشاري الطب النفسي، ولا توجد هذه الوحدة سوى في مستشفى العباسية للصحة النفسية ومستشفى المعمورة للصحة النفسية بالإسكندرية.

لا أناقش هنا فقط قضية تنكيل أو حتى تجاوز في حق إنسان، أيضًا والخطير إنحدار إدارة الأماكن التي من المفترض أن تكون للمرضى وفقط إلى هذا المستوى، حتى أنك تستشعرعدم اللياقة عندما تسميها بالمستشفيات، لقد سلمتنا هذه الإدارة وتلك التصرفات إلى أسوء حقبة في تاريخ الطب النفسي ولطخته بأشد وصمة.. المسؤول الأول عن وفاة أيمن هدهود وقبل وفاته معاناته التي تتماثل مع معاناة كثيرين لم يكن ليتحدث عنهم أحد، هو هذا النوع من إدارة المستشفيات، وإن كنا بالفعل نسعى لتصحيح الأخطاء وعدم الإنزلاق إلى المزيد منها بإطلاق المبررات الواهية، فيجب أن يتم تحقيق معلن ومحاكمة عادلة لكل المتورطين في هذه الكوارث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *