دينا توفيق تكتب: اغتصاب البيت.. اغتصاب الوطن.. قصة شخصية تتكرر كل يوم


“.. هذا طبقي، هذا بيتي” سوزان الفرا فى بيت النقب .

لا أعرف ما الذى خطر لي اليوم لأتذكر تلك الرواية القصير للكاتبة الفلسطينية سوزان الفرا ..
وكانت صديقتى د. فاطمة البودى قد اوحت لى بكتابة مقال عنها العام الماضى فى نفس التوقيت، ولظروف ما لم يتم نشره..
واليوم تحضر الأحداث بكل تفاصيلها لذهنى لاهثة متعبة بكل اسف ……
…..

“.. … ….. هذا طبقي، هذا بيتي”
البيت على حالته .. الصالون .. البوفيه الكبير .. طقم السفرة .. الكرسى الخيزران الذي كان يجلس عليه الجد .. حتى الطبق لا يزال موجوداً على طاولة الطعام ..
خطف اليهودى الطبق والقته اخته بعصبية انتقامية حاقدة فتهشم.. هكذا صرخت الام وانصرفت ومعها ابنتها وابنها وابن اختها .. انصرفوا جميعهم من البيت المغتصب ..
وهكذا يلوح لنا الجرم تجاه الوطن والتاريخ الشخصى بقوة الاحتلال ..

“بيت النقب” سيرة ذاتية للكاتبة الفلسطينية الفرنسية “سوزان الفرا” كتبتها بالفرنسية
تم نشر الرواية للمرة الأولى عام 2010 في الجزائر باللغة الفرنسية، ثم نشرت في فرنسا وكندا .. وبعد أعوام تمت ترجمتها إلى العربية وصدرت عن دار العين للنشر عام 2019 وترجمتها الناقدة السورية “ندى الأزهري” .
جدير بالذكر ان الرواية حازت على جائزة افريقية مرموقة «يامبو أولوكَوم» التي تحمل اسم الكاتب المالي نفسه فى ذات عام صدورها .

تحكى الكاتبة قصة اغتصاب وسرقة عائلة يهودية لبيت اهل امها ببير سبع بالنقب، مثلما تعرض الوطن كله للجريمة ذاتها على أثر نكبة فلسطين حيث تاريخ تلك الحقبة التى تناولتها الكاتبة منذ 1948 وحتى الحاضر … وتمتد امكنة الرواية من غزة إلى السعودية، والجزائر، وتونس، وفرنسا، لتعود مرة أخرى إلى فلسطين على شكل زيارات وتطواف فى عدد من المدن الفلسطينية والإسرائيلية .
وان كان يمكن لنا الاشارة الى شىء فى البدء فيكون تميز الترجمة بالانسيابية، لدرجة أننى شعرت وكأن النص تمت كتابته بالعربية مباشرة دلالة على اجادة المترجمة الوصول الى روح النص .

فى بيت النقب نجد الراوية سوزان الفرا هى الشخصية المركزية التى تدور من خلالها الاحداث والتي تسرد لنا الوقائع وتتفاعل معها بطريقتها الخاصة منذ ان كانت صبية حين زارت ولاول مرة البيت الام القديم والذى طالما حكت عنه بنوستالجيا عميقة .

اما العمق فى الحكى، فيأتى من كون الروائية ابنة مناخ اوروبى غربى وفى ذات الوقت اصل عربى، الكاتبة تزودت بثقافة والدها المناضل وزوجها اللذان منحاها قدرا كبير من استنارة عقلها وتزويد مخيلتها بالاضاءات التى اوقدت ذهنها على طول الحكى الروائى منذ ان كانت صبية فى زيارتها الاولى للبيت وردود الافعال اللاحقة التى لم تستوعبها كما تعترف فى مراهقتها ولكنها حللتها فيما بعد وتفهمت ردفعل امها حيال الاسرة اليهودية المغتصبة..

بل ونتبين تمنياتها الطفولية القديمة قبل دخول باب البيت، ان يكون هؤلاء اليهود يساريين متحضريين وليسوا مغتصبين ولكن العكس تماما هو ما حدث ..

تروى وتحلل الكاتبة فيما بعد كيف انهم خجلوا من فعل امهم وهى وشقيقها انيس ولكنها فى الوقت ذاته تفاعلت عكسيا مع رد فعل ابن خالتهم سالم الذى كان مغايرا لشخصياتهم ومتخاذلا امام هؤلاء اليهود رغم ادعاء الحماس ..
وبناء على تلك الخبرة المبكرة تفهمت لاحقا معانى الاغتصاب للبيت وللوطن .

وننتبه من الفصل الاول لعبارة الام “يا بنت ال…، هذا طبقي، هذا بيتي” والتى استدارت منصرفة بعد ان كسرت مالكة البيت الجديدة اليهودية طبقا من ارث العائلة ..
وفى الرواية نجد تفسيرات أخرى لوضع اسرتها، ففى عالم غزة القديم كانت الاسرة بلغتها الفرنسية وملابسها الاوروبية عجبا ينال انتياه الاهل لانهم فى النهاية اهلهم .. ذلك النمط من الفرجة الجميلة لاناس يفخرون بوجودهم …

الاهل والوطن والعدو المغتصب ايضا وعلاقة الام والاب بتلك الكلمات، انفعالات لم تكن تشغل الراوية فى صغرها حتى تلك الواقعة فى ذاك اليوم…
ولكنها صارت اشكاليات وضعتها لتسير فى مشوار الحكى وتطوره منذ ان قررت الام تنفيذ رغبتها باصطحاب ابناءها الى بير سبع … والصدمة بأن يكون مُحتل البيت ليس يهودياً يسارياً سلس كما على عكس تمنيات الفرا وشقيقها ….

وكما ينكسر الطبق تعود الراوية إلى النكبة الذي تبعثَر فيها الفلسطينيون، لكنهم لم يستكينوا رغم ضعفهم، فهم مقاومون يصطحبون معهم حكاياتهم أينما ذهبوا ليسردوها إلى صغارهم .
ويُشكِّل زواج الأبوين حدثاً فارقاً، لأن أم الراوية كانت «مرغوبة وعسيرة المنال» تنحدر من أسرة ثرية، بينما لم يكن هاشم سوى رجل غريب لا يليق بمنزلتها الاجتماعية.
ولكن هذا الأب يأخذ العائلة تاركا فلسطين ليعمل في أحد ى بنوك السعودية في بداية الستينات، وحينما يمرض ينصحه الأطباء بالعودة إلى غزّة، لكنه يغادر إلى الجزائر في مغامرة جديدة، ويُعيّن مدرّساً للغة العربية.

تندلع حرب 5 يونيو 1967، وبالهزيمة يصبح المنفى أبدياً من وجهة نظر الراوية او المؤلِفة.
وذلك ما حدث …

وفى فصل غريب ومؤثر ، روت سوزان الفرا كيف تفتحت موهبتها عندما درست العلوم السياسية، واكتشفت الماركسية والحُب والرفاق، تاركة تقاليد الأهل وقيمهم الاجتماعية التي لم تعد تلائمها وقد ساعدها في ذلك زوجها الذي نجح فى تحرّبرها من عبودية المجتمع .. ولكنها تظل تحتفظ بسر وطنها المغتصب …

وأخيرا
ولما عادت الفرا ثانية إلى غزة .. تنقل لنا ذلك الشعور الفلسطينى الدائم بالتيه، شعور وصفته سوزان الفرا ورأت انها اورثته لابنها، ومعه حكايتها التي سيزرعها حتماً فى ذهن أبنائه في المستقبل …..

وسيردد ..
“.. … ….. هذا طبقي، هذا بيتي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *