تامر سيد يكتب.. محكمة التفتيش الفيسبوكية العليا

إن الرادع أو العقاب نتيجة الانحراف عن القانون أو القواعد والآداب العامة أو حتى العقيدة هو من الثوابت المنطقية لاستمرار قيام المجتمعات،بل إن مجتمع بلا قانون حاكم يجعل من الثواب والعقاب نتيجة حتمية مترتبة على تصرفات البشر ينقلنا إلى الغابة التي يستوي فيها الصالح والطالح والعامل والعاطل والمجرم والبريء.

ولكن من الذي يحق له إجراء المحاكمة؟ ومن الذي يملك إصدار الحكم؟ ومن الذي يناط إليه بتنفيذ الحكم على المدان؟

الإجابة وبكل تأكيد ليست للمجتمع في شكل جماعي، فهذه السلطة وفقا للترقي الحضاري ليست إلا لمن اصطلح المجتمع على ان يمنحه هذه الصلاحية من قضاء وسلطة تنفيذية وإلا أصبحت غابة، بل ان بعض المسائل العقائدية لا يحاكم عنها المعتدى عليها في الدنيا وترك أمره لله في الآخرة.

ويثور التساؤل في ذهن القارئ، هل هذه المقدمة تطلب مني مشاهدة الخطأ السكوت عنه وغض الطرف؟

قطعا ليس هذا هو الهدف، وإنما مراعاة عدم ارتكاب جريمة القتل المعنوي في حق أشخاص قد لا تعرفهم ولم تقم بالاطلاع على ظروف انحرافهم والتي لو اطلعت عليها قد يتغير وجه الرأي الذي تتبناه إلى رأي آخر ومن التأفف الكلي إلى التعاطف الكلي.

وحتى تقف على مدى الظلم الذي ترتكبه في حق المنحرف او المرتكب لسلوك إجرامي بدون الاطلاع على ملابسات وظروف انحرافه، إليك بعض من الخطوط العريضة للمحاكمات العادلة نسبيا لبشريتها.

فان إجراءات المحاكمة للمتهم بأي جريمة محاطة بقدر ليس بسيط من التعقيد والذي يصل إلى درجة بطلان كل المحاكمة ومن ثم تبرئة متهم وذلك فقط لبطلان إجراء من إجراءات محاكمته وذلك لافتراض غياب العدالة عن المحاكمة ببطلان ذلك الإجراء.

بل ويجب أن تتم تلك الإجراءات من خلال المتخصصين وهو في عصرنا الحالي القضاء والذي يمنح المتهم مهما كانت جريمته حق الدفاع عن نفسه سواء من خلال نفسه او من خلال المتخصصين من المحامين المقبولين للمرافعة، بل إن كل درجة من درجات التقاضي يقابلها درجة من درجات المحاماة حرصا على توافر الخبرة الكافية للقاضي وللمحام في مباشرة الدعوى فالقاضي الابتدائي لا ينظر القضايا في درجة النقض والمحامي الابتدائي غير مقبول وقوفه للدفاع في القضايا التي تصل الى درجة النقض.

وتأخذ إجراءات المحاكمة الوقت الكافي لإصدار الحكم المناسب والذي لا يحكم بنص القانون مجردا بمنأى عن ظروف وملابسات كل قضية بل انه في بعض القضايا يتم النظر الى ظروف وملابسات الجاني الشخصية ليصدر في حقه حكما عادلا عدلا نسبيا لكونه حكما بشريا وفقا لهذه الظروف والملابسات ، ولا يأتي الحكم إطلاقا مجردا من هذه الظروف والملابسات ، حتى ان رجال القضاء الواقف من المحامين المتمرسين في القضايا الجزائية تجد في اغلب دفاعهم ومرافعاتهم توضيح لظروف وأبعاد الجاني الشخصية بصرف النظر عن النص القانوني الذي يجرم ويدين فعل موكليهم.

والخروج عن ذلك النسق من تحرى توفير كافة ضمانات الدفاع للمتهم وإجراءات محاكمة عادلة ما هو الا ظلم للمتهم والذي هو برئ حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات، وإصدار الأحكام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي على البشر ما هو الا محاكمة غير عادلة لم يتوفر فيها ضمانات حق الدفاع وتنقل المجتمع الى القتل المعنوي للمتهم الذي قد تبرئه المحكمة من الفعل بعد دراسة موضوع قضيته.

والأمثلة عديدة في هذا الشأن، ففي الآونة الأخيرة قامت العديد من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تحاكم وترفض ظهور أحد السيدات في شرفة منزلها بملابس البحر، لدرجة التي يصل بها أحد الأشخاص لالتقاط الصور لها والفيديو ونشره وهو في ظنه انه يدافع عن الفضيلة، وبطبيعة الحال تهافت على نشر الفيديو والصور مع وصفها بأبشع الأوصاف آخرون.

وعند القبض عليها يتم الاكتشاف انها أجنبية الجنسية وان تصرفها جزء من ثقافة مجتمعها، بل والأدهى من ذلك ثبوت ابتعاد شرفة منزلها عن أقرب منزل لها بعشرات الأمتار وهي المسافة التي لا يتمكن أحد من تصويرها بشكل واضح إلا إذا كان مستخدما آله تصوير متخصصة بمزايا تقريب عالية الجودة، لنجد من كان يلعن سيدة ملابس البحر بالأمس يلعن الرجل الذي قام بتصويرها في اليوم التالي!!!

والسؤال ماذا لو كانت مصرية وليس ذلك من ثقافتنا؟

الإجابة أيضا ليس من حقك تصويرها او نشر صورها او إعادة نشر صورها مع التعليقات من نوعية (اقتلوها / ارجموها / اصلبوها على جذوع النخل)، ببساطة لأنها قد تكون تعاني من الم نفسي وقد لا تكون تملك ملابس في الوقت الراهن وقد تكون الكثير من المبررات الأخرى التي لو اطلعت عليها لملئت شفقة بعد ان ملئت غضبا ولتغير وجه رأيك وتعاطفت معها، ولكن بماذا يفيد التعاطف وقد ساهمت في زيادة عبئها وساهمت بسهم في قتلها معنويا.

انها نفس طرق محاكم التفتيش الضاربة في جذور التاريخ في عصور الجهل والاضمحلال الحضاري.

ففكرة وطريقة أداء محكمة التفتيش ليست وليدة التكنولوجيا الحديثة وانتشار السوشيال ميديا بتدخل العوام في اصدار الآراء، واليكم أحد نماذج محاكم التفتيش وطريقة محاكمتها نقلا عن موقع ويكيبديا لنتعرف على مدى ظلم مثل هذه المحاكم.

أنشئت أحد محاكم التفتيش في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك عام 1233، وكان هدفها محاربة الهرطقة في كل أنحاء العالم المسيحي، والمقصود بالهرطقة هنا أي انحراف ولو بسيط، عن العقائد المسيحية الرسمية، وقد كلف بها رجال الدين في مختلف المحافظات والأمصار، فكل واحد منهم كان مسؤولاً عن ملاحقة المشبوهين في ابرشيته، وكانت الناس تساق سوقًا إلى محكمة التفتيش عن طريق الشبهة فقط، أو عن طريق وشاية أحد الجيران، كانوا يعرضون المشبوه به للاستجواب حتى يعترف بذنبه، فإذا لم يعترف انتقلوا إلى مرحلة أعلى فهددوه بالتعذيب، وعندئذ كان الكثيرون ينهارون ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة حتى ولو لم يكن مرتكب للانحراف ليتخلص من التعذيب ، وأحيانًا كانت تعطى لهم ويبرأون، ولكن إذا شّكوا بأن توبتهم ليست صادقة عرضوهم للتعذيب الجسدي حتى ينهاروا كليًا.

ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو، بل إن كوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس لم ينج منها إلا بسبب حذره الشديد، فقد أجل نشر كتابه الذي يحتوي على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته بالضبط ! ولكن لم يكن هذا خط برينو الذي هرب من إيطاليا بعد أن انخرط في سلك الرهبنة لفترة من الزمن، فبسبب من تعلقه بالأفكار الفلسفية وتبنيه لنظرية كوبرنيكوس المدانة من قبل البابا، فانهم راحوا يشتبهون به ويلاحقونه، وعندئذ اضطر للفرار والعيش متنقلا بين فرنسا وسويسرا وإنجلترا وألمانيا، وكان يشتغل أستاذا في جامعات هذه البلدان التي يمر بها، واشتهر بالتفوق والنبوغ العلمي، بل واستبق على الكثير من النظريات الحديثة التي ثبتت صحتها فيما بعد، وبعد أن غاب سنوات طويلة عن بلاده وشعر بالحنين إليها استدرجه أحد التجار الأغنياء من البندقية، وطلب منه العودة لتعليم أولاده والعيش بأمان في بلاده إيطاليا ولكنه سرعان ما غدر به وسلمه إلى محاكم التفتيش في الفاتيكان، فقطعوا لسانه واحرقوه، وأصبح برينو منارة مشعة في أوروبا.

وأما العالم الشهير جاليليو فقد كان مهددا بنفس المصير لولا أنه استدرك الأمر في آخر لحظة واعترف بالتراجع عن نظريته المشهورة وهكذا عفوا عنه ولم ينفذوا فيه حكم الإعدام، ثم أُحيل إلى الإقامة الجبرية في ضواحي فلورنسا وأتيح له أن يكمل بحوثه وهو تحت المراقبة، ولم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بغلطتها في حق جاليليو إلا بعد مرور أكثر من 300 سنة على محاكمته!

فما يحدث الآن على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك من محاكمات مجتمعية ما هو الا أحد صور محاكم التفتيش التي تقييم قضاءها على مجرد الشبهة وإصدار الأحكام في صورة مجردة عن الملابسات والظروف.

والمصيبة الحقيقية الكبرى المترتبة على ذلك هو ما هو رد الفعل لمن اقتنعوا على سبيل المثال بإعدام أب قص شعر ابنته تماما وجاءت المحكمة لتحكم عليه بغرامة مالية خمسة الآف جنيه فمن اقتنعوا بعدالة حكمهم الشعبي سيفقدون كل اقتناع بالعدالة القضائية ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يقوم بنقل عدم قناعته في العدالة القضائية في صورة أخرى من صور المحاكمات الشعبية للأحكام القضائية الى آخرين وهو ما يذهب بالمجتمع برمته الى هاوية تنفيذ أحكامه بنفسه وعواقب وخيمة لا يحمد عقباها.

أوقفوا المحاكمات المجتمعية،ولا تحاكموا الحياة الخاصة للبشر، كل البشر من حقهم يقفوا ويكملوا ويتوهوا او يوصلوا.

تامر سيد المحامي بالنقض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *