الفنان خميس البحري من «البحث الموسيقي» لـ«عيون الكلام»: استمعت للشيخ إمام لأول مرة بدار تابعة لوزارة الثقافة التونسية عام 1977

الشيخ إمام زار تونس أربع مرات وكانت زيارته حدثا كبيرا في البلاد ومعها عبر عندنا من مرحلة شرائط الكاسيت الممنوعة إلى شخص حاضر بنفسه فوق خشبة المسرح

تونس سبعينيات القرن العشرين عرفت بالأصل حركة ثقافية وسياسية طلابية قوية.. هذه الحركة وجدت ضالتها في أغنيات الشيخ إمام

الشيخ إمام ترك أثرا ممتد بين الصغار الذين يحفظون أغانيه لليوم في تونس.. وبعد الثورة تكونت العديد من الفرق لإحياء تراثه

حاوره في تونس: كارم يحيى

خلال عقود بدأت منذ سبعينيات القرن العشرين انتقل خميس البحري، ابن “قابس” بجنوب تونس من “مجموعة البحث الموسيقي” إلى تأسيس”فرقة عيون الكلام”، وهو عنوان أول أسطوانة أنجزها مواطنه الهاشمي بن فرج، للشيخ إمام في باريس.

وفي هذا الحوار، الذي أجري بمقر سكني بشارع الحرية في حي “لافاييت” بالعاصمة تونس يوم 8 أبريل 2018، نستكمل مع “البحري” المولود عام 1962 محاولة فهم اكتشاف وتلقي التونسيين لأغنيات الشيخ إمام عيسى، ثم تأسيس فرق موسيقية غنائية تحمل تراثه لليوم، وجيلا بعد جيل. 

ويستكمل هذا الحوار/ الشهادة، على نحو خاص، ما جاء بالحوار السابق مع نبراس شمام، مؤسس “مجموعة البحث الموسيقي”، ويزيد عليه بإطلالة على فرقة “عيون الكلام”. 

من عمر 16 سنة

*متى وكيف اكتشفت الشيخ إمام؟

ـ منذ عقد السبعينيات من القرن العشرين. وكان عمري حوالي 16 أو 17 سنة. كنت وقتها في المعهد الثانوي ( المدرسة الثانونية) بقابس ومن الناشطين في صفوف اليسار بتونس بصفة عامة، ودون الانتماء إلى تنظيم ما. كما كنت نشطا على أصعدة نوادي السينما والثقافة والمسرح وقتها. وكان هذا في مدينة قابس التي عرفت حركة ثقافية، تأثرت شخصيا بها وأنا مازلت في مرحلة التعليم الثانوي. وكنت وأنا في هذه المرحلة عضوا بهيئة نادي السينما بقابس، والذي يعرض أفلاما من كل حدب وصوب ويناقشها. كما كان بالمدينة نفسها نادي للسينمائيين الهواة ينتج أفلاما قصيرة، ويتبع “الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة”، والتي تقيم للآن المهرجان الدولي لفيلم الهواة بمدينة “قليبية”.

والحقيقة كانت في هذا السنوات البعيدة بقابس حركة ثقافية لافتة. وإلى جانب ما سبق، عاصرت في السبعينيات وجود ناديين اثنين للمسرح (واحد باسم آفاق والآخر البحوث المسرحية)، بالإضافة إلى نادي ثالث لهواة التصوير الشمسي. كما كانت مدينة “قابس” عاصمة الولاية وبنفس الاسم تشهد تظاهرات كبيرة سنوية في أيام حقوق الإنسان والأرض، وكذا تظاهرة الشاعر والأديب من أبناء الجهة أحمد اللغماني.

وبصفة عامة كان في هذه النوادي الثقافية بقابس نزعة يسارية تقدمية ومتحررة من الولاء للسلطة وهيمنتها. وكانت أنشطتنا منفتحة على كل ما هو “ثقافة بديلة”. وبالمقابل لم تكن وسائل الإعلام التونسية من إذاعة وتلفزيون وصحف مفتوحة أمامنا. ولكن حتى في مهرجانات وزارة الشئون الثقافية الرسمية ظل هناك هامش متاح خلال سنوات الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة. واستمر هذا الهامش لسنوات في زمن خلفه “بن علي”. وتحديدا خلال أول عامين من حكمه ( 88 و1989)، حدث قدر من الانفتاح حتى عن ذي قبل. ثم جاء تضييق أشد من عهد “بورقيبة”.

وخلال هذه الانشطة والتظاهرات لنوادي “قابس”، تعرفت على أغاني الشيخ إمام. كانت هذه التظاهرات تشهد بث أغنيات له مسجلة على أشرطة كاسيت. وعرفت لاحقا أن مثقفين تونسيين يقيمون في باريس جاءوا بها، مثل الهاشمي بن فرج، وتوفيق الجبالي، وأنور المعلا. وهذا قبل أن يقوم “الهاشمي” بالذهاب إلى القاهرة وتسجيل أغنيات للشيخ إمام بطريقة احترافية ونقية، وكي تصدر في أسطوانة من باريس. والغريب أنني ربما استمعت للشيخ إمام للمرة الأولى في دار ثقافة قابس بين 77 و1978. ومع أن شرائط كاسيت أغانيه لم تكن تباع في الأسواق، أو يجرى الترويج لها علنا. وكان يجرى تداولها بالأساس بين أوساط المثقفين في “قابس”.

إمام أولا ثم مارسيل خليفة

*وهل تتذكر أغنيات سياسية ملتزمة أخرى تعرفت عليها في سنوات الصبا بـ”قابس”؟

ـ كانت أول أغنيات سياسية أتعرف إليها هي للشيخ إمام. وبعدها بفترة قصيرة تعرفت على أغنيات الفنان اللبناني مارسيل خليفة. وبالنسبة للأخير كانت أغنياته حينها تباع شرائطها تجاريا في تونس كلها. وربما لأنها ليست صدامية في كلماتها، ولأنها غنية أكثر في استخدام الآلات والتوزيع الموسيقي إذا ما قورنت بأغنيات إمام، والتي تعتمد فقط على العود وآلة إيقاع يعزف عليها محمد علي.

لكن أساس الأغنية السياسية الملتزمة عند القيام بغنائها في تونس ظل هو الشيخ إمام. وعلى سبيل المثال، بدأت مجموعة إيمازيغن التونسية بغناء أغنيات الشيخ إمام، وليس بـ مارسيل خليفه. وهذا لم يمنع من قيام فرق غنائية لاحقة لـ “إيمازيغن” بالبدء بالغناء للإثنين معا في تونس السبعينيات. وبالطبع كان هناك في هذه السنوات أغنيات سياسية ملتزمة للتونسيين الهادي قلة، وحمادي العجيمي.

تأسيس بدون ترخيص أو مقر

*وماذا عن ذكرياتك مع “مجموعة البحث الموسيقي”؟

ـ تأسست المجموعة حوالي عام 1980 بعنوان “مجموعة البحث الموسيقي بقابس”، وبعد فترة تم حذف كلمة “قابس ” من اسمها. ولم أكن بين المؤسسين حيث كنت مازلت صغيرا. ولكنني أتذكر أن هؤلاء المؤسسين كانوا خمسة ناشطين في مجال الموسيقى وهم؛ نبراس شمام، والشقيقان خالد وآمال الحمروني، وابن عمهما شكرى الحمروني، وتوحيد العزوزي. وكان مع هؤلاء الخمسة أيضا أصدقاء آخرين بدأوا هواياتهم في مجال المسرح. وكلهم كانوا من أهل “قابس”. وعند التأسيس مازالوا تلاميذ أو طلبة ثانوي أوبالجامعة. وكان تأسيس هذه الفرقة بدون ترخيص أو مقر، ونحو 90 في المائة من عروضها من أغنيات الشيخ إمام.

وأتذكر أن أول حفل للمجموعة أقيم في معهد ثانوي (مدرسة ثانوية) بـ”قابس”، في “ليسيه ميكس”.. أي معهد مختلط يضم بناتا وبنين. وجرى العرض الثاني في “دار التنمية ” التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية بـ”قابس”. وكان في كل هذه المؤسسات أماكن أو مقرات للأنشطة والعروض الفنية.

ثم امتد نشاط “المجموعة” إلى الجامعات. وبدأ من المدرسة الوطنية للمهندسين في “قابس” (بمثابة معهد عالي). ومن هناك امتد لجامعات مدن صفاقس وسوسة وتونس العاصمة. وجرت الحفلات بالأساس في المطاعم أو المبيتات الجامعية ( أماكن للاقامة والنوم للطلبة). وسريعا ما قامت فروع اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان باستضافة حفلات لمجموعة البحث الموسيقي.

فضل حركة طلابية قوية

*وهل حدثت تضييق من السلطة حينها على هذه الانشطة؟

ـ جرت هناك محاولات في هذا الاتجاه. لكن الحركة الطلابية في الجامعات كانت قوية، وأشبه بدولة داخل الدولة. وهذا إلى حد أن الطلاب المنتمين للحزب الحاكم حينها لم يكن يجرؤون على إقامة أنشطة باسم هذا الحزب في الجامعات، أو الإعلان عن انتمائهم له داخل الجامعة.

ومع هذا كان اتحاد طلبة تونس (اليساري) في هذه الفترة مازال مجمدا ومحظورة أنشطته داخل الجامعات. وبالتالي لم يكن هناك أي علاقة بين فرقة “مجموعة البحث الموسيقي” وفعالياتها بالجامعات وبين اتحاد طلبة تونس. 

وأتذكر أن هذه الأنشطة الغنائية جرت بمبادرات من الطلاب أنفسهم الدارسين بصفة عامة أو المقيمين داخل المبيتات الجامعية خصوصا . هم كانوا من أنفسهم وبدون تنظيم من اتحاد طلابي لهم يستدعون فرقتنا. وهكذا كانوا ينشطون وبشكل غير رسمي مع انتمائهم غير الرسمي أو غيرالمعلن لاتحاد الطلبة اليساري. ووقتها كان يطلق عليهم “هياكل طلابية مؤقتة”.

وأصبحت سادسهم

*وكيف انضممت أنت إلى المجموعة؟ 

ـ فعليا حدث هذا في غضون عام 1983. في هذا العام صعدت إلى الركح (خشبة المسرح) معهم، وعزفت على آلة الناي. وكانت “مجموعة البحث الموسيقي” تقتصر من قبل على عود وإيقاع (دربكه). وعلى كل حال، كانت المجموعة وظلت إلى سنوات بعدها تعتمد على الغناء الجماعي. لم تعتمد على مغن فرد رئيسي. هكذا كان يغني الخمسة معا، وأصبحت سادسهم.

وانضمامي جاء بعدما حصلت على البكالوريا (معادل الثانوية العامة)، وتحولت إلى الجامعة في مدينة تونس عام 1981 لدراسة الهندسة. وكان أعضاء المجموعة كلها يدرسون أيضا في جامعات مدينة تونس، عدا “نبراس شمام” الذي كان يتعلم في جامعة صفاقس.

وإلى جانب دراستي بالجامعة حينها، توجهت لدراسة الموسيقى بمعهدها بنهج “زرقون” في المدينة العتيقة بتونس العاصمة. وتخصصت في دراسة الناي في السنة الدراسية 81 ـ 1982. كنت أدرس بهذا المعهد بعد السادسة مساء، وبعد الانتهاء من دراسة الهندسة. ودافعي الأساسي لدراسة الموسيقى على هذا النحو هو انضمامي لـ”مجموعة البحث الموسيقى” والسعي لتطوير أدائها. وفي هذا التوقيت كان جميع أعضاء الفرقة يدرسون بنفس المعهد، لكن أحدا منهم لم يكمل وينجز الحصول على دبلوم الموسيقى إلا أنا. وهذا جاء بعد خمس سنوات من الدراسة هناك. 

وفي المحصلة كنا من جيل واحد تقريبا والفروق في السنوات محدودة بيننا. وكنا نجرى التدريبات على الغناء في منازلنا بالعاصمة. 

وخلال فترة ما لجأنا للتدريب في دار ثقافة تتبع الوزارة تحمل اسم “محمد الخامس”. وتشغل “مدينة الثقافة” اليوم موقعها في شارع محمد الخامس بوسط العاصمة. ويمكنني اليوم ملاحظة أن تونس كان بها هامش ما للحركة. وهو هامش منتزع بالطبع بجهود ذاتية من جانب المبدعين، وأيضا نتيجة الفروق الشخصية بين المسئولين عن الأنشطة الثقافية الرسمية.

عبر موجات الإذاعات

 *وكيف كان موقف الإذاعات التونسية من هذا النوع من الغناء؟

ـ كان أول من استدعانا (استضافنا) هو عبد الكريم قطاطا (تنطق بالتونسية جطاطا) بالإذاعة الرسمية لصفاقس، وفي عام 1982. وتم البث على الهواء. ثم استدعانا الحبيب بلعيد في إذاعة تونس الدولية ومقرها بالعاصمة بعدها في أكثر من مناسبة. ثم الحبيب جغام في إذاعة “المنستير”. وبثت هذه الإذاعات لنا أداءنا لأغنية “شيد قصورك” وغيرها للشيخ إمام. وجاء هذا كله مع النصف الأول من الثمانينيات.

*ماهي أكثر أغنيات الشيخ إمام شعبية التي قمتم بأدائها في عقد الثمانينيات عند التونسيين كما لاحظت وتتذكر؟

ـ “شيد قصورك، وإلى جانبها أغنيات: “إصحي يامصر” و”يامواويل الهوى”. وهذه الأغنيات الثلاث أراها الأكثر شعبية عند “مجموعة البحث الموسيقي “. ثم لاحقا لفرقة “عيون الكلام” التي انتقلت إليها.

وإلى جانب أغاني إمام، كنا نغني أغانيات سياسية ملتزمة لتوانسة مثل “ياشهيد الخبز” للأزهر الضاوي، و”وابور زفر ” للهادي قلة. وكذا غنينا أغنيات لمجموعة “إيمازيغن” مثل “لا نطيق الذلة”.

*وبالنسبة للأغنيات الخاصة بمجموعة البحث الموسيقى.. كيف كانت؟

ـ من البداية وجدنا أغنيات خاصة بنا من كلمات أصدقاء هنا بتونس كالشعراء؛ آدم فتحي، وعبد الجبار العش، وكمال غالي. وإلى جانب هؤلاء، غنينا من أشعار الشاعر العراقي مظفر النواب، والشاعر الفلسطيني محمود درويش. وكان الملحن الرئيسي للمجموعة هو نبراس شمام. أما بقية أعضاء المجموعة فيضعون بعض “الرتوش” على هذا اللحن أو ذاك.

ثلاث مراحل

*وكيف سارت الأمور بعدها؟

ـ يمكننا أن نقسم تاريخ “مجموعة البحث الموسيقي” إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى دامت حتى عام 1987، حيث تقدمنا بأغنية “هيلا هيلا يامطر ” للشاعر آدم فتحي، وتلحين نبراس شمام، وأداء آمال حمروني، لمسابقة جائزة تنظمها إذاعة فرنسا الموجهة للخارج، وبخاصة للدول الفرانكفونية. وتقدمنا وقتها كأول فرقة غناء تونسية تشارك في هذه المسابقة. وحصلنا على الجائزة الأولى كأفضل أغنية مستمدة من تراثنا التونسي. وكانت المسابقة تجري في الكاميرون. وهكذا بدأت مرحلة جديدة لها إشعاع أكبر للمجموعة. وظهر أن إشعاع “مجموعة البحث الموسيقي ” بين أقرانها من فرق الغناء السياسي الملتزم هو الأكبر على مستوى المهرجانات والإعلام وفضاءات اتحاد الشغل. وهذا مع أن فرقا أخرى كانت قد سبقتنا في التأسيس والظهور حاملة لواء الأغنية السياسية الملتزمة. وأقصد تحديدا فرق “إيمازيغن” وخماسي دار ثقافة “ابن رشيق” بالعاصمة و”الحمائم البيض”.

والمرحلة الثانية بين عامي 87 و1992، وحيث جرى استدعاؤنا للمهرجانات المحلية التي ترعاها وزارة الشؤون الثقافية. وكنا نغني في هذه المهرجانات أيضا للشيخ إمام. كما استدعانا تلفزيون الدولة وإذاعاتها. وأصبح لنا إشعاع أكبر. وحينها اشتهرنا بأننا مجموعة يسارية، لكنها لاتنتمي إلى حزب أو تنظيم سياسي. لكن وبشكل فردي كان أربعة من إجمالي ستة أعضاء، هم كل الفرقة، ينتسبون إلى حزب العمال الشيوعي التونسي اعتبارا من تأسيسه في عام 1986.

أما مع المرحلة الثالثة حدث التضييق الأمني. وهذا بعدما جرى اعتقالي وتوحيد العزوزي ـ وهو زوج آمال الحمدوني ـ ضمن مجموعة تابعة لحزب العمال الشيوعي في “قابس” خلال عام 1992. وشمل التضييق المفروض على الفرقة الغنائية أيضا مراقبة أمنية لـ”آمال”. ولذا توقف نشاط “مجموعة البحث الموسيقي “تقريبا. في البداية، مررنا بفترة انخفض فيها نشاطنا بين عامي 92 و1995. ثم توقفنا تماما حتى عام 2003. واخذت و”توحيد” حكما بالسجن لمدة عام جرى تنفيذه بين 92 و1993. وبصفة عامة عرفت هذه الفترة سد كل النوافذ في تونس أمام الأغنية الملتزمة. 

خلاف بعد العودة من التوقف 

*وكيف عدتم بعد التوقف؟

ـ هنا يتعلق الأمر أيضا بالشيخ إمام. فمع حلول الذكرى السنوية الثامنة لوفاة الشيخ، شهد فضاء مسرح “التياترو” بالعاصمة احتفالية بهذه المناسبة نظمها المخرج المسرحي توفيق الجبالي مع الهاشمي بن فرج، وكذا على سعيدان من فرقة “إيمازيغن، وهو بدوره يكتب ويلحن مستلهما التراث الموسيقي. وحينها جرى استدعاء “مجموعة البحث الموسيقي” للمشاركة في هذه المناسبة نظرا لارتباط المجموعة بتراث الشيخ إمام عند التونسيين. وهكذا اجتمعنا للمرة الأولى بعد توقف سنوات من أجل المشاركة. ومن وقتها أعدنا النشاط.

كنا أربعة حينها، وهم: “شمام” و”آمال” و”خالد” وأنا. وخلال عام واحد عملنا أربعة عروض فقط. لكننا بعد “التياترو” نظمنا عرضا كبيرا في المسرح البلدي بالعاصمة رعاه اتحاد الشغل. كما أقمنا عرضا آخر في مسرح “الجم” الروماني الأثري نظمه الحبيب بلعيد ضمن مهرجان هذه المدينة السنوي الشهير. 

ثم حدث بيننا داخل المجموعة خلاف بشأن أسلوب استمرار العمل. وكان جوهر الخلاف هو بين أن نواصل بنفس الآلات الموسيقية المحدودة التي انطلقنا بها أم نتوسع بالاستعانة بآلات أخرى غير العود والإيقاع والناي مع ضم عناصر تجيد اللعب على هذه الآلات. ونتيجة لهذا الخلاف، انقسمت المجموعة إلى اثنتين: واصل نبراس شمام بنفس الاسم “مجموعة البحث الموسيقي” وانفتح على آلات موسيقية جديدة مثل “الكمان” و”الجيتار”. ونشأت فرقة أخرى قمت بتكوينها مع آمال الحمروني باسم “عيون الكلام” في نهاية عام 2004. وكلا المجموعتين في الساحة لليوم. وبلغ عدد أعضاء الأولى ما بين 6 و10، بينما مجموعتنا 12 عضوا. وهكذا لاحقا توسعنا وتطورنا. وكل أعضاء “عيون الكلام” يقومون بالعزف، ولاحقا أدخلنا آلات “الأكورديون” و”التشيللو” و”الكونترباص”.  

ذكريات عن زيارات إمام

*والآن كيف تتذكر زيارات الشيخ إمام لتونس؟

ـ للمرة الأولى عندما جاء في عام 1984، تمكنت من حضور العرضين الكبيرين في ملعب “قبة المنزه” الرياضية. ولليوم يعلق بذهني أن الملعب كان ممتلئا عن آخره. وربما تجاوز العدد العشرة آلاف في كل حفلة. هكذا قدرت الأمور حينها. وهو جاء ومعه محمد علي، عازف الأيقاع بمفرده، لكنني أتذكر أن “كورسا” كاملا من التونسيين كان فوق المسرح معه.

وكانت نوعية الجمهور تضم طلبة ومثقفين، وعددا كبيرا من الشباب بصفة عامة. ونجاح هذه الحفلات يكمن في أنها اجتذبت أناسا عاديين إلى جانب النشطاء السياسيين والمثقفين اليساريين والطلبة. بالفعل كان هناك جمهور واسع متنوع.

وكانت هذه الزيارة حدثا كبيرا في تونس. ومعها عبر الشيخ إمام عندنا من مرحلة شرائط الكاسيت الممنوعة إلى شخص حاضر بنفسه فوق خشبة المسرح، وفي أكبر قاعة بتونس. ولذا كان شغف الناس كبير في أن يروه بأنفسهم بعدما استمعوا له من خلال شرائط التسجيل.

*هل يعود هذا إلى أنها كانت سنوات انفتاح من السلطة السياسية مع أنها كانت الأخيرة للرئيس بورقيبة؟

ـ في ظني لم يكن الأمر على هذا النحو. بالأساس كان اتحاد الشغل قويا جدا والبلد يخرج من انتفاضة الخبز جانفي (يناير) 1984. البلد كانت على نار ليست هادئة، والاتحاد خارج من تحركات احتجاجية كبرى. وأعتقد أن السلطة جرى إجبارها على السماح للشيخ إمام بالدخول إلى تونس. هي رفضت في البداية، وأعادته من المطار، لكن ردود الفعل القوية جعلتها تتراجع بعد فترة ليست بالطويلة.

*وهل تعرفت عليه بشكل مباشر وقتها؟

ـ أنا شخصيا حضرت مع بقية أفراد فرقة “مجموعة البحث الموسيقي ” الحفلتين في “قبة المنزه”. وكان لنا بالأصل علاقات مع اتحاد الشغل الذي استضافه في هذه الزيارة، وإن كانت بيوت أصدقائنا تخاطفت الشيخ إمام للإقامة بها. هم لم يتركوه يقيم كل أيامه في الفندق.

وفي منازل الأصدقاء تعرفت عليه بشكل مباشر، وأغلبهم طلبة جامعة أو من أعضاء اتحاد الشغل. وهو استمع إلى أغنيات “مجموعة البحث الموسيقي” في منازل أصدقاء في “صفاقس” و”قفصة” و”القيروان” ومدن أخرى زارها. وبالطبع في “قابس” حيث غنى في ساحة مدرسة ابتدائية (مدرسة ابن عطية في شارع بورقيبة بالمدينة).

كما صحبه نبراس شمام وخالد الحمروني كـ”كورس” في حفلاته وعروضه بالعديد من المدن، وكذا العاصمة. 

*هل قام بغناء أغنيات خاصة بفرقتكم؟

ـ لا .. لكنه لحن لآمال الحمروني خمس أغنيات منها “إصحي إصحي طال النوم” و” قهرزاد” و”ياولدي” من كلمات الشاعر آدم فتحي. وهو بالطبع من لحن “لفتحي” نشيد الاتحاد (اتحاد الشغل).

*كيف كان انطباعه هو عن زيارته لتونس؟

ـ هو كان منبهرا باستقبال وحب التونسيين، ولاكتشافه كيف هو عليه إشعاع أغانيه، وعند جمهور كبير في تونس. وظل لاحقا في مقابلاته معنا يحدثنا عن هذا الانطباع. وكان يتذكر كل الأماكن التونسية التي زارها. وأظن أن تونس ظلت لها مكانة خاصة عنده، وفي سياق جولته خارج مصر، والتي شملت قبلها الجزائر وبعدها دولا عربية عديدة كلبنان وسورية.

*كيف تطورت العلاقة بعدها مع الشيخ إمام؟

ـ بعدما عاد إلى باريس، ذهبنا إليه أنا ونبراس شمام. وكنا لا نفارقه طوال اليوم خلال إقامته بمنزل الصادق بوزيان هناك. وغنينا معه في تلفزيون ناطق بالعربية في باريس. كان “البلاتو” معد أصلا لشخصين، هو محمد علي، لكنه طلب تجهيزه ليسع أربعة. ولنكن معهما.

أربع زيارات وليست ثلاثة فقط

*المصادر المطبوعة والشفاهية متضاربة حول عدد زيارات الشيخ إمام لتونس ..هل هي ثلاث أو أربع؟

ـ هو زار تونس ثلاث مرات أخرى بعد زيارة عام 1984. هناك زيارة نظمتها لجنة حي “المروج” المنتخبة قرب العاصمة. وهذه اللجان سمحت بها الدولة البوليسية في نحو عام 1986 لتكون بمثابة تنظيم ذاتي للسكان، وقبل أن تحولها إلى غير ما أعلنت عنه وللتجسس على الناس والوشاية بهم. وفي فترة السماح تلك استضافته لجنة سكان حي “المروج لنحو عشرة أيام. وخلالها قدم عروضا عديدة في المروج” والعاصمة ومدينة القيروان. وفي الأخيرة قدمنا معه عرضا مشتركا بدار الثقافة هناك نظمه فرع رابطة حقوق الإنسان بالقيروان. وهو ما تكرر أيضا بدار ثقافة مدينة “سوسة”. وإجمالا كنا معه في ثلاث حفلات خلال هذه الزيارة وصحبناه في أغانيه.

ثم هناك زيارة في عام 1989، نظمها “الاتحاد العام التونسي للطلبة” الإخواني. والشيخ إمام لم يكن على علم بطبيعة هذا الاتحاد. وهو نفسه قال هذا في حوارات إذاعية بتونس ومصر. وخلالها عمل عروضا غنائية، لكننا لم نتمكن من مقابلته لأنه كان محاصرا منهم.

*كيف كان هذا؟ وأين كانت هذه العروض ؟

ـ لا أتذكر أين كانت. لكن ما أتذكره أننا ذهبنا لمقابلته وطلبنا لقائه فمنعونا.

أما الزيارة الأخيرة فكانت في عام 1991 على الأرجح عندما عاد اتحاد الشغل واستضافه. ووقتها تقابلنا معه. ولكن كنا في فترة انحسار نشاط فرقة “مجموعة البحث الموسيقي” نتيجة الملاحقات البوليسية.

نوادي تحمل اسمه بعد الثورة

*وماهو الجديد بعد الثورة؟

ـ في العام الأول 2011 جرى استدعاؤنا لمهرجان قرطاج (وهو الأهم والأكبر والأشهر في المهرجانات التي ترعاها سنويا في الصيف وزارة الشئون الثقافية التونسية). لكن هذا الاستدعاء لم يتكرر. ولدينا فكرة في فرقة “عيون الكلام”أن نقوم بتسجيل تراث الشيخ إمام بأصواتنا وبقدر ما نستطيع. وبصفة عامة بعد الثورة هناك هامش أكبر أمام التونسيين على مستوى حرية التعبير ونقد السلطة.

*وماذا بخصوص الشيخ إمام بعد الثورة؟

ـ هو ترك أثرا ممتد بين الصغار الذين يحفظون أغانيه لليوم في تونس مع أنهم لم يروه أو يعاصروه. وبعد الثورة تكونت العديد من الفرق لإحياء تراث الشيخ إمام. وعلى سبيل المثال، نشأت نوادي تحمل اسم الشيخ إمام في دار ثقافة “ابن رشيق” الشهير بوسط العاصمة وبحي “المروج”. وآخر في فضاء “مسار” الثقافي في شارع “باب بنات” بوسط العاصمة أيضا. والأخير ينظم مهرجانا سنويا باسم الشيخ إمام.

وأظن بالنسبة لإتاحة أغنيات الشيخ إمام لم يختلف الأمر بين قبل وبعد الثورة. لكن بلاشك أصبح بث أغانيه في إذاعات الدولة أكثر حضورا. سقطت كل القيود. ويمكنني القول بأن العام الأول بعد الثورة كان بث أغنيات الشيخ إمام بخاصة والأغنيات السياسية الملتزمة عامة في ذروته. وسرعان ماتراجع البث ليقتصر في الأغلب على مناسبات بعينها، وتتعلق بالقضية الفلسطينية مثلا.

وجانب آخر، يتعلق بفرقة “عيون الكلام”. فبعد الثورة ذهبنا إلى معرض القاهرة للكتاب عام 2012. استدعونا للمرة الأولى وعرضنا مرتين هناك. ومع كل أغنية خاصة بنا قمنا بغناء اثنتين للشيخ إمام. وما أدهشنا أن العديد بين الحضور بدا وكأنه يستمع لعدد من أغاني الشيخ إمام للمرة الأولى. وبصفة عامة حملت سنوات ما بعد الثورة فرصة أمام فرقة “عيون الكلام” وأيضا “مجموعة البحث الموسيقي” للسفر وتقديم عروض خارج تونس على نحو لم يكن قبلها.

أغنيات يرددها جيل بعد جيل

*في النهاية بماذا تفسر هذا التعلق بالشيخ إمام في تونس ومنذ السبعينيات لليوم؟

ـ تونس سبعينيات القرن العشرين عرفت بالأصل حركة ثقافية وسياسية تلمذية وطلابية قوية. وهذه الحركة وجدت ضالتها في أغنيات الشيخ إمام. واستطيع القول إنني ومنذ استمعت إليه للمرة الأولى في عقد السبعينيات وحتى الآن، وسواء أكنت متلقيا أو مغنيا مشاركا، لم أجد اختلافا في تلقي الناس هنا لإمام. وتظل أغنياته الأكثر شعبية جيلا بعد جيل هي: “شيد قصورك” و”البحر بيضحك ليه” و” وأنا أتوب عن حبك” و”وهبت عمري للأمل ولا جاشي” و”هما مين وإحنا مين”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحوار القادم والخامس مع:

“جميلة”.. أرملة المغني الثوري التونسي الفنان الهادي قلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *