في يوم الأب.. نعيد نشر مقال علاء عبدالفتاح «نصف ساعة مع ابنى خالد»: يحرمنى السجن من خالد إلا نصف ساعة
بمناسبة يوم الأب الذي يتم الاحتفال به في 21 يونيو من كل عام وتزامنا مع اليوم الـ81 من إضراب الناشط السياسي علاء عبدالفتاح في محبسه، يُعيد “درب” نشر مقاله عن أول مرة يرى فيها نجله خالد الذي وُلد إبان فترة حبسه على خلفية أحداث ماسبيرو الشهيرة في أواخر أكتوبر 2011 حتى ديسمبر من العام نفسه.
وتضامن مطلع الأسبوع الجاري عدد من نجوم هوليوود مع علاء عبدالفتاح لحث السلطات المصرية للإفراج عنه، وذلك في مقطع فيديو نشرته شقيقته منى سيف، وقرأوا مقتطفات من من مقال علاء “نصف ساعة مع خالد”.
وألقت قوات الأمن القبض على علاء عبد الفتاح في سبتمبر 2019 بالتزامن مع أحداث 20 سبتمبر، وجرى حبسه احتياطيا على ذمة القضية رقم 1365 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا.
وفي 20 ديسمبر2021، قضت محكمة جنح أمن الدولة بسجن المدون والناشط علاء عبد الفتاح خمس سنوات بعد إدانته بـ”نشر أخبار كاذبة”، كما حكمت على المدون محمد إبراهيم والمحامي محمد الباقر بالسجن أربع سنوات في نفس الاتهامات.
ويشار إلى أنه قبل سنوات من هذا الحكم وبالتحديد في ديسمبر 2013، ألقت قوات الأمن القبض على علاء عبد الفتاح وأحيل للتحقيق في القضية التي عرفت إعلاميا باسم “أحداث مجلس الشورى”، والتي قضى على أثرها حكما بالسجن 5 سنوات، حتى مارس 2019 قبل 6 أشهر من إلقاء القبض عليه مجددا.
وإلى نص المقال:
شاءت الأقدار أن يرتبط حبسى بالقضاء الطبيعى: اعتقلت فى عام ٢٠٠٦، مع خمسين زميلا من حركة كفاية، ومئات لا تحصى من الإخوان المسلمين، بسبب تضامننا مع انتفاضة القضاة ضد مبارك ونظامه. اعتصمنا لأجل استقلال القضاء والإشراف القضائى الكامل على الانتخابات، فحبستنا نيابة أمن الدولة شهرا ونصف الشهر.
والآن، فى زمن الثورة، حبستنى النيابة العسكرية، عقابا على إصرارى على المثول أمام قاضيَّ الطبيعى، وربما أيضا عقابا على دورى فى مذبحة ماسبيرو، الذى ارتبط بالقضاء الطبيعى أيضا، فوقفتنا فى المستشفى القبطى لضمان تحقيق جاد من النيابة العامة، وإصرارنا على تشريح دقيق من الطب الشرعى، هذه الوقفة هى السبب فى إدراج اسمى فى محاضر تحريات الشرطة والمخابرات العسكرية.
مع تساقط الشهداء مجددا فى ميدان التحرير، انتزعنا انتصارا فى قضية ماسبيرو، لكنه انتصار بطعم الجنزورى، فالقضية حولت بالفعل للقضاء المدنى ولكن بدلا من مثولى أمام قاضى تحقيق مستقل وجدت نفسى مجددا أمام نيابة أمن الدولة العليا.
فى زمن المخلوع كنا نرفض التحقيق أمام نيابة أمن الدولة لأنها قضاء استثنائى، لكن فى زمن الجنزورى رضينا بها على أساس أن الاستثنائى المدنى أفضل من الاستثنائى العسكرى. ولأنه انتصار جنزورى لم أفرح، بالعكس؛ عدت من النيابة فى حالة نفسية سيئة جدا، ومر علىّ أصعب أسبوع فى السجن، فما سبق كان نضالا ضد المحاكمات العسكرية، والنضال يلهمك الصبر ويسهل الصمود، لكن ما معنى استمرار حبسى بعد تحويل القضية؟ ما الهدف من صمودى؟
طمأننى المحامون أن استئناف قرار الحبس الاحتياطى سيكون أمام قاض طبيعى: أخيرا سأمثل أمام القاضى الذى تحملنا الحبس والسحل لإعلاء مقامه ومكانته، والمحافظة على هيبته وسلطته واستقلاله.
لم يكن يشغلنى وقتها إلا خروجى لحضور ولادة ابنى الأول، خالد. نصحنا الطبيب بولادة قيصرية مبكرة حرصا على صحة منال، ومع كل تجديد للحبس خاطرنا بتأجيل الولادة على أمل أن ننتصر وأحضرها.
خالد تضامن معنا؛ أضرب عن الخروج رغم مرور التسعة أشهر المقررة له، وانتظر أملنا الأخير: الاستئناف أمام القاضى الطبيعى. أملنا كان كبيرا، فلا يوجد سبب لحبسى أصلا، فأنا برىء حتى تثبت ادانتى، وعودتى من السفر خصيصا للمثول أمام النيابة دليل على أنى لم أهرب، وأصلا التهم الموجهة إلىّ واضح أنها ملفقة، والتحريات واضح أنها غير جادة، وشهود الزور شهاداتهم متضاربة، والأدلة قدمناها وطلبنا سماع شهود لإثبات عدم تواجدى فى مسرح أحداث ماسبيرو أصلا وقت المجزرة، فالحق بين.
خالد عمل اللى عليه وانتظر القاضى، ترافع المحامون، وختموا مرافعتهم بتقدم منال أمام القاضى وطالبت بإخلاء سبيلى لحضور الولادة، لكن قاضيّ الطبيعى نظر لها نظرة غريبة. أظننى عرفت حين رصدت تلك النظرة أنه لن ينصفنى.
انهارت معنوياتى تماما، وغرقت فى هلع وقلق على خالد وأمه. لأول مرة صعبت عليا نفسى، حبسى صار ضربا من العبث، ومخى وقلبى لا حمل لهما على العبث. أفهم لماذا حبستنى نيابة أمن الدولة.
ولكن لماذا حبسنى القاضى؟ ما العداوة بينى وبينه؟ وما مصيرى الآن؟ هل سأتحول لواحد من آلاف الكائنات البائسة بسجن طرة، تحقيق؟ ننتظر شهورا ــ وأحيانا سنوات ــ حكم لا يأتى، من أيدى قضاة يقول لهم القانون إننا بريئون إلى أن تثبت إدانتنا ويقول لهم الدستور إن حريتنا وحقوقنا لا تقيد إلا بحكم قضائى ولكنهم لا يسمعون، فيستمر حبسنا ولا تنتهى قضايانا وينسانا العالم الممتد خلف الأسوار؟ كل من فى السجن باهت وبائس، حتى القطط شاحبة؛ حركتها بطيئة، وعيونها منطفئة منكسرة.
● نمت مقتنعا أن هذا مصيرى، أمامى نصف عام على الأقل قبل أن تحال القضية للمحكمة وشهور من التأجيلات قبل البراءة، كيف سأصمد؟
ــ ثم جاء خالد! فى عصر اليوم التالى وصلتنى رسالة تطمئننى على سلامته وعلى صحة منال، وصورة. حب من أول نظرة، حب من أول صورة. تبدد السجن وأسواره وقططه، تبدد كل شىء إلا حبى لخالد وفرحتى بقدومه. ونمت مرتاح البال.
فى يومه الثالث زارنى خالد. كانت مفاجأة. توقعت ألا يسمح الطبيب بزيارة إلا بعد أسبوع على الأقل. زارنى خالد لمدة نصف ساعة. حملته فى يديا عشر دقائق.
يا الله! إزاى جميل كده؟ حب من أول لمسة! فى نصف ساعة أعطانى فرحة تملأ السجن أسبوعا كاملا. فى نصف ساعة أعطيته محبة تمنيت أن تحيطه أسبوعا كاملا. فى نصف ساعة تغيرت وتغير الكون من حولى. أفهم الآن لماذا يستمر حبسى: أرادوا أن يحرمونى من الفرحة. أفهم الآن لماذا سأصمد: حبسى لن يمنع محبتى، سعادتى مقاومة، أن أحمل خالد لدقائق نضال.
لم أقاوم وحدى لحظة؛ يشاركنى دائما متضامنون. لذا لم أسعد وحدى بخالد، غمرتنى سعادة المتضامنين. اعتدت تلقى تويتات فى صورة برقيات فى محبسى: تهانى بعيد الأضحى وبعيد ميلادى، وصلتنى أيضا تهانى بعودة الثوار للميدان، لكن خالد حاجة ثانية! كم رهيب من البرقيات، أغلبها من ناس لا أعرفهم وربما لن أتشرف بلقائهم أبدا، كتبوا ليعبروا عن فرحهم بقدوم خالد وحبهم له. كتبوا يعرفون أنفسهم، أسماء أفراد عائلاتهم، عنواينهم، وظائفهم، مدنهم، كتبوا أن لخالد عمو وطنط فى مئات البيوت فى كل مكان فى مصر.
للأسف لا يسمح لى بالاحتفاظ بالبرقيات، أقرأها مرة واحدة على عجل ثم تختفى، لن أتمكن من ترديد أسامى كل طنط وكل عمو لخالد، لكن محبتهم وصلت. نصف ساعة تلهمنى سعادة أعيش عليها أسبوعا. مجرد خبر قدومه يلهم أناسا لا يعرفوننا سعادة تدفعهم لإرسال برقيات لأب محبوس.
نصف ساعة لم أفعل فيها سوى النظر إليه، ما بالكم بنصف ساعة أغَيَّر له فيها، أو نصف ساعة أطعمه فيها، أو نصف ساعة ألاعبه فيها؟ ماذا عن نصف ساعة يحكى لى فيها عن مدرسته؟ نصف ساعة نتناقش فيها عن أحلامه؟ نصف ساعة نختلف فيها على نزوله المظاهرة؟ نصف ساعة يخطب فيها بحماسة عن الثورة وكيف ستحررنا كلنا؟ عن العيش والحرية والكرامة والعدالة؟ نصف ساعة أفتخر فيها أن ابنى راجل شجاع شايل مسئولية بلد قبل ما يصل لسن يشيل فيه مسئولية نفسه؟
● ما مقدار السعادة فى نصف ساعة كهذه؟ كآخر نصف ساعة قضاها أبو الشهيد مع ابنه؟
ــ يحرمنى السجن من خالد إلا نصف ساعة. أصبر لأننا سنقضى باقى ما كتب لنا من أنصاف ساعات معا. كيف يصبر أبو الشهيد؟
الشهيد خالد، فى قلوبنا خالد، فى عقولنا خالد، فى التاريخ خالد، وفى الجنة خالد. لكن هل يجلب خلوده السعادة لأبيه؟ قلبه سينفجر بمحبة ما بقى من العمر من أنصاف ساعات. هل يفرغ ما فى قلبه بحضن التاريخ؟ أنا أنتظر الإفراج وأصمد. ماذا ينتظر أبو الشهيد؟ أن يلحق بالخالد فى الجنة؟
تصورنا أن القاضى سينصفنا، فى ٢٠٠٦ هتفنا «يا قضاة يا قضاة خلصونا من الطغاة»، فحبسنى القاضى الطبيعى ليحرمنى من خالد. تصور أبو الشهيد أن الجندى الطبيعى سينصفه، وفى فبراير هتفنا «الجيش، والشعب، إيد واحدة»، فدهسنا الجندى الطبيعى ليحرمنا من الخالد.
البحث عن أسباب حبسى عبث. حبسى لن يعيد دولتهم. بالمثل سقوط أغلب الشهداء عبث، ربما قتلوا الشهداء فى البداية لوقف الثورة، لكن لماذا استمروا فى القتل بعد أن ثَبُت مرارا وتكرارا أن الثورة تستمر؟ بل يزيد القتل كلما اقتربوا من الهزيمة. أذكر جيدا ظهور القناصة يوم الجمال، جاءوا متأخرين بعد أن تبين أن الميدان سيصمد، كان قتلا لأجل القتل، بلا هدف استراتيجى: القتل فقط ليحرمنا من الخالد. عبث، فقتلنا لن يعيد دولتهم.
علينا أن ننتبه: هم لا يقتلوننا ليعيدوا دولتهم؛ هم يقتلوننا لأن القتل والحبس سلوك طبيعى فى دولتهم. نعم سلوك طبيعى، احنا بس اللى بنضحك على نفسنا. لم تخذلنا فقط شرطة دولتهم، ألم يشاركهم عمداء كلياتها فى دهس أولادنا؟ ألم تخذلنا مستودعات بوتجازها وأفرانها؟ ألم تخذلنا عبّاراتها وموانيها؟ ألم تخذلنا عجلة إنتاجها التى لا تبخل على المدير والمستشار بالملايين ــ حتى وهى متوقفة، وتستكثر على العامل والموظف الفتات وهى تدور؟
ألم يخذلنا اقتصادها الذى يغلق مصانع الغزل رغم تكدس القطن فى بيوت الفلاحين، ويشغل مصانع السماد رغم تكدس السموم فى الماء؟ ألم تخذلنا نوادى كرتها التى تترك جمهورها فريسة الأمن لو شجعوا بصخب وتتدخل لإنقاذ لاعبيها من المحاسبة حتى لو رفعوا سلاحا على أعزل؟ خذلتنا وتخذلنا كل مؤسساتها وكل قوى ومسئول قيادى فيها، وغدا سيخذلنا برلمانها ورئيسها.
لم أكن أتصور أن بقلبى محبة كالتى اندفعت مع ولادة خالد، كيف استوعب ما فى قلب أبو الخالد من الحزن؟ يا الله إزاى قاسية كده؟ أن تدفن ابنك لا أن يدفنك، هل هناك ظلم يفوق هذا؟ هل هناك اختلال للميزان أكثر من هذا؟ نضحك على أنفسنا ونفترض أنه حدث استثنائى ومن الممكن إصلاح تلك الدولة، لكن كل الشواهد انه حدث طبيعى ولا أمل إلا اسقاط تلك الدولة.
نعم لتسقط دولتهم. نخاف مواجهة الحقيقة، نخاف على البلد إن سقطت الدولة، لو أسقط الميدان الدولة ماذا يتبقى لنا؟ مصر ليست الميدان.
صحيح مصر ليست الميدان، لكننا لم نفهم الميدان. ماذا نفعل فى الميدان؟ أبدا، نلتقى، نأكل، ننام، نتناقش، نصلى، نهتف، نغنى، نبذل الجهد والخيال لتوفير احتياجاتنا، نفرح ونهلل فى زفاف، نحزن ونبكى فى جنازة، نعبر عن أفكارنا وأحلامنا وهويتنا، نتشاجر أحيانا، نحتاس ونرتبك ونتخبط بحثا عن المستقبل، ونقضى اليوم بيومه لا ندرى ما يخبئه لنا المستقبل.
أليس هذا ما نفعل خارج الميدان؟ لا شىء استثنائيا فى الميدان إلا لَــمِّتنا. خارج الميدان نتصور أننا نفرح فى الزفاف لأننا نعرف العروسين، فى الميدان فرحنا لزفاف أغراب واحتفلنا. خارج الميدان نتصور أننا نحزن فى الجنازة لأننا نعرف الفقيد، فى الميدان حزننا على أغراب وصلينا عليهم.
لا شىء جديدا فى الميدان إلا أننا نحيط أنفسنا بمحبة الأغراب. لكن محبة الأغراب ليست حكرا على الميدان: مئات أرسلوا لى برقيات محبة لخالد من خارج الميدان، بعضهم كتب عن نفسه أنه من حزب الكنبة. ملايين حزنوا على الشهيد فى كل بيت فى مصر.
نفرح بالزفاف لأنه زواج. نحزن فى الجنازة لأنه الموت. نحب المولود لأنه إنسان ولأنه مصرى، ينفطر قلبنا على الشهيد لأنه انسان ولأنه مصرى. نذهب للميدان لنكتشف أننا نحب الحياة خارجه، ولنكتشف أن حبنا للحياة مقاومة. نجرى نحو الرصاص لأننا نحب الحياة، وندخل السجن لأننا نحب الحرية.
البلد هو ما نحب وما نحيا، ما يفرحنا وما يحزننا. لو سقطت الدولة لن يبقى فقط الميدان، ستبقى محبة الغريب وكل ما دفعنا للميدان وكل ما تعلمناه فى الميدان.
الحب خالد والحزن خالد والميدان خالد والشهيد خالد والبلد خالد، أما دولتهم فلساعة، ساعة فقط.
أبو خالد
صباح الجمعة 9 12 2011
زنزانة 6/1
عنبر 4
سجن طرة – تحقيق
** نُشر هذا المقال يوم الإثنين 19 ديسمبر 2011 بجريدة الشروق وهو ضمن مجموعة من المقالات التي ضمها كتاب علاء عبدالفتا “أنت لم تهزم بعد” الذي طرحته دار “فيتزكارالدو إيديشنز” في أكتوبر 2021.